الطريق من الحليب الأبيض المنساب إلى الأجبان ذات المذاقات والأنسجة المتنوعة تمر بعمليات معقدة من التفكيك والتركيب
يكادُ لا يمرّ أسبوع لا يتدافع الناس فيه نحو الحليب ومنتجاته المحبوبة. وسواءٌ أردتم تحضير كعكة بالجبنة البيضاء أو فطيرة بالقشقوان والشيدر، أو رغبتم في وضع أجبان البري والروكفور والغاودا على مائدة الطعام كإضافةٍ مميّزة، فلا بد أنكم ستستخدمون منتجًا بدأ كحليب أبيض سائل. فكيف يتحول الحليب الى جبنة؟ ما الفرق بين الجبنة البيضاء والقريش (المعروفة بجبنة الكوتدج) وبين الجبنة الصفراء على أنواعها؟ ولماذا هناك من يعشقون الجبنة المتعفنة؟
التجبين
تشير عينة لا تُمثّل جميع الحالات أجريت على الثلاجة المنزلية إلى أن جميع الأجبان التي فيها تحتوي على "الحليب ومكونات الحليب والملح". المُركّب الرئيسي في الحليب المستخدم في صناعة الجبن هو بروتين يسمى الكازين (الجُبنين)، يمر بالكثير من العمليات البيوكيميائية حتى يتحول إلى الجبنة المرغوب بها.
تتمثل المرحلة الأولى من مراحل تحضير الجبن بفصل الكازين عن باقي مُكوّنات الحليب، التي تشمل بشكل رئيسي الماء (حوالي 90%)، الدهون (حوالي 4%)، السكر (حوالي 5%)، والقليل من الملح والبروتينات الأخرى. نجد في مبنى جزيء الكازين أن أحد طرفيه مشحون بشحنة كهربائية سالبة تجعله ينجذب إلى جزيئات الماء (محب للماء أوهيدروفيلي)، فيما يتنافر الطرف الآخر مع جزيئات الماء (كاره للماء أو هيدروفوبي). تفضِّل الأطراف الكارهة للماء في جزيئات الكازين أن تكون قريبة من بعضها البعض وبعيدةً عن الماء، لذا تتصل ببعضها وتُشكّل كريات تتكوّن سطوحها الخارجية من أذناب سالبة الشحنة الكهربائية، ذات قابلية للتجاذب مع جزيئات الماء.
بما أن الشحنة السالبة تتنافر مع شحنة سالبة أخرى، تتنافر هذه الكريات فيما بينها وتبقى منفصلة عن بعضها داخل الحليب. من أجل وصل كريّات البروتين، في عملية تُدعى التجبين، يجب إبطال الشحنة السالبة على السطح الخارجي للكريات. هناك العديد من الطرق للقيام بذلك، لكن يُستخدم في تحضير معظم أنواع الجبن إنزيم (بروتين يُحفّز عمليات كيميائية) متخصص في قص الأذناب السالبة بدقة. بعد قص الأذناب، تبقى الكريات بسطحها الخارجي الذي يتنافر مع جزيئات المياه، ما يجعلها تُفضل الترابط مع بعضها كي لا تكون مكشوفة أمام الماء. تتشكل بذلك كتل صلبة منفصلة عن غالبية سوائل الحليب.
تسمى هذه الكتل الصلبة"الأجبان"، وهي عبارة عن شبكة متشعبة من البروتينات تحبس في داخلها الماء والدهون. تحدث عملية التجبين بنفس الطريقة في معظم أنواع الجبن، ولكن يمكن الحصول على أنواع مختلفة يتسم كل نوع منها بصفات خاصة تناسبه عبر التحكم بكميات الإنزيم ودرجة حرارة الحليب.
تحييد الشحنة السالبة. جبّان يضيف مخلوط الإنزيمات إلى برميل الحليب في مصنع لإنتاج الأجبان| تصوير: Shutterstock
هوس "الكوتدج"
أحد الأجبان المثيرة للاهتمام في هذا السياق هو الجبن الأبيض الأكثر شعبية في البلاد. تشرح الجَبّانة السيدة هيلا شيفر صاحبة الموقع "نصنع الأجبان في المنزل" عملية تحضير هذا النوع من الجبنة: "نضيف قطرة واحدة فقط من الإنزيم إلى خمسة لترات من الحليب لتحضير الجبنة البيضاء، ثم نترك الجبنة تَقطُرُ مدة 24 ساعة. نحصل بهذه الطريقة على مستوى معين من التجبن، ولكن بلا تصلُّب.
يعني ذلك أننا بشكل أو بآخر نوقف عملية إنتاج الجبنة في منتصفها عند تحضير الجبنة البيضاء".
وماذا بالنسبة للجبن القريش (الكوتدج)؟ نجد هذا الجبن على رفوف المتاجر جنبًا إلى جنب الجبنة البيضاء، لكنّ السيدة شيفر توضح لنا أن عملية تحضير هذا النوع من الجبنة التي تتميز بكتلها البيضاء أكثر تعقيدًا: " تحضير القريش ليس سهلاً. فهناك مراحل كثيرة تتضمن رفع درجة الحرارة وخفضها مرات عدة".
خلافًا للجبنة البيضاء والكوتدج، تُضاف عند تحضير الأجبان القاسية كمية أكبر من الإنزيم، لأننا نريد الحصول على جبنة قاسية. بعد الحصول عليها، تُكسَر المادة الصلبة، تُصرَّف السوائل، خلال التسخين أحيانًا، تُضغَط المادة الصلبة مجددًا، ثم تُبَهّر حسب الحاجة وتُصمّم بالشكل المنشود. تؤثر التفاصيل الدقيقة لعمليات إبعاد السوائل وضغط المادة الصلبة على قوام الجبنة النهائي. فكلما صُرِّفت كمية أكبر من السوائل وضُغِط المنتج بضغط أكثر لمدة زمنية أطول، نحصل على جبنة قاسية أكثر.
كلما صُرّفت كمية أكبر من السوائل وُضغِط المنتج بضغط أعلى لمدة زمنية أطول، نحصل على جبنة قاسية أكثر. عملية الإنتاج التقليدية للجبنة| تصوير: Shutterstock
التعتيق
تعتيق الجبن هو المرحلة الأخيرة في عملية الإنتاج. تمر الشبكة المعقدة لبروتينات الجبنة القاسية، التي باتت تحتوي على كميات قليلة جدًّا من السوائل وصُمّمت بالشكل المنشود، بعمليات تستمر زمنًا طويلًا وتُكسب كل نوع من الجبن قوامه ومذاقه الخاصَّين. تساعد أنواع مختلفة من العفن والبكتيريا على حدوث هذه العمليات، وتعطي كل جبنة قوامها ومذاقها. يطلي مُنتِجو الأجبان السطح الخارجي للجبنة المصممة بالعفن والبكتيريا أو يضيفونها إلى الجبنة من الداخل في مراحل أبكر من العملية.
الأجبان الرخوة، كجبنة الكاممبير والبري مثلًا، تكون مطلية بطبقة بيضاء من العفن. ففي عملية تستغرق مجرد بضعة أسابيع، يُفرز هذا العفن إنزيمًا داخل الجبنة يقطع الشبكة المتشعبة من بروتينات الجبن ويحولها من حالتها الصلبة اللزجة إلى مادة طرية تذوب بسهولة.
بالتباين مع ذلك، قد تستغرق عملية تعتيق الأجبان الصلبة مثل الشيدر والبارميزان عدة أشهر، وربما سنوات. تقوم إنزيماتٌ أخرى خلال هذا الوقت بتحليل بروتينات الجبن إلى العديد من الجزيئات الصغيرة. والتنوع الكبير في المركّبات التي تنتج عن تحليل البروتينات هو ما يعطي كل جبنة مذاقها الفريد. بين المذاقات والروائح المألوفة التي يتم الحصول عليها من عملية التحلل لمساتٌ من الكبريت والأمونيا.
يتم الحصول على مجموعة أخرى من المذاقات في الأجبان ذات العفن الأزرق، مثل الروكفور. يفرز هذا العفن الفريد من نوعه في هذه الأجبان إنزيمًا يحلل الدهون إلى لَبِنات بنائها - الأحماض الدهنية. يحتوي بعض هذه الأحماض الدهنية على مذاقات مقترنة بالأجبان الزرقاء، مثل مذاق الفلفل اللاذع.
"لا قططَ في أمريكا، والشوارع مرصوفة بالجبنة"
هاجر والد جدي، أبراهام بيجمان، قبل أقل من قرن بقليل، من بيلاروسيا إلى الولايات المتحدة، وحاول إعادة تأسيس مجبنته في بلاد الإمكانيات غير المحدودة. كانت تلك فترة الأزمة الاقتصادية الكبرى في ثلاثينيات القرن العشرين، ولم يتكلل عمله بالنجاح. ضمن أسباب عدم النجاح كان فشل والد جدي في الحصول على الثقوب التي تميّز الجبنة السويسرية. اقترح جدي، الدكتور آشر بيجمان، الذي كان طفلًا آنذاك، على والده أن يحفر ثقوبًا في الجبنة بواسطة المثقاب (المقدح).
على الرغم من أن فكرة جدي كانت مبتكرة، إلّا أن ثقوب الجبنة السويسرية، مثل جميع مراحل عملية إنتاج الأجبان، هي في نهاية المطاف مسألة كيميائية بحتة لا علاقة لها بالمقادح!
استعنتُ بمقالة الدكتور أندي كونيلي (Connelly) من جامعة شفيلد و معلومات جمّة من موقع جامعة جيلف لإعداد هذه المقالة.