طوّرت مجموعة من الباحثين مادّة شبيهة للزجاج تتميّز بخصائص واعدة للغاية. تقول إحدى الباحثات "فور ولادة المنتج، أطلقنا عليه اسمًا ونحن ننتظر لنرى ما سيفعله عندما يكبر".
الزجاج هو إحدى أكثر المواد استخدامًا وفائدةً للبشريّة، حيث يعتمد في صناعات عديدة مثل البناء وصناعة السيارات، بالإضافة إلى توظيفها في صناعة الأدوات، المرايا والنظارات. فعليًّا، يحيط بنا الزجاج في كلّ مكان تقريبًا، وقد يُعزى وجوده إلى براعة العقل البشريّ، إلّا أنّ الطبيعة كانت هي السبّاقة في تكوينه، فقد أظهرت الأدلّة بقوّة سقوط النيازك على الأسطح الرمليّة أو حتّى الانفجارات البركانيّة، الّتي يمكنها أن توّفر ظروفًا مشابهة لتشكيل الزجاج الطبيعيّ. وكان الزجاج البركانيّ المعروف بـ الأوبسيديان، على سبيل المثال، قد استُخدم في العصور القديمة لصناعة الأدوات الحادّة والأسلحة.
يُعتبر الزجاج مادّة صلبة لا بلورية، أي أن ذرّاتها لا تتوزّع فيها بشكل منتظم، ما يجعلها أشبه بالمادّة السائلة. يتشكّل الزجاج عندما يبرد الرمل المنصهر بسرعة كبيرة، بحيث لا تتاح للجزيئات الفرصة لتنظيم نفسها. يُنتج صانعو الزجاج الزجاج الصناعيّ عبر عمليّة مشابهة، حيث يذيّبون رمل البحر الذي يتكوّن معظمه من السيليكا، ثم يشكّلونه حسب الرغبة ويبرّدونه بسرعة كبيرة، مستخدمين الماء البارد عادةً. كما يُعرّف التحوّل الحادّ للزجاج من مادّة منصهرة مرنة إلى مادّة صلبة باسم "الانتقال الزجاجيّ"، وهو نوع من التحوّل الطوريّ الحراريّ، يشبه التحوّلات بين حالات المادّة الأربعة المختلفة: الغازيّة، السائلة، الصلبة والبلازما.
مادّة زجاجيّة ذات قدرة على الالتصاق يمكنها إصلاح الشقوق بنفسها. تري-تيروسين | تصوير: شاحر شاحر، المكتب الإعلاميّ لجامعة تل أبيب.
وعد كبير
يُعَدّ الزجاج من أكثر المواد نفعًا للبشريّة، إذ يجمع بين شفافيّته وصلابته وقدرته العالية على مقاومة العوامل البيئيّة والتآكل. إلّا أنّ هشاشته وصعوبة استعادته إلى حالته الأصليّة، كما في حالة الرمل، تضع تحدّيات أمام علماء الموادّ، الذين يسعون إلى ابتكار موادّ جديدة تحاكي الزجاج، لكن بخصائص مُحسَّنة وأكثر جاذبيّة.
في هذا المضمار، اكتشف فريق بحثي بقيادة البروفيسور إيهود جازيت من جامعة تل أبيب، وطلابه جال فينكلشتاين-زوتا وزوهر أرنون، مادة واعدة للغاية. حيث تتمتّع هذه المادّة المبتكرة، التي أُطلق عليها اسم "تري-تيروسين"، بشبه كبير بالزجاج لكنّها تحمل خصائص فريدة تجعلها متميّزة. وقد أبرزت مجلة Nature هذا الاكتشاف من خلال نشر مقال مراجعة إضافيّ يُلقي الضوء على الأهمّيّة البالغة لهذا العمل، كما أرفقت فيديو يشرح خصائص هذه المادّة الجديدة.
التيروسين هو أحد الأحماض الأمينيّة العشرين التي تُكوّن البروتينات في الكائنات الحيّة. أمّا "تري-تيروسين" فهو ببتيد، أي سلسلة بروتينية قصيرة تتألف من ثلاث وحدات من التيروسين. وتوضّح فينكلشتاين-زوتا قائلة: "الرمز الكيميائيّ لتري-تيروسين هو YYY، وربّما يشير هذا إلى خصائصه المفاجئة". وتضيف: "خلال تجارب أخرى، اكتشفنا بالصدفة أنّ محلولًا مائيًا لهذا الببتيد يمكن أن يُكوّن مادّة زجاجيّة شفّافة بشكل مذهل، تفوق في شفافيّتها حتّى الزجاج السيليكاتيّ. علاوة على ذلك، يمتلك هذا الزجاج الجديد القدرة على تعديل خصائصه الميكانيكيةّ، وإصلاح الشقوق التي تتشكّل فيه، بالإضافة إلى تمتّعه بقدرة التصاق عالية".
إلّا أنّ الميزة الأكبر لهذا الزجاج قد تتمثّل ببساطة عمليّة تصنيعه، التي تُشبّهها فينكلشتاين-زوتا بتحضير عصير التوت في المطبخ المنزليّ. فكلّ ما يتطلّبه الأمر هو خلط مسحوق تري-تيروسين بالماء، ليتكوّن الزجاج الجديد بشكل تلقائيّ دون الحاجة إلى استهلاك للطاقة. تختلف هذه العمليّة تمامًا عن صناعة الزجاج التقليديّ، التي تستلزم استثمارًا كبيرًا من الطاقة، والمهارة المتراكمة عبر سنوات من الخبرة والتدريب.
عرض لوحة مصنوعة من الزجاج الببتيدي. جال فينكلشتاين-زوتا والبروفيسور إيهود جازيت | تصوير: شاحر شاحر، المكتب الإعلامي لجامعة تل أبيب.
قليل من المساعدة من الأصدقاء
قام الباحثون بتشخيص المادة باستخدام تقنيّات متعدّدة، كما تعاونوا مع البروفيسور تال إيلنبوغن من كليّة الهندسة الكهربائيّة، في جامعة تل أبيب لتحليل خصائصها البصريّة. وأظهرت الفحوصات أنّ المادّة ليست شفّافة للضوء المرئيّ فحسب، بل كذلك للضوء ذات أطوال الموجة في نطاق الأشعّة تحت الحمراء، الأمر الذي قد يتيح استخدامها في مجالات مثل اتّصالات البيانات. لتشخيص هيكلها الجزيئيّ، استعانوا بالكيميائيّ البروفيسور أمير جولدبورت من جامعة تل أبيب. أمّا فيما يتعلّق بقدرتها على الالتصاق وخصائصها الميكانيكيّة، فقد تلقّوا دعمًا من الدكتور ماكسيم سوكول من جامعة تل أبيب، والدكتور بن بالمر من جامعة بن غوريون. وأظهرت التجارب أنّ استخدام تري-تيروسين كمادّة لاصقة يمكن أن يدعم وزنًا يصل إلى خمسة كيلوغرامات.
إحدى المزايا الأكثر إثارةً للدهشة في هذا الزجاج الببتيدي هي قدرته على "الالتئام الذاتيّ"، ممّا يمنحه أفضليّة فريدة مقارنةً بالزجاج السيليكاتيّ التقليديّ. وتفيد فينكلشتاين-زوتا: "اكتشفنا أنّ الزجاج الببتيدي قد يتشقّق في ظروف الجفّاف، إلّا أنّ إصلاح هذه الشقوق سهل للغاية. كلّ ما يحتاجه الأمر هو نقل الزجاج إلى بيئة أكثر رطوبةً، حيث يعيد امتصاص المياه إلى داخله، فتلتئِم الشقوق، ويمكن إعادة تشكيل الزجاج. يعود ذلك الى قدرة جزيئات الماء أن تعمل كروابط بين جزيئات التيروسين، وعندما تنكسر هذه الروابط بفعل الجفاف، يمكن إعادة إصلاحها بمجرد إعادة الترطيب".
وكما أبلغنا بروفيسور جازيت بأنّه شديد التفاؤل بشأن الإمكانيات والتطبيقات التكنولوجيّة والصناعيّة المحتملة لهذه المادّة الجديدة، ويرجح بأنّ هذا الاكتشاف قد يفتح آفاقًا علميّة جديدة لم يتمّ استكشافها بعد.
تختم فينكلشتاين-زوتا قائلة: "سيستغرق الأمر بعض الوقت قبل أن نتمكّن من تصنيع نظارات من التري-تيروسين. لقد أنجبنا طفلًا جديدًا وأعطيناه اسمًا، لكنّنا لا نعرف ما الّذي سيحصل عندما يكبر. في الوقت الحالي، نجحنا في تصنيع عدسات في المختبر تعتمد على الزجاج الببتيدي، وأنا متحمّسة لمواصلة الأبحاث التي ستأخذ اكتشافنا إلى مراحل أكثر تقدمًا"، ولا شكّ أنّ النجاح سيكون حليفَ هذا الزجاج في المستقبل.
في الفيديو، يُمكن مشاهدة كيفيّة صنع الزجاج وبعض خصائصه.