خلايا شمسيّة مستوحاة من أجنحة الفراشات، ملابس اللوتس الّتي لا تتبلّل، أحذية المسامير الّتي تعلّمت الطريقة من الفهود، بل وحتّى الخوذات خفيفة الوزن الّتي تشبه منقار الطوقان. العلم الّذي يتيح تكرار الحلول المتقدّمة الّتي تطوّرت مع بداية التطوّر منذ زمن طويل.
يحتاج الفنّانون إلى الإلهام. الكاتب الّذي يريد أن يكتب رواية تدور أحداثها في لندن، سيجد صعوبة في إنتاج منتج موثوق، إذا لم يقم بزيارة لندن والتعرّف على أسرارها وثقافتها. يحتاج العلماء أيضًا إلى الإلهام، ولا يوجد مكان أفضل للبحث عنه من الطبيعة. إنّ مراقبة عالم الطبيعة تثير أسئلة مثل كيف تطير الطيور في السماء دون أن تسقط؟ كيف تتمكّن شبكات العنكبوت من اصطياد الحشرات؟ كيف تُنتِج النباتات الطاقة من الشمس في عمليّة التمثيل الضوئيّ؟
في بعض الأحيان، بعد أن نكتسب فهمًا أساسيًّا للظواهر الطبيعيّة، تأتي مرحلة التجسّس التجاريّ: فنحن لا نريد فقط أن نفهم كيف يعمل تطوّر معيّن في الطبيعة، بل نسعى إلى تقليده وبناء منتج محسّن. هل يستطيع الطائر الطيران؟ سوف نفهم كيف يفعل ذلك ونبني طائرًا ضخمًا يمكنه عبور المحيطات وحمل مئات الأشخاص.
إنّ الطيور، شبكات العناكب والتمثيل الضوئيّ لا تقدّم لنا سوى لمحة بسيطة عن مجموعة واسعة من الظواهر الطبيعيّة الّتي ألهمت مجموعة متنوّعة من التطوّرات العلميّة والتكنولوجيّة. يُطلق على هذا المجال، والمتمثّل في تقليد العالم الطبيعيّ لتلبية الاحتياجات العلميّة والتكنولوجيّة، اسم المحاكاة الحيويّة (biomimicry) (bio = الحياة mimicry= المحاكاة). تمكّن العلماء والمهندسون من استخدامه لتطوير موادّ مبتكرة، تصميم الملابس الرياضيّة، تحسين تقنيّات إنتاج الطاقة والمزيد.
نُجدّد الطاقة المتجدّدة
تستهلك البشريّة في الوقت الحاضر كميّات هائلة من الفحم، النفط والغاز الطبيعيّ لإنتاج الطاقة. تسبّب هذه الأساليب التلوّث، وإذا لم يكن ذلك كافيًا، فإنّها تعتمد على استنزاف الموارد الطبيعيّة الّتي سوف تنفد في نهاية المطاف. ولهذا السبب يتمّ استثمار العديد من الجهود في إيجاد طرق بديلة لإنتاج الطاقة من مصادر متجدّدة، مثل الطاقة الشمسيّة، طاقة الرياح أو الطاقة المائيّة.
في بعض الأحيان كان الإلهام للحلول الّتي تمّ العثور عليها يأتي من الطبيعة. إنّ الخلايا الشمسيّة المتوفّرة اليوم، والّتي تستخدم طاقة الشمس لإنتاج الكهرباء، ليست فعّالة للغاية. استلهم باحثون من جامعة جياو تونغ في شنغهاي، الصين، أفكارهم من أجنحة الفراشات، الّتي تستخدم طاقة الشمس لتدفئة أجسامها، مثل الخلايا الشمسيّة الصغيرة.
اكتشف الباحثون أنّ أجنحة الفراشات تحوي نوعًا من المستقبلات الشمسيّة الصغيرة والمرتّبة بطريقة فريدة تسمح لها بامتصاص الكثير من ضوء الشمس. وعندما تمّ ترتيب الخلايا الشمسيّة الاصطناعيّة بنفس الطريقة، تبيّن أنّها أكثر نشاطًا بكثير من الخلايا المكوّنة من نفس المادّة والمرتّبة في نمط هندسيّ منتظم. مصدر آخر للإلهام لتصميم خلايا شمسيّة أكثر كفاءة هو عمليّة التمثيل الضوئيّ، حيث تقوم النباتات بتحويل ضوء الشمس إلى طاقة كيميائيّة يتمّ تخزينها في النبات وتغذيتها.
وفي مثال آخر مثير للدهشة، لاحظ باحثون من معهد كاليفورنيا التكنولوجيّ (Caltech)، بقيادة جون دابيري(Dabiri)، حركة أسراب الأسماك وتعلّموا منها كيف ينبغي ترتيب توربينات الرياح للاستفادة بشكل أفضل من الاضطرابات في الهواء. وبعد حسابات دقيقة، قاموا ببناء مزرعة مكوّنة من 24 توربينًا مرتّبة مثل سرب الأسماك، وأظهروا أنّ الترتيب الفريد يزيد بشكل كبير من كفاءة إنتاج الطاقة من التوربينات.
من الأعماق إلى السماء: الأسماك الّتي تعمل على تحسين فعاليّة التوربينات | صورة: Shutterstock
استلهم باحثون آخرون طريقة اهتزاز أوراق الأشجار، وذلك لاستخلاص الطاقة من الرياح دون الحاجة إلى توربينات ضخمة، والّتي تتطلّب مساحة كبيرة وأجنحتها تؤذي الطيور. وهناك أيضًا من قام بتطوير شفرات توربينيّة مستوحاة من زعانف الحوت الكبير (Megaptera Novaeangliae).
العناكب، النباتات المائيّة والموادّ المركّبة
تُعدّ الطبيعة أيضًا مصدرًا لا ينضب لإنشاء موادّ جديدة وتحسين خصائص الموادّ الموجودة. على سبيل المثال، قام باحثون من جامعة ولاية أوهايو بمحاكاة شبكات العنكبوت لتصميم مادّة لاصقة تظلّ مقاومة في الظروف الرطبة. على عكس الشريط اللاصق العادي، على سبيل المثال، تلتصق شبكات العنكبوت جيّدًا بالأسطح حتّى في المناطق الرطبة مثل حوض الاستحمام.
تتكوّن شبكات العنكبوت من ثلاثة أنواع رئيسة من الموادّ: البروتينات المرتبطة بالسكّريّات (البروتينات السكّريّة)، الماء وجزيئات صغيرة. اكتشف الباحثون أنّ الجزيئات الصغيرة تمتصّ الماء من البيئة الرطبة، ما يسمح لسطح الشبكات بالبقاء جافًّا وملتصقًا جيّدًا. ربّما يمكننا، بإلهام من شبكات العنكبوت، إنتاج غراء يظلّ مقاومًا في الظروف الرطبة.
ما هو جيّد للعناكب هو جيّد لغرفة الاستحمام. شبكة عنكبوت | صورة: Shutterstock
لا تضرّ الرطوبة والماء بالغراء فحسب، بل أيضًا بالأشخاص الّذين يريدون أن تظلّ ملابسهم وأحذيتهم جافّة تحت المطر. كيف يمكن إنتاج طلاء فعّال طارد للماء؟ واحدة من أقدم وأنجح الموادّ الطاردة للماء هي نبات زهرة اللوتس، والّتي تُسمَّى فعاليّة طردها للماء "تأثير اللوتس".
أوراق اللوتس مغطّاة بنتوءات صغيرة مغطّاة بشمع دهنيّ يطرد الماء. عندما تتساقط قطرات الماء على الورقة، تطردها النتوءات وتتركها فوق السطح. نظرًا لأنّ الماء لا يكاد يتلامس مع السطح، فإنّه يتدحرج ببساطة ويجمع على طول الطريق جزيئات الأوساخ والملوّثات الأخرى الموجودة على الأوراق، وفي النهاية يتدحرج الماء والأوساخ الّتي تمّ جمعها من النبات. حتّى أنّ بلديّة سان فرانسيسكو استخدمت تأثير اللوتس لطلاء الجدران في الأماكن العامّة بموادّ طاردة للماء، وبالتالي منع الأضرار الناجمة عن إلقاء الناس مياههم في الشارع.
ورقة لوتس تُظهر فعاليّة طرد الماء | صورة: Shutterstock
هناك طريقة أخرى لتصميم الموادّ المستوحاة من الطبيعة وهي تعلّم المبادئ منها. واحدة منها هي استخدام الموادّ المركّبة. على سبيل المثال، يتكوّن الخشب من مزيج من ألياف السليلوز الطويلة الملتصقة ببعضها البعض باستخدام مادّة قويةّ تُسمىَّ اللجنين (Lignin). يمنح هذا المزيج الخشب القوّة والمرونة الّتي لا توجد عندما يكون السليلوز واللجنين منفصلين. تُستخدم أيضًا العديد من الموادّ المركّبة في الصناعة اليوم. ومن الأمثلة البارزة على ذلك الخرسانة المسلّحة، الّتي تعتمد على مزيج من الإسمنت والرمل والأحجار الصغيرة مع شبكة حديديّة، والموادّ الّتي تعتمد على ألياف الكربون، والّتي تستخدم اليوم، على سبيل المثال، في بناء الطائرات الخفيفة والقويّة.
تلهم الطبيعة أيضًا تطوير المعدّات الرياضيّة، ما يسمح للرياضيّين بتحسين أدائهم. هناك، على سبيل المثال، أحذية المسامير المستوحاة من أقدام الفهد- أسرع مخلوق بريّ في العالم. يركض الفهد بمخالب ممتدّة وثابتة، يقوم بغرزها في التربة، وبالتالي يكتسب قبضة أفضل على الأرض ويندفع للأمام. وقد أدّى نفس المبدأ إلى إنتاج أحذية كرة القدم لسنوات عديدة. وفي عام 2008، أخذت إحدى شركات الأحذية الكبرى هذا المبدأ خطوة أخرى إلى الأمام وطوّرت أحذية المسامير ذات شفرات صغيرة وحادّة للعدّائين الأولمبيّين. وأظهر العدّاء الجامايكيّ أسبا باول فعاليّة هذه الأحذية عندما فاز بسباق 100 متر في بريطانيا والّذي أقيم تحت الأمطار الغزيرة، وهو يرتدي "حذاء الفهد" على المسار الرطب.
كلّ هذا يعود للفهود. أحذية المسامير | صورة: Shutterstock
وفي مثال آخر، استلهم العلماء في جامعة كاليفورنيا سان دييغو من منقار طائر الطوقان لتصميم الخوذات. يتكوّن منقار الطوقان من طبقة خارجيّة من الكيراتين- وهي مادّة صلبة تتكوّن منها أظافرنا أيضًا. يوجد في وسط المنقار هيكل هوائيّ يشبه الإسفنج، معزّز على نوع من السقالات من الكيراتين والكالسيوم، ما يمنحه الصلابة، المرونة وخفّة الوزن. الإلهام من منقار الطوقان قد يسمح بتطوير خوذات خفيفة، صلبة ومرنة. كما ألهمت الطبيعة شكل كرة القدم، مضارب التنس والملابس.
المخلوق الّذي حوّل السلامة لراحة. الطوقان | صورة: Shutterstock
جميع هذه ليست سوى أمثلة معدودة على الحالات الّتي ألهمت فيها الطبيعة العلماء للتطوّرات في مجال الطاقة، الموادّ والرياضة. أدّت الطبيعة إلى تطوّرات مبتكرة أيضًا في مجال البصريّات، تخزين المياه، تخطيط وسائل النقل والمزيد. في بعض الأحيان، تؤدّي الأبحاث المستوحاة من الطبيعة إلى تطوّرات مفيدة جدًّا في الصناعة، مثل صناعة الخرسانة، الفولاذ، الموادّ المقاومة للماء والأحذية الرياضيّة. ومع ذلك، حتّى عندما لا ينتهي البحث إلى تكرار ناجح على نطاق تجاريّ، فإنّه لا يزال يسمح لنا بفهم عميق للآليّات المثيرة للاهتمام والمعقّدة الّتي طوّرتها الطبيعة على مدى ملايين السنين من التطوّر.