يلجأ الكثير من الناس إلى "الأطعمة المريحة" (Comfort food) في أوقات الضائقة. ما الّذي يميّز هذه الأطعمة؟ هل يجب أن تكون حلوة المذاق؟ والأهمّ من ذلك، هل تساعد حقًّا؟

يحتلّ الطعام مكانة مركزيّة في حياتنا منذ الطفولة وحتّى الشيخوخة، لدرجة أنّ البعض يسعد بالقول إنّهم "يعيشون ليأكلوا". لذا؛ لا عجب أن نلجأ إلى الطعام استجابة للمواقف العاطفيّة. عندما يحدث هذا، نتحدّث غالبًا عن "الطعام المريح".

يختلف تعريف "الطعام المريح" تبعًا للجنس، العمر، والثقافة. رغم الاعتقاد السائد بأنّ الأطعمة المريحة تحوي سعرات حراريّة عالية، إلّا أنّ هذا ليس بالضرورة صحيحًا، ومن الصعب عمليًّا الإشارة إلى خصائص محدّدة للأطعمة المريحة. في سنة1997، طرح اثنان من القواميس الرائدة- قاموس أوكسفورد، و قاموس ويبستر- تعريفاتهما الخاصّة لهذا المصطلح، والّتي لم يُتّفق عليها بينهما. أشار قاموس ويبستر في تعريفه إلى أنّ الطعام المريح هو الّذي يُطهى بأسلوب تقليديّ، ويرتبط بمشاعر عاطفيّة أو بالحنين، بينما أشار قاموس أوكسفورد إلى أنّ هذه الأطعمة عالية السعرات الحراريّة، إلى جانب ارتباطها بالطعام المنزليّ وأطعمة ومذاقات من فترة الطفولة.

كذلك، لا يوجد إجماع في االمقالات والكتابات الأكاديميّة: فبعض الدراسات تُعرّف الطعام المريح بأنّه طعام لذيذ تشير خصائصه الحسّيّة، مثل الطعم والرائحة، إلى مستوى عالٍ من السعرات الحراريّة. أمّا الدراسات الأخرى، تعرّفه على أنّه طعام يساهم في الراحة الجسديّة في حالات اختلال التوازن الغذائيّ وانخفاض مستويات الطاقة، والراحة النفسيّة مثل الاستمتاع بالطعام أو تخفيف الاضطراب العاطفيّ. من المرجّح أن تعكس الاختلافات في التعريف أيضًا التباين في مفهوم "الطعام المريح" بين الأفراد.


يختلف تعريف "الطعام المريح" تبعًا للجنس، العمر، والثقافة. رجل يأكل همبرغر | LL_studio, Shutterstock

ما هي الأطعمة المريحة؟

يشير أحد التفسيرات المحتملة لظاهرة الطعام المريح إلى أنّ مزاجنا يؤثّر في استجابتنا الحسّيّة للمذاقات والروائح وربّما أيضًا لقوام الطعام. على سبيل المثال، في ظلّ الضغط النفسيّ، تزداد حاجتنا للحلويات، ما يفسّر ميل الناس إلى استهلاك المزيد من الأطعمة الحلوة عندما يشعرون بالتوتّر. بل قد يكون لهذا أساس تطوريّ: في حالات الطوارئ نحتاج إلى طاقة متاحة وسهلة الاستهلاك، مثل تلك الموجودة في السكّر، للتعامل مع مصدر الضائقة أو التوتّر- على سبيل المثال للهروب من خطر داهم. كما تؤثّر الأطعمة الحلوة ذات السعرات الحراريّة العالية في إفراز الناقلات العصبيّة في الدماغ مثل السيروتونين والموادّ الأفيونيّة (Opioids)، والّتي ترتبط بتنظيم المزاج.

تناولت دراسة أنواع "الأطعمة المريحة" وفقًا لوجهات نظر لطلّاب جامعيّين في الولايات المتّحدة، وصنّفتها إلى أربع فئات مختلفة: الحنين، الشهيّ، المتوفّر والسهل أو المريح جسديًّا. أظهرت الدراسة أنّ "الأطعمة المريحة" تحسّن من شعور الطلّاب، وترتبط عادة بذكريات خاصّة ومميّزة يصعب نسيانها. أظهر البحث أنّ عاداتنا الغذائيّة لا تتعلّق فقط بتلبية احتياجاتنا الجسديّة من العناصر الغذائيّة، وإنّما غالبًا ما يكون للطعام دلالات عاطفيّة تتعلّق بالهويّة، القِيَم والمشاعر. لذلك، أشار الباحثون إلى أنّ صعوبة تغيير عاداتنا الغذائيّة قد تعود إلى هذه الروابط العاطفيّة، واقترحوا أنّ القيام بذلك يتطلّب اعتبار المعنى العاطفيّ للطعام بالنسبة لنا، وليس فقط التركيز على مكوّناته.

في سنة 2016، كشف تقرير لجمعيّة علم النفس الأمريكيّة (American Psychological Association) أنّ اثنين من كلّ خمسة (أي ما يقرب 39%)، من المشاركين البالغين أفادوا بأنّهم تناولوا أكثر ممّا ينبغي، أو تناولوا أطعمة غير صحيّة خلال الشهر السابق للاستقصاء، بسبب الضغط النفسيّ. مع ارتفاع معدّل السمنة في العالم الغربيّ، تزداد الحاجة لفهم أيّة أطعمة تعتبر مريحة بالنسبة لنا، من يلجأ لها، ومتى. كما يُطرح التساؤل فيما إذا كانت هناك اختلافات بين الجنسين والثقافات في تناول الأطعمة المريحة، وما إذا كان الطعام يريحنا حقًّا.


أظهر التقرير أنّ اثنين من بين كلّ خمسة من المشاركين البالغين أفادوا بأنّهم تناولوا أكثر ممّا ينبغي، أو تناولوا أطعمة غير صحيّة خلال الشهر السابق للاستقصاء، بسبب الضغط النفسيّ. قياس محيط البطن لشخص يعاني من السمنة | grinny, Shutterstock

الجنس والجيل

أظهرت دراسة أُجريت سنة 2003 أنّ الجنس والعمر يؤثّران في تفضيلنا للطعام المريح. كشفت النتائج أنّ النساء يفضلن الأطعمة الحلوة مثل المثلّجات، الشوكولاطة والبسكويت، بينما يميل الرجال إلى تفضيل الأطعمة المطهوّة أو المخبوزة مثل الحساء، البيتزا والمعكرونة، بالإضافة إلى المثلّجات. لم يفحص الباحثون الأسباب وراء هذه الاختلافات، لكنهم افترضوا أن ذلك قد يكون مرتبطًا بكون الرجال أكثر اعتيادًا على تناول الطعام المطهوّ الّذي يتمّ تحضيره لهم. إذا كان هذا هو السبب بالفعل، فسيكون من المثير للاهتمام فحص ما إذا تغيّرت هذه التفضيلات على مرّ السنين، في ضوء تغيّر الأدوار التقليديّة في العائلة.

بالإضافة إلى ذلك، أظهرت الدراسة أنّ البالغين حتّى سن 34 عامًا يفضّلون بشكل خاصّ المثلّجات (77%) والبسكويت (70%)؛ ويفضّل الأشخاص الّذين تتراوح أعمارهم بين 35-54 عامًا الحساء والمعكرونة، بينما يفضّل الأشخاص الّذين تبلغ أعمارهم 55 عامًا وما فوق الحساء والبطاطا المهروسة. لذلك؛ طرح الباحثون افتراضًا محتملًا إضافيًّا- من المحتمل أن يفضّل الشباب النكهة القويّة، والّتي تعتبر نموذجيّة جدًّا للحلويات والوجبات الخفيفة الحلوة أو المالحة.

من المهمّ ملاحظة أنّ هذه الدراسة أُجريت في الولايات المتّحدة، ما يعني أنّ هذه النتائج تعكس ثقافة الطبخ فيها.قد تكون هناك تفضيلات مختلفة للأطعمة المريحة في الثقافات الأخرى. على سبيل المثال، في دراسة استقصائيّة أُجريت في بريطانيا العظمى، تصدّرت قائمة الأطعمة المريحة فيها فطيرة التفاح، الأطعمة المشويّة، والسمك ورقائق البطاطا (Fish and chips). من ناحية اخرى، لا تدخل الشوكولاطة حتّى في أسفل المراكز العشرة الأولى هناك.

كذلك، وجدت دراسة أُجريت سنة2005 اختلافات تتعلّق بالجنس والعمر فيما يتعلّق باستهلاك الأطعمة المريحة: أبلغ الرجال عن مشاعر إيجابيّة قبل تناول الأطعمة المريحة منخفضة السعرات الحراريّة، بينما أبلغت النساء عن مشاعر سلبيّة أكثر، خاصّة قبل تناول الأطعمة المريحة حلوة المذاق ذات السعرات الحراريّة العالية. بالإضافة إلى ذلك، أظهرت الدراسة أنّ العمر يؤثّر في استهلاك الأطعمة المريحة، حيث كان كبار السنّ أكثر عرضة لربط الأطعمة المريحة بالمشاعر الإيجابيّة قبل تناول الطعام. بما أنّ الدراسة أُجريت في مدينة مونتريال الكنديّة، حيث تعيش مجتمعات الناطقين بالفرنسيّة والإنجليزيّة جنبًا إلى جنب، فقد تمكّن الباحثون أيضًا من فحص الاختلافات الثقافيّة. وقد وجدوا أنّ المتحدّثين بالفرنسيّة أفادوا بمشاعر إيجابيّة أقوى قبل تناول الأطعمة المريحة مقارنة بالمتحدّثين باللغة الإنجليزيّة.

على غرار الدراسة الأمريكيّة المذكورة سابقاً، أظهرت هذه الدراسة أنّ تناول الأطعمة المريحة جعل النساء يشعرن بأنّهن أقلّ صحّة من الرجال وزاد من شعورهنّ بالذنب. أمّا فيما يتعلّق بالعمر، فقد تبيّن أن ّالشباب الّذين يتناولون أطعمة مريحة غير صحيّة، يشعرون بأنّهم أقلّ صحّة مقارنة بالشعور الّذي أبلغ عنه كبار السنّ الّذين تناولوا نفس الأطعمة. قد يرجع الاختلاف إلى حقيقة أنّه مع تقدّم الأشخاص في السنّ فإنّهم يميلون إلى استهلاك هذه الأطعمة بشكل أكثر اعتدالًا.

لا توجد إجابة محدّدة عن سبب لجوء الناس إلى تناول الأطعمة المريحة. فقد تبيّن أنّ النساء يمِلنَ إلى تناول الأطعمة المريحة عند الشعور بالوحدة، الاكتئاب، والذنب، بينما يميل الرجال إلى تناول الطعام المريح كمكافأة للنجاح. بمعنى آخر، قد يكون الهدف من تناول الطعام المريح هو تنظيم العواطف بشكل عامّ- وليس فقط لتحسين مزاجنا عندما نشعر بمشاعر سلبيّة، ولكن أيضًا عندما نكون في مزاج إيجابيّ ونريد الاحتفال.


قد يكون للثقافات المختلفة تفضيلات مختلفة للأطعمة المريحة، في المملكة المتّحدة على سبيل المثال، تعتبر فطيرة التفاح والسمك والبطاطا الأطعمة الرائدة. فطيرة التفاح | CKP1001, Shutterstock

نصف عزاء؟

لعلّ أكثر سؤال مثير للاهتمام هو: هل تحقّق الأطعمة المريحة فعلًا هدفها في تحسين مزاجنا؟ في سنة2014، نُشرت في الولايات المتّحدة إحدى الدراسات الأولى الّتي تناولت هذا السؤال. قام المشاركون  بتعبئة استبيان يوضّح بالتفصيل الأطعمة المريحة لهم، وأفاد 81% منهم أنّهم يعتقدون أنّ تناولها سيحسّن من حالتهم. وبعد أسبوع أو أكثر، شاهد المشاركون أفلامًا أثارت مشاعر سلبيّة مثل الغضب، الخوف، القلق أو الحزن، ومن ثمّ فُحِص مزاجهم في عدّة ظروف. أظهرت النتائج أنّ الطعام المريح كان مفيدًا في تحسين الحالة المزاجيّة لديهم بدرجة مماثلة لأيّ طعام مفضّل آخر، كما وُجد نفس التحسّن أيضًا عند تناول الطعام المحايد أو عدم تناول أيّ طعام على الإطلاق. ومن هذا يمكننا الاستنتاج بأنّ الحالة المزاجيّة السيئة تتحسّن من تلقاء نفسها مع مرور الوقت، وقد يعزو الناس عن غير قصد هذه العمليّة العفويّة إلى الطعام الّذي يتناولونه.

قارنت دراسة حديثة تأثير تناول الأطعمة المريحة مثل المثلّجات أو البسكويت، والأطعمة الصحيّة الّتي لا تعتبر مريحة مثل الفاكهة في التعافي من الضغط النفسيّ. شملت التجربة 155 طالبة تعرضن لعوامل ضغط تحت ظروف مختلفة: تلقّت مجموعة منهنّ الطعام قبل التعرّض للضغط، أمّا المجموعة الثانية فقد تلقّت الطعام بعد التعرّض للضغط، في حين لم تحصل المجموعة الثالثة على أيّ طعام. لقياس درجة الضغط النفسيّ الّذي يعاني منه المشاركون خلال التجربة، جمع الباحثون بين عدّة طرق قياس، مثل استبيان الحالة المزاجيّة واختبار اللّعاب لقياس مستوى هورمون التوتّر الكورتيزول.

كشفت النتائج أنّ تناول الطعام قبل التعرّض للضغط لم يؤثّر في الاستجابة، كما أنّ تناول الطعام بعده لم ينشّط التعافي منه، مقارنة بمن لم يأكلوا أيّ شيء. كما أظهرت المقارنة بين أنواع الطعام نتائج مماثلة: تناول الطعام المريح لم يخفّف من الضغط النفسيّ بدرجة مختلفة عن الطعام الصحيّ. بالتالي، تبيّن أنّ الطعام المريح لم يكن مفيدًا حقًّا. تجدر الإشارة إلى أنّ هذه الدراسة اقتصرت على النساء فقط، وأوضح الباحثون أنّهم اختاروا التركيز عليهنّ بعد تقرير نُشر سنة 2013 والصادر عن جمعيّة علم النفس الأمريكيّة والّذي أظهر أنّ النساء أبلغن عن اللجوء إلى الأكل العاطفيّ لتنظيم الضغط النفسيّ أكثر من الرجال (27% مقابل 22%).

إذا كان الأمر كذلك، فإنّ الأبحاث الحاليّة تثير الشكّ حول ما إذا كان تناول الأطعمة المريحة يساعدنا بالفعل على تحسين مزاجنا. ومع ذلك، تُعدّ هذه دراسات محدودة، نظرًا لأنّها قليلة وتحوي عيّنة قليلة من المشاركين، وهناك حاجة إلى مزيد من الدراسات للوصول إلى نتيجة قاطعة. يجب أن نتذكّر أيضًا أنّ الناس يستهلكون الأطعمة المريحة في مجموعة واسعة من المواقف والحالات النفسيّة- على سبيل المثال، للتخفيف من الشعور بالوحدة، والاسترخاء في حالات التوتّر والقلق، والبهجة وإسعاد أنفسهم. من الجدير بالذكر أنّ الدراسات الّتي تتمّ في ظروف خاضعة للرقابة قد لا تعكس بالضرورة الظروف الطبيعيّة الّتي يواجهها الإنسان في الواقع، ولا تحاكي مثل هذا النطاق الواسع من التأثيرات النفسيّة، خاصّة في مثل هذا المجال المعقّد. لذلك، يتعيّن على الدراسات المستقبليّة أن تدرس تأثير الأطعمة المريحة في الظروف الطبيعيّة، وأن تتوسّع في فحص تأثيرها في الحالات النفسيّة الإضافيّة.

0 تعليقات