المرأة الفقيرة وغير المتعلّمة، الّتي أصبحت رائدةً وخبيرةً في علم الحفريّات، وعالمة الجيولوجيا الهاوية الّتي فتحت أبواب الأكاديميّة للنّساء الأخريات، ورسّامة الدّيناصورات الموهوبة- الباحثات الرّائدات في الجيولوجيا.
لسنواتٍ عديدة، كان العلم ونظام التّعليم الرّسميّ بأكملهما حكرًا على الرّجال، وكان على النّساء أن يكافحن من أجل تأمين مكانٍ لهنّ في المجال الأكاديميّ. على وجه الخصوص، في مجال العلوم، أُعتبرت الجيولوجيا والحفريّات، ذكوريّةً بشكلٍ خاصّ، لأنّها لم تقتصر على العمل المكتبيّ فحسب، بل تضمّنت أيضًا العمل الميدانيّ. فقد كان "غير لائقٍ" لسيّدة محترمة أن تتجوّل في التِّلال، تنحت الصّخور، وتتعامل مع الهياكل العظميّة للدّيناصورات. هذه قصّة ثلاث نساء اخترن تجاهل هذا الافتراض البدائيّ، وتجرأن على الحلم والحفر والاكتشاف.
ماري آنينج (Mary Anning) : "صيّادة" الأحافير
ولدت ماري آنينج عام 1799 لعائلة فقيرة في جنوب إنجلترا، في بلدة لايم ريجيس (Lyme Regis)- غرب دروست (Dorset). تُعتبر هذه المنطقة غنيّة بالأحافير بشكلٍ خاصّ، حيث ترتفع منحدرات الحجر الجيريّ الضّخمة من الماء على طول شواطئ القناة الإنجليزيّة. مع مرور الوقت، تقشِّر الرّياح والأمواج طبقات الصّخور تدريجيًّا، وتكشِف عن بقايا مخلوقات مثيرة للاهتمام، اختفت من العالم منذ ملايين السّنين.
كان والد ماري نجّارًا، وهي مهنة محترمة، ولكنّها لم تكن ذات عائدٍ ماليّ كبير. لذا، سخّر هوايته لتوفير دخل إضافيّ، إذ كان يحبّ جمع البقايا المثيرة للاهتمام أثناء التّجوّل على طول الشّاطئ. مع تزايد شعبيّة علم الجيولوجيا، أصبح الأثرياء أكثر استعدادًا لدفع مبالغ كبيرة مقابل اكتشافاته. رافقت ماري والدها في جمع الحفريّات، وتعلّمت منه متعة الاكتشاف وفنّ الجمع.
توفّيَ والد ماري بمرض السِّلّ، عندما كانت في الحادية عشر من عمرها. مع ذلك، استمرّت ماري في جمع الأحافيرفصلها عن الصّخور، تنظيفها، وبيعها، لتساهم في دعم أسرتها ماليًّا.
أصبحت خبيرةً من الدّرجة الأولى في فصل الأحافيرعن الصّخور، رسمها، تشريحها، وفهم شكل الكائنات وبُنيتها. ماري آنينج | Science Photo Library
في أحد الأيّام، عثرت ماري وشقيقها جوزيف، على أحفورة غير عاديّة على الشّاطئ: جمجمة طويلة لمخلوق بدا وكأنّه مزيجًا غريبًا من الزّواحف والدّلافين. بعد بضعة أشهر، عندما كانت تبلغ من العمر 12 عامًا فقط، عثرت أيضًا على بقايا أجزاء أخرى من جسد هذا المخلوق، ممّا أكسبها لقب "صائدة" الأحافير الشّابّة على نطاق واسع. باعت ماري الأحفورة مقابل مبلغ كبير، الّتي كان يُعتقد بالبداية أنّها تمساح، ولكن تمّ التّعرّف عليها لاحقًا على أنّها إكتيوصور (Ichthyosaurus)، وهو زاحف قديم عاش في زمن الدّيناصورات.
بعد 12 عامًا، في عام 1823، اكتشفت آنينج الأحفورة الأكثر اكتمالًا لكائنٍ بحريّ آخر، وهو البليزوصور (Plesiosaurus)، وهو أيضًا زاحف قديم ولكنّه ينتمي إلى عائلة مختلفة، عاشت أيضًا في بلادنا. كما كانت آنينج أوّل من أدرك أنّ "أحجار البازهر"؛ (Bezoar) -وهي أحافير غريبة وُجدت في بطون الكائنات المتحجّرة- ليست سوى براز متحجّر يحتوي على بقايا طعام لمخلوقات قديمة. في وقت لاحق، أُطلق على هذه الأحافير اسم الكوبروليت (coprolites)، وهي تعكس النّظام الغذائيّ وأسلوب حياة الحيوانات القديمة.
يُعدُّ البحث عن الأحافير في منطقة لايم ريجيز هواية خطيرة، حيث تكشف الرّياح والأمواج الطّبقات الصّخريّة، خاصّة بعد العواصف، إلّا أنّها قد تؤدّي أيضًا إلى انهياراتٍ صخريّة. أُصيبت آنينج عدّة مرّات نتيجةً لهذه الانهيارات، حتّى أنّ كلبها لقي حتفه بعدما دُفن تحت أحدها. كانت آنينج تقوم بكلّ هذا العمل الصّعب والخطير باستخدام أدوات بسيطة، وملابس غير ملائمة- فساتين ضيّقة ومشدّ، كما كانت العادة في موضة وأزياء النّساء في القرن التّاسع عشر.
ومن بين أمور أُخرى، اكتشفت آنينج أحافير الإكثيوصور، وهو حيوان لم يكن معروفًا من قبل. أحد الإكتيوصورات الّتي عثرت عليها آنينج| Natural History Museum, London, Science Photo Library
في إنجلترا في ذلك الوقت، لم يكن ممكنًا لامرأة من الطّبقة الدّنيا مثل آنينج أن تتلقّى تعليمًا. لكن، هذا لم يوقفها، إذ استطاعت بفضل مثابرتها وإصرارها، والكثير من العمل الشّاقّ، أن تعثر على مجموعةٍ كبيرةٍ ومتنوّعة من المخلوقات الّتي لم يسبق لأحدٍ أن رآها من قبل. وخلال هذه العمليّة، طوّرت أيضًا قدرات ممتازة في التّمييز والتّشخيص، وأصبحت خبيرة من الطّراز الأوّل في فصل الأحافيرعن الطّبقة الصّخريّة، ورسم الأحافيروكذلك في التّعرّف على المخلوقات القديمة وفهم تشريحها. كان الجيولوجيّون والعلماء يلجأون إليها للحصول على المشورة والاطّلاع على النّتائج الّتي جمعتها وعلى أساليب عملها. ومع ذلك، عندما اجتمع أعضاء الجمعيّة الجيولوجيّة لمناقشة كائن البليزوصور الّذي اكتشفته، لم تتمّ دعوة آنينج إلى المناقشة لكونها امرأة. وظلّت مجهولة الهويّة تقريبًا حتّى وفاتها عام 1847، عن عمر يناهز 48 عامًا فقط.
اليوم، أصبحت آنينج معروفة أكثر ممّا كانت عليه في حياتها. فبعد سنوات من وفاتها، تحقّقت العدالة التّاريخيّة لها، عندما تمّ اكتشاف نوع جديد من الإكثيوصورات في منطقة لايم ريجيس في ثمانينيّات القرن الماضي، وتكريمًا لها سُمّي: "إكثيوصور آنينج" (Ichthyosaurus anningae). على مدار السّنوات، كُتبت عنها كتب وأُنتجت عنها أفلام. وفي عام 2010، أعلنتها الجمعيّة الملكيّة في لندن كواحدة من أكثر النّساء تأثيرًا في العلم والمجتمع.
توجّه إليها الجيولوجيّون والعلماء للاستشارة والاطّلاع على النّتائج الّتي جمعتها وعلى أساليب عملها. أحفورة بليزوصور مع ملاحظات تشريحيّة، رسمتها آنينج | Natural History Museum, London, Science Photo Library
شارولت مورشيسون (Charlotte Murchison): مشرّعة أبواب الأكاديميّة
قصّة شارلوت مورشيسون الشّخصيّة مختلفة تمامًا عن قصّة آنينج. وُلدت مورشيسون عام 1788لعائلة مرموقة: كان والدها جنرالًا في الجيش البريطانيّ، وعندما كبرت تزوّجت من ضابط مرموق- السّير رودريك مورشيسون. بفضلها وتشجيعها، طوّر زوجها اهتمامًا بالجيولوجيا، وأصبح على مرّ السّنين جيولوجيًّا ناجحًا. ومن بين أمور أخرى، كان أوّل من وصف العصر السّيلوريّ (Silurian)- الّذي يعود تاريخه إلى ما بين 400 و440 مليون سنة قبل عصرنا-، كما شغل لعدّة سنوات منصب رئيس الجمعيّة الجيولوجيّة في لندن.
رافقت مورشيسون زوجها في الرّحلات الميدانيّة الّتي قام بها في جميع أنحاء أوروبا، وأبدت اهتمامًا كبيرًا خاصّة بدراسة المعادن والجيولوجيا. ولم تكتفِ بالفضول الفكريّ فقط، بل أصرّت على حضور سلسلةٍ من المحاضرات الّتي يُلقيها الجيولوجيّ الشّهير تشارلز ليل (Charles Lyell) في كُليّة كينجز؛ king's college. وسعيًا منها للحصول على تعليم منظِّم، أدّى إصرارها في النّهاية إلى رفع الحظر المفروض على مشاركة المرأة في المحاضرات، ممّا فتح المجال أمام الجميع دون استثناء- ذكورًا وإناثًا.
قامت بجمع الأحافير، فهرستها، رسمتها، وعلى مرّ السّنين أنشأت أيضًا العديد من الرّسوم التّوضيحيّة والرّسومات الجيولوجيّة. شارلوت مورشيسون | ويكيبيديا, Camille Silvy
تُوفّيت مورشيسون في عام 1869، عن عمر يناهز 81 عامًا، بسبب مضاعفات مرض الملاريا المتأخّرة الّتي أصيبت بها خلال إحدى الرّحلات البحثيّة الّتي شاركت بها في شبابها. لم تكن مورشيسون مجرد مرافقة في تلك الرّحلات، بل على غرار آنينج، جمعت مورشيسون الأحافير وفهرستها ورسمتها، وعلى مرّ السّنين أنشأت أيضًا العديد من الرّسومات التّوضيحيّة والجيولوجيّة. ظهرت رسومها التّوضيحيّة في منشورات علميّة لكثير من الباحثين -جميعهم رجال- الّذين استفادوا من علمها وموهبتها وحصلوا على التّقدير بدلاً منها. تقديرًا لمساهمتها، قرر جيمس سويربي (James Sowerby)، تسمية أحفورة من الأمونيت على اسمها؛ "لودويغا مورشيسونا" (Ludwigia Murchisonae) وهي نوع من اللافقريّات البحريّة.
في عام 2020، صدر فيلم "أمونيت" الذي صوّر لقاء آنينج ومورشيسون. التقت الاثنتان عندما جاء آل مورشيسون إلى لايم ريجيس كجزء من رحلاتهم الجيولوجيّة، وأصبحتا صديقتين مقربتين ذواتي اهتمامات مشتركة. للأسف، اختار صنّاع الفيلم التّركيز على علاقتهما الشّخصيّة، بدلًا من تسليط الضّوء على التقاء عقليّ وثقافيّ لامرأتين لامعتين ورائدتين في مجالهما. هل كانوا سيتعاملون مع الأمر بهذه الطّريقة لو كانوارجالًا؟
يوثّق الفيلم لقاء آنينج ومورشيسون. ملصق فيلم "أمونيت".
أليس وودوارد (Alice Woodward): رسّامة الدّيناصورات
وُلدت أليس وودوارد عام 1862 لأبٍ جيولوجيّ عمل في مجموعات متحف التّاريخ الطّبيعيّ في لندن. كانت الرّابعة من بين سبعة أطفال، تلقّى جميعهم تعليمًا صارمًا، حيث شجّعهم والدهم على الدّراسة والرّسم. أدّى الاختلاف الجندريّ السّائد في ذلك الوقت إلى توجيه جميع بنات عائلة وودوارد ليصبحن رسّامات، بينما أصبح الأبناء علماء. أثناء نشأتها، ساعدت أليس والدها وزملاءَه في توضيح أبحاثهم العلميّة ونُشرت رسوماتها في مقالاتهم. ساعدها هذا العمل على كسب لقمة العيش أثناء دراستها الفنّيّة. كما قامت لاحقًا برسم العديد من كتب الأطفال، بما في ذلك: "مغامرات أليس في بلاد العجائب" و"بيتر بان".
تكمن عظمتها في قدرتها على بثّ الحياة في لوحات مخلوقات ما قبل التّاريخ. أليس وودوارد| ويكيبيديا, Jack1956
تكمن عظمة وودوارد العلميّة في قدرتها على إضفاء الحياة على رسومات المخلوقات ما قبل التّاريخ، الّتي لم يتبقَ منها سوى الأحافير. حتّى الهياكل العظميّة الأحفوريّة الأكثر اكتمالًا للدّيناصورات الّتي تمّ اكتشافها لا تكشف عن معلومات كافية لنا لتحديد أو حتّى التّكهّن بأيّ درجة من اليقين، كيف تبدو هذه المخلوقات المذهلة حقًّا. كيف كانت عضلاتهم تمتدّ عبر العظام؟ هل كان الجلد الّذي يغطّي العضلات ناعمًا أم خشنًا؟ وما كانت ألوانها؟
اعتمد تركيب الهياكل العظميّة الأحفوريّة على الحيوانات الموجودة في يومنا، والّتي يشبه هيكلها العظميّ إلى حدٍّ ما هياكل الحيوانات القديمة. على سبيل المثال، حصل الديناصور العاشب "إغوانادون" (Iguanodon) على اسمه لأنّ أسنانه -الّتي اكتشفها الباحث جدعون مانتل (Gideon Mantell)- كانت مشابهة في هيكلها لأسنان الإغوانا (Iguana). من أجل رسم الحيوان الحيّ بناءً على الهياكل العظميّة فقط، والّتي عادةً ما تكون هياكل عظميّة جزئيّة للغاية، كان يتطلّب الأمر معرفة واسعة في الجيولوجيا وعلم الحيوان، إلى جانب خيال متطوّر وإبداعيّ.
اعتمد رسم الحيوان الحيّ على الهياكل العظميّة وحدها، وكان يتطلّب الأمر معرفة جيولوجيّة وحيوانيّة، بالإضافة إلى الخيال المتطوّر والإبداعيّ. أحد الديناصورات الّتي رسمتها وودوارد | ويكيبيديا, Knipe, Henry Robert
حرصت وودوارد في رسوماتها على وضع الكائنات في بيئتها المعيشيّة؛ فهي لم تكتفِ فقط بتوثيق شكل الهيكل العظميّ وبنية الجسم للحيوان المنقرض، بل وصفت كذلك المناظر الطّبيعيّة والنّباتات وفقًا للفترة الزّمنيّة الّتي عاشوا فيها، بنفس الاهتمام الّذي أولته للبُنية الفسيولوجيّة. وعلى الرّغم من أنّهم كانوا يعرفون بالفعل أن الدّيناصورات والبشر لم يعيشوا في ذلك الوقت، إلّا أنّها اعتادت أيضًا أن ترسم شخصيّة بشريّة في رسوماتها التّوضيحيّة، كمقياس لحجم الحيوان.
تُوفيت أليس وودوارد عام 1951، في نهاية مسيرة طويلة من الرّسم وتوضيح الأعمال الأدبيّة، إلى جانب إعادة بناء الرّسوم المتحرّكة للدّيناصورات وغيرها من المخلوقات القديمة.
حرصت على وضع الكائنات في بيئتها المعيشيّة، ولم تكتفِ بمجرد توثيق شكل الهيكل العظميّ وبُنية الجسم. ديناصور رسمته وودوارد | ويكيبيديا, Joseph Smit
السّيّدة الملتحية
كان على آنينج، وودوارد، ومورشيسون أن يشققن طريقهنّ الخاصّ، في واقعٍ اجتماعيّ لم يسمح للمرأة بالاندماج في العالم العلميّ. لقد تغيّر هذا الواقع كثيرًا منذ ذلك الحين، ولكن في يومنا هذا، وحتّى في البلدان الديمقراطيّة، حيث لا توجد قيود رسميّة تمنع النّساء من الحصول على التّعليم وممارسة العلوم، لا يزال مجال علم الأحافيريعتبر ذكوريًّا بشكلٍ كبير. كما أنّ لصور باحث الدّيناصورات الجريئة الّتي تأتي إلينا من الثّقافة الشّعبيّة مساهمة في تثبيت هذا الاعتبار، مثل: شخصيّة باحث الدّيناصورات آلان غرانت في فيلم "الحديقة الجوراسيّة" (Jurassic Park) أو عالمة الآثار إنديانا جونز في السّلسلة الرّائجة الّتي تحمل اسمه.
مشروع للباحثين الشّباب في علم الأحافير،الّذين يحاولون تغيير نظرتنا لعلماء الأحافير. ملصق فيلم "السّيّدة الملتحية".
من المبادرات الّتي تسعى إلى تغيير هذا التّصوّر هو مشروع "السيّدة الملتحية". الّذي يقوده مجموعة من الباحثين الشّباب في علم الأحافير. يهدف المشروع إلى تغيير التّصوّر القائل بأنّ الباحثين الميدانيّين الّذين يقومون بالتّنقيب عن الدّيناصورات يجب أن يكونوا ذكورًا ملتحيين. قام الفريق بإنشاء فيلم يصوّر حياتهم كباحثين في مجال الدّيناصورات، لزيادة الوعي بهذه القضيّة وتزويد الفتيات الصّغيرات بشخصيّة أنثويّة ينظرن إليها كنموذج لمستقبلهنّ، وألّا يكنّ مجرد مساعدات ورسامات يعملن تحت ظلّ الباحث الذّكر، بل باحثات يقفن في المقدّمة ويحصلن على التّقدير الكامل لعملهنّ.