العيون - من أروع الأعضاء وأكثرها تطورًا في جسم الإنسان، كيف تعمل؟ وكيف تُعالَج المشاكل الشّائعة بها؟

استيقظنا في الصباح على صوت زقزقة العصافير، ورأينا السّماء المشرقة، وأسرعنا لاحتساء فنجان من القهوة السّاخنة الزّكيّة. وهكذا، دون أن نلاحظ، قمنا بتنشيط حواسنا الخمس جميعها. تعكس لنا الحواسّ الخمس، والحواسّ الأخرى الّتي لاقت أقلّ اهتمامًا، الواقع الخارجيّ، وتزوّدنا بمعلومات فوريّة عن الأحداث في البيئة، وأيضا عن عمل أجسامنا. تساهم كلّ من الحواسّ الخمس - البصر، السّمع، اللّمس، التّذوّق والشّمّ - في فهم "لغز" العالم من حولنا. لذلك، عندما يتعرّض أحدها للضّرر أو لا يعمل بشكل صحيح، نقوم بتلقّي معلومات أقلّ، وفي بعض الحالات، قد نتصرّف حتّى بشكل قد يضرّنا، فعلى سبيل المثال، قد يؤدّي انعدام حاسة الشّمّ إلى عدم تمييز وجود حريق.

وفقًا لاستطلاعٍ أُجري في بريطانيا، فإنّ تضرّر حاسّة البصر له الأثر الأكبر على الإنسان. عادةً ما تكون المعلومات البصريّة الّتي نتلقّاها ضروريّة لنا لأداء أنشطتنا الرّوتينيّة. عندما تتضرّر أو تُفقد تمامًا القدرة على الرّؤية، تصبح المهارات اليوميّة الّتي تبدو بديهيّة أكثر صعوبةً: فهم البيئة المحيطة بنا، الوجود في الفضاء العامّ والابتعاد عن المخاطر، القراءة، التّعلّم، القيادة، التّعرّف على الأشخاص والأشياء، وتمييز إيماءات التّواصل غير اللّفظي وما إلى ذلك. إذا كان الأمر كذلك، فمن المهمّ جدًّا أن نحافظ على القدرة البصريّة الأساسيّة، والعمل على تحسين الرّؤية الضّعيفة.


من المهمّ الحفاظ على صحّة العين والقدرة على الرّؤية. فحص النظر | Peakstock, Shutterstock

كاميرا متطوّرة

تُعدّ العين البشريّة عضوًا رائعًا. حيث تسمح لنا برؤية واضحة للعالم بألوانه وتفاصيله، تمييز مجموعة غنيّة من ملايين ظلال الألوان، رؤية ثلاثيّة الأبعاد في ظروف رؤية مختلفة، وتلقّي معلومات حول الأجسام القريبة والبعيدة. في الواقع، إذا قمنا بمقارنة نظام الرّؤية البشريّ بالكاميرا، سنلاحظ أنّ العين تعتبر كاميرا متطوّرة للغاية، ذات قدرة على تغيير شكلها وتكيّفها مع المسافة من جسم معيّن، وتنظيم كمّيّة الضّوء بدقّة وسرعة. كما وتعمل العين كجهاز استشعار الّذي ينقل الضّوء إلى غرفة معالجة بيانات متقدّمة، ونظام يترجم هذه المعلومات لفيلم ثلاثيّ الأبعاد غنيّ بالألوان الزّاهية.

على الرّغم من أنّ عيوننا مبهرة، إلّا أنّ العديد من الحيوانات تتمتّع بقدرات بصريّة مختلفة، وحتى تتفوّق على نظرنا. طوّرت الحيوانات مهارات رؤية مختلفة تبعًا لاحتياجاتها، مثل الرّؤية اللّيليّة الممتازة، مجال رؤية واسع، الرّؤية عن بعد، وتمييز الألوان الخاصّة. تساهم هذه القدرات بمساعدة الحيوانات على البقاء والتّكيّف في ظروف معيشيّة متغيّرة.

قد يرتبط تطوّر مهارات في مجال معيّن لدى الحيوانات، مع مهارات أقلّ تطوّرًا في مجال آخر. وهذا هو الحال أيضًا في مجال الرؤية. على سبيل المثال، تستطيع أسماك القرش أن ترى أبعد من البشر بعشر مرات، بما في ذلك تحت الماء وفي الظّلام. تستند أسماك القرش على حواسّ الرّؤية والشّمّ، لتحديد موقع الفريسة من مسافة بعيدة. مع ذلك، يبدو أنّ لديهم القدرة على تمييز مجموعة محدودة من الألوان مقارنة بنا، ربّما لأنّ رؤية الألوان ليست مهمّة في بقائهم.


لديهم القدرة على الرّؤية لمسافة بعيدة، ولكنّهم يميّزون مجموعة محدودة من الألوان. القرش الأزرق| Martin Prochazkacz, Shutterstock

مسلاط ضوئيّ للصّورة

تخترق أشعة الضّوء الواردة من البيئة داخل العينيْن، بحيث تتمّ معالجة الضوء إلى الصّورة الّتي نراها. يبدو الأمر رائعًا، لكن كيف يعمل ذلك بالضّبط؟ أجزاء العين الّتي تمنحنا القدرة على الرّؤية هي القرنيّة، القزحيّة، العدسة، الشّبكيّة والعصب البصريّ.

تلتقي أشعّة الضّوء القادمة من البيئة أوّلًا بالجزء الخارجيّ من العين - القرنيّة، وهي عبارة عن نسيج شفّاف الّذي يحمي العين من دخول الموادّ الضارة. بالأساس، تقوم القرنيّة في تركيز أشعة الضّوء، قبل أن تصل إلى الأجزاء الدّاخليّة من العين. القزحيّة هي الجزء الملوّن من العين - تظهر بشكل رئيسيّ باللّون البنيّ، الأزرق، الأخضر والرّماديّ - وفي وسطها الحدقة، وهي الثّقب الأسود الّذي يسمح للضّوء بالمرور. تُعدّل حدقة العين حجمها حسب كمّيّة الضّوء الّتي تصل إلى العيْن: يتقلّص حجمها استجابة للإضاءة القويّة، بحيث تسمح بمرور قليل من أشعّة الضّوء. وبهذه الطريقة يتمّ تجنّب الانبهار (Glare) وضبابيّة الرّؤية. من ناحية أخرى، تتوسّع حدقة العين في الظّلام، لتسمح بدخول أكبر عدد ممكن من أشعّة الضّوء إلى العين، ممّا يمكّن الرّؤية الجيّدة على الرّغم من قلّة الضّوء.

المحطّة التّالية في مسار أشعة الضّوء هي العدسة. تقوم العدسة بتركيز أشعّة الضّوء، وتعديل شكلها ليتناسب مع مسافة العين من جسم معين. إنّ تركيز الضّوء وكسره بمساعدة القرنيّة والعدسة يتيح للعين توجيه أشعّة الضّوء، بطريقة مركّزة مباشرة إلى شبكيّة العين، والّتي بدورها تترجم الضّوء إلى إشارات كهربائيّة، في طريقها إلى العصب البصريّ والدّماغ. بالتّالي، تعتبر شبكيّة العين الشاشة النّهائيّة لأشعة الضّوء داخل العين، وعندما لا تصل إليها أشعّة الضّوء بشكل مركّز ودقيق، تتضرّر القدرة على الرّؤية، الأمر الّذي قد يتجلّى في انخفاض حدّة البصر، أو ضبابيّة الرّؤية، أو حتّى فقد البصر.


يدخل الضّوء إلى العيْن ويتمّ معالجته إلى صورة في الدّماغ. هيكل العيْن | Rhcastilhos, translated by User:benherz. and Jmarchn, Wikipedia

شبكيّة العيْن والنّقرة

كما ذكرنا، فإنّ أشعّة الضّوء الّتي تأتي من البيئة المحيطة تدخل العين وتنحرف مرَّتين، عن طريق القرنيّة والعدسة، لتركيزها إلى وجهتها النّهائيّة - نقطة معينة في شبكيّة العين تسمّى النّقرة المركزيّة (fovea centralis). النّقرة هي منطقة مجوّفة من شبكيّة العين، حيث يوجد أعلى تركيز لمستقبِلات اللّون. تمكّننا هذه المستقبلات من الرّؤية المركزيّة (Central Vision).

تعتبر الرّؤية المركزيّة هي المهارة الرّئيسة الّتي تساهم في عمليّة الرّؤية. هذا هو في الواقع جزء من المجال البصريّ الّذي سنركّز عليه، تمامًا كما هو الحال عند قراءة هذه الكلمات. هذه المهارة مهمّة للعمليّات الأساسيّة مثل الرّؤية عن بعد، القراءة والتّعرّف على الوجوه.

عندما يحدث تغيّر في قدرة القرنيّة أو العدسة على توجيه أشعّة الضّوء الدّاخلة للعين، أو عندما تتغيّر بُنية العين، فإنّ أشعّة الضّوء قد لا تصل إلى النّقرة. نتيجةً لذلك، تنخفض جودة الرّؤية، وقد نعاني من عدّة اضطرابات البصريّة. من المهمّ أن نفهم أنّ معظم صعوبات الرّؤية الشّائعة لا تنتج عن الأمراض، بل عن تغيّرات في البُنية الّتي يمكن تصحيحها بوسائل خارجيّة، مثل النّظارات، العدسات اللّاصقة أو الجراحة.

قصر النّظر

إذا كنت ترتدي نظّارات، تقترب من التّلفاز لتقرأ التّرجمة، أو تستصعب التّعرّف على أصدقائك عن بعد، فقد تكون واحدًا من ثلاثة ملايين إسرائيليّ يعانون من صعوبة معيّنة في الرّؤية. قصر النّظر (Myopia) هو ضعف البصر الأكثر شيوعًا في العالم. تشير التّقديرات إلى أنّ حوالي ثلاثين بالمائة من سكّان العالم يعانون من قصر النّظر، ومن المتوقّع أن يرتفع العدد إلى خمسين بالمائة بحلول عام 2050. يعاني الأطفال والشّباب في شرق آسيا، وخاصّة في الصّين، اليابان، سنغافورة، كوريا الجنوبيّة وتايوان من قصر النّظر بمعدّلات أعلى، حوالي 80-90 بالمائة.

في حالة قصر النّظر، لا تصل أشعّة الضّوء الّتي تدخل العين إلى وجهتها بشكل دقيق - النّقرة - بل قبلها بقليل. ونتيجة لذلك، تصبح الرّؤية عن بعد غير واضحة. في هذه الحالة، تضعف الرّؤية البعيدة، وأحيانًا يصاحبها الصّداع، لكنّ الرّؤية القريبة تظلّ طبيعيّة. تنقسم أسباب قصر النّظر إلى عوامل جينيّة-خلقيّة، والّتي تكون قدرتنا على التّأثير عليها محدودة، وعوامل سلوكيّة – أي كيف نستخدم أعيننا بشكل يوميّ.

تعزو العديد من الدّراسات الزّيادة في عدد المصابين بقصر النظر في العقود الأخيرة بشكل رئيسيّ إلى العوامل السّلوكيّة، والّتي تنطوي على الاستخدام المطوّل للرّؤية قصيرة المدى. نظرًا لأنّ جيناتنا لم تتغيّر كثيرًا في الآونة الأخيرة، تربط الدّراسات زيادة حالات قصر النّظر بالتّطوّرات الاجتماعيّة، مثل زيادة عدد سنوات الدّراسة، وساعات العمل الطّويلة أمام الحاسوب، وانخفاض الوقت الّذي نقضيه خارج المنزل. كذلك فإنّ الاستخدام واسع النّطاق والمتزايد للهواتف الذّكيّة ليس مفيدًا لصحّة أعيننا: إضافةً إلى كوْنها تتطلّب منّا التّركيز المطوّل والمستمرّ، الذي قد يلحق الضّرر بالرّؤية، تصدر هذه الأجهزة ضوءًا أزرق، الّذي يمكن أن يؤدّي إلى تلف خلايا شبكيّة العيْن.


ضعف البصر الأكثر شيوعًا في العالم. في حالة قصر النّظر، يصل شعاع الضّوء إلى نقطة قبل شبكيّة العيْن| ויקיפדיה, נחלת הכלל

قصو البصر الشّيخوخيّ وطُول النّظر

عندما نجلس في مقهى، ونقوم باستخدام هاتفنا الذّكيّ لتصفّح شبكات التّواصل الاجتماعيّ، وننظر من حين لآخر للتّحقّق ممّا إذا كان طعامنا في طريقه إلينا، فإنّنا نستخدم آليّة التّكيّف (Accommodation) الخاصّة بعدسة العين. التّكيّف هو قدرة عضلات أعيننا على تغيير شكل العدسة، تبعًا للمسافة الّتي ننظر إليها، وذلك بهدف السّماح بانحراف الضّوء الطّبيعيّ. عند النّظر إلى مسافة بعيدة، تسترخي عضلات العدسة ويصبح شكلها مسطّحًا، فتقلّ قدرتها على انكسار الضّوء - وهي ظروف مناسبة للرؤية عن بعد. من ناحية أخرى، عند النّظر عن قرب (حوالي 30 سم من العين) تنقبض العضلات، وتصبح العدسة أكثر محدّبة وتزداد قدرتها على انكسار الضوء، ممّا يخلق ظروفًا مناسبة للرؤية قصيرة المدى. وبفضل هذه المرونة الهيكليّة، تصل أشعة الضّوء إلى نقطة النّقرة في شبكيّة العين، ونرى بوضوح - سواء من مسافة قريبة أو من مسافة أبعد-. 

عادةً، يولد البشر مع قدرة تكيّف كبيرة، حيث لا يتطلّب التّنقّل بين الرّؤية القريبة والرّؤية البعيدة أيّ جهد من أعيننا. مع ذلك، تتناقص هذه القدرة مع تقدّم العمر، بحيث يُفقد نصفها بعمر 25 عامًا تقريبًا. ونتيجةً لذلك، تقلّ قدرة العين على تكيّف العدسة وفقًا للمسافة الّتي تأتي منها أشعّة الضّوء بشكل دقيق؛ لا تنحرف الأشعّة بشكل جيّد كما كانت في السّابق، ولا تصل بدقّة إلى نقطة النّقرة بل تتجاوزها، ممّا يؤدّي إلى ضبابيّة الرّؤية، المعروف باسم طول النّظر، أو قصوّ البصر الشّيخوخيّ (Presbyopia). على عكس قصر النّظر، يستصعب الأشخاص الّذين يعانون من طول النّظر أو قصوّ البصر الشّيخوخيّ رؤية الأشياء القريبة، بينما تظلّ الرّؤية البعيدة طبيعيّة. يبدأ الانخفاض في حدّة البصر في سنّ 38-45 عامًا تقريبًا، ويؤثّر إلى حد ما على جميع السّكّان تقريبًا بدءًا من سنّ 55 عامًا فما فوق.

على الرّغم من صعوبة في الرّؤية عن قرب في كلا طول النّظر وقصو البصر الشّيخوخيّ، إلّا أنّهما ناتجان عن أسباب مختلفة. يعتبر طول النّظر "الحقيقيّ" شائعًا بشكل رئيسيّ عند الأطفال، ويمر في بعض الأحيان من تلقاء نفسه، بينما تزداد فرصة الإصابة بقصو البصر الشّيخوخيّ مع تقدّم العمر. بالإضافة إلى ذلك، تختلف بنية عدسة العين في كلاهما: تكون عدسة العين أكثر صلابةً في قصو البصر الشّيخوخيّ، ممّا يؤثّر على تركيز أشعة الضّوء على شبكيّة العين، بينما تكون بنية مقلة العين أقصر من الطّبيعيّ في طول النّظر، ممّا يتسبّب في انتقال أشعّة الضّوء أن تركّز في الجزء الخلفيّ من العيْن.


الصّورة العلويّة تظهر الرّؤية الطّبيعيّة. وفي الأسفل يظهر قصر النّظر حيث يصل شعاع الضّوء إلى ما وراء الشّبكيّة قليلًا بسبب ضعف مرونة عدسة العين |  BruceBlaus, Wikipedia

اللّابؤريّة 

هناك حالة أخرى تؤثّر على جودة الرّؤية تسمّى اللّابؤريّة (Astigmatism) أو حرج البصر، ويمكن أن تسبّب ضبابيّة الرّؤية سواء من مسافة بعيدة أو قريبة. يكمن السّبب الرئيسيّ لضعف البصر هذا هو التّغيّر في بنية القرنيّة، وفي عدد قليل من الحالات أيضًا تغيّر في بنية العدسة.

يكون شكل قرنيّة العين النموذجيّة مستديرة ومتناظرة، ولكن عندما يتغيّر شكلها، تنكسر أشعة الضّوء الّتي تمرّ عبرها بشكل غير متساوٍ، بحيث تتناثر وتتقسّم إلى عدّة نقاط بؤريّة في الشّبكيّة، بدلًا من الوصول إلى نقطة واحدة، ممّا يؤدّي إلى ضباب الرّؤية. يكون هذا بالأساس في اللّيل، وذلك لأنّ حدقة العين تتوسّع في الظّلام، وتمتصّ المزيد من أشعّة الضّوء، ممّا يسبّب تأثير ضباب الرّؤية. تكون النّتيجة "غباش" الأشياء، وظلالًا حول الكلمات أثناء القراءة، وحدودًا غير واضحة وحتّى رؤية مزدوجة.


في العين المصابة باللابؤريّة، تتناثر أشعّة الضّوء وتشكّل عدة نقاط بؤريّة على شبكيّة العين بدلًا من الوصول إلى نقطة واحدة | Slave SPB, Shutterstock

الحلّ الأبسط – النّظّارات

النّظّارات الطّبّيّة - عدستان متّصلتان بجسر يوضع على الأنف، وذراعان مفصلان توضع على الأذنيْن - تبدو لنا اليوم كحلّ بسيط وواضح لمشاكل الرّؤية. لكن قبل اختراعها، كان على أولئك الذين ولدوا ببصر متضرّر أو ضعيف أن يديروا حياتهم برؤية ضبابيّة، والّتي في بعض الحالات تدهورت تدريجيًّا إلى العمى الكامل. تعود الإشارات الأولى للعدسات في التّاريخ إلى مصر واليونان القديمة، على الرّغم من أنّه ليس من الواضح ما إذا كان سكّان هذه الأماكن استخدموها لتحسين الرؤية.

ليس من الواضح لمن يجب نسب اختراع أوّل نظارات طبّيّة، حيث أنّ تطويرها كان عمليّة تدريجيّة استغرقت مئات السّنين. يميل المؤرّخون إلى الإشارة إلى الرّاهب الإيطاليّ أليساندرو ديلا سبينا، الّذي عاش في أواخر القرن الثّالث عشر، لكن لا توجد سجّلات موثوقة يمكنها التّحقّق من هويّته. أدّى اختراع الطّباعة وتوسيع نطاق التّعليم في عصر النّهضة، إلى زيادة في طلب النّظارات الّتي كانت رمزًا للحكمة والمعرفة. في البداية، كانت النّظارات رمزًا للمكانة الّتي تمثّل الثّروة؛ تمّ بيعها كمنتج فاخر مصنوع من الكريستال، وكانت تستخدم بشكل رئيسيّ من قبل الطّبقة الأرستقراطيّة. اليوم، بعد مرور مئات السّنين والتّغيّرات الاجتماعيّة، تعتبر النّظارات منتجًا أساسيًّا، وبعضها مصنوع من البلاستيك ومتوفّر لمعظم شرائح المجتمع.

سالب أو موجب؟

تمنح النّظارات للبعض منّا القدرة على الرّؤية بشكل أكثر وضوحًا. كيف تقوم بذلك؟ الغرض من النّظارات هو مساعدة العين باستعادة قدرتها على انكسار أشعّة الضّوء، أي تركيز أشعّة الضّوء الّتي انكسرت بشكل غير صحيح، وتوجيهها نحو النّقرة. لتحقيق ذلك، تمّ تزويد النّظارات بعدسات تقوم بكسر أشعّة الضوء، بطريقة مشابهة للقرنيّة وعدسة العين. يتمّ قياس الرّقم الموجود على عدسة النّظارة بوحدات الكسيرة أو ما يُعرف بالـ "ديوبتر" (Dioptre)، ويشير إلى قدرة العدسة على كسر الضّوء: كلّما زاد عدد الديوبتر، زادت قدرة الانكسار، ممّا يساعد على التّعويض عن مشكلة رؤية أكثر خطورةً.

في حالة قصر النّظر، يتمّ استخدام عدسة ذات رقم سالب (-)، وهي رقيقة في المنتصف وأكثر سماكةً في الأطراف، والّتي تهدف إلى "سحب" أشعّة الضّوء الّتي "سقطت" قبل شبكيّة العين، بحيث تقوم العدسة بإبعادها ومن ثمّ تركيزها في شبكيّة العين بالضبط. أمّا في حالة طول النظر، يتم استخدام عدسة ذات رقم موجب (+)، بحيث تكون أكثر سمكًا في الوسط وأرقّ عند الحواف. يساعد هذا النّوع من العدسات في "سحب" أشعّة الضّوء الّتي "سقطت" بعد الشّبكيّة، ومن ثمّ تقريبها نحوها، حتّى تصل إلى وجهتها بدقّة.

إذا كان الأمر كذلك، فإنّ النّظارات مصمّمة لتحسين رؤيتنا الحاليّة، حتّى نتمكّن من الرّؤية بوضوح، وهي حالة تُعرَف باسم الرّؤية 6/6.


على اليسار عدسة مقعرة ذات رقم ديوبتر سالب لتصحيح قصر النّظر، وعلى اليمين عدسة محدّبة ذات رقم موجب لتصحيح طول النظر| petrroudny43, Shutterstock

6/6 هل هو الأفضل؟ 

يعرف الكثيرون مصطلح "رؤية 6/6" ويستخدمونه لوصف الرؤية الجيدة، ولكن ما معنى هذه الأرقام بالضّبط؟ إنّه في الواقع مقياس لحدّة البصر. بإيجاز، يمكن تخصيص رقم لكلّ عين من خلال اختبار الرّؤية. يعبّر هذا الرّقم عن النّسبة بين قدرة عين الشّخص الخاضع للفحص إلى قدرة العين ذات الرّؤية الطّبيعيّة، على رؤية جسم معين بوضوح من مسافة ستة أمتار.

في فحص الرّؤية التّقليديّ، يتمّ وضع الشّخص الخاضع للفحص على بعد ستّة أمتار من لوحة بها حروف أو أرقام بأحجام مختلفة، ويتمّ فحص أصغر علامة الّتي يتمكّن الشّخص من قراءتها والتّعرّف عليها بسهولة. ثمّ يُطلب من شخص صاحب رؤية طبيعيّة أن يقرأ نفس الإشارة، ويتمّ التّحقّق من الحدّ الأقصى للمسافة الّتي يتمكّن من القيام بذلك منها. إذا كان الشّخص الخاضع للفحص يتمتّع برؤية طبيعيّة، فسيرى كلا المشاركين الإشارة من نفس المسافة - ستّة أمتار. يتمّ تحديد حدّة رؤية الشّخص الخاضع للفحص على أنّها 6/6، وهي تعتبر متوسّط ​​الرّؤية العاديّة: يمثّل البسط  ستّة الأمتار من المسافة بين الشّخص الخاضع للفحص ولوحة الاختبار، بينما يمثّل المقام (الّذي يختلف عدده من شخص لآخر) المسافة الّتي ترى منها "العين الطبيعيّة"، أصغر جسم يمكن رؤيته من مسافة ستة أمتار. 

يتمّ التّعبير عن ضعف البصر عندما تكون قيمة المقام أكبر من 6. على سبيل المثال، يمكن للشّخص الخاضع للفحص الحاصل على علامة 6/12 أن يتعرّف على علامة معيّنة من مسافة ستّة أمتار، بينما يمكن للشّخص ذي الرّؤية العاديّة، أن يتعرّف على نفس العلامة من ضعف المسافة، اثنيْ عشر مترًا. أي بالمقارنة مع شخص يتمتّع برؤية طبيعيّة، يجب على الشّخص أن يقف أقرب من لوحة الاختبار ليرى بنفس الحِدّة، ممّا يشير إلى أنّ رؤيته أقلّ جودةً.

هل هناك رؤية أفضل من 6/6؟ نعم! سيتمكّن الشّخص الّذي يرى 6/5 من التّعرّف على علامة بحجم معيّن من مسافة ستّة أمتار، بينما الشّخص الّذي تكون رؤيته طبيعيّة سيتعرّف على نفس العلامة من مسافة أصغر - خمسة أمتار. وبالتّالي، كلّما كان المقام أكبر من البسط، تكون حدّة البصر أضعف، وفي الحالات الّتي يكون فيها المقام أصغر من البسط، تكون القدرة البصريّة أفضل من متوسّط ​​الرّؤية العاديّة.


تقوم عدسة النّظارات المحدبة أو المقعّرة أو غير المتناظرة بتوصيل أشعّة الضّوء إلى المنطقة المرغوبة من شبكيّة العين. في السّطر العلويّ أنواع الرّؤية غير الطبيعيّة وفي السّطر السّفليّ عدسات بأشكال مختلفة تعمل على تصحيح اللابؤريّة، طول النّظر وقصر النّظر | Peter Hermes Furian, Shutterstock

الْحَوَل

تستلزم الرّؤية الطّبيعيّة عملًا منسّقًا لكلتا العينين. يتضمّن ذلك العمل المتزامن المذهل لستّة العضلات المسؤولة عن العيون. عندما تنقبض إحدى العضلات، تسترخي العضلة المقابلة، وهكذا تُعدّل العينان تركيزها من نقطة إلى أخرى، وتتكوّن صورة واضحة ثلاثيّة الأبعاد. عندما يتعرّض النّظام الّذي يتحكّم في حركة العين للضّرر، قد يتضرّر أيضًا التزامن بين العينين. تعتبر هذه أسباب نشوء الحول، والّذي يمكن أن يكون مؤقّتًا أو دائمًا، خلقيًّا أو مكتسبًا، ويميل في أيّ من الاتّجاهين.

لا يعدّ الحول مظهريًّا فحسب، بل يمكن أن يسبّب رؤية مزدوجة أو ضبابيّة الرّؤية، كما يمكن أيضًا أن تتضرّر الرّؤية العميقة، والّتي تتواجد في العيون السّليمة بفضل التّزامن بين العينين. تساعدنا رؤية العمق على تقدير المسافة بين الأشياء المختلفة، ونحتاجها للتّنقّل والتّواجد في الفضاء العامّ والتّحرّك فيه. تبلغ نسبة انتشار الحول بين السّكّان حوالي ثلاثة بالمائة، وهو أكثر شيوعًا عند الأطفال منه عند البالغين.

عندما يصاب الأطفال بالحول من المهمّ جدًّا التّعرّف على المشكلة بسرعة وعلاجها، وذلك لتجنّب صعوبات الرّؤية في المستقبل. المضاعفات الأكثر شيوعًا للحول هي الغمش أو ما يعرف بالعين الكسولة ( Amblyopia أو lazy eye) - وهي حالة تضعف فيها الرّؤية في العين الحوليّة، ويتوقّف الدّماغ عن استخدامها. إذا لم يستقبل الشّخص العلاج المناسب، يمكن للعين الكسولة أن تلحق الضّرر الدّائم بالقدرة على الرّؤية، وحتّى تسبّب العمى التّامّ. كذلك، من المهمّ الانتباه إلى الحول الذي يظهر فجأةً، خاصّة عند البالغين. يشير هذا النّوع من الحول في كثير من الحالات إلى حالة عصبيّة طارئة، تتطلّب فحصًا طبّيًّا سريعًا.


المضاعفات الشّائعة للحول هي العين الكسولة. فتاة ترتدي رقعة عين لعلاج كسل العين| Marinesea, Shutterstock

لون العينين

ينعم معظم الناس في العالم بعيون بنيّة - قزحية بنيّة، على وجه الدّقّة. أما ثاني أكثر لون عيون شيوعًا هي العيون الزّرقاء، تليها العيون الخضراء والألوان الأخرى. يتغيّر لون العيون حسب تركيز الميلانين في خلايا قزحيّة العين: عندما تكون كمّيّة الميلانين كبيرة، تبدو القزحية داكنة بالنّسبة لنا، بينما عندما تكون قليلة فنحصل على عيون أفتح، على سبيل المثال اللّون الأزرق.

الميلانين هي مادة صبغيّة، أي مادّة يمكنها امتصاص أشعّة الضوء وعكسها أو تبعثرها، كما أنّها تؤثّر على لون العديد من الأعضاء. فهي أيضًا المادّة التي تعطي الجلد والشعر لونهما الفريد. إذا نظرنا بعناية إلى عين معينة، يمكننا أن نلاحظ أن لونها ليس موحدًا تمامًا، بل مكون من عدة درجات وظلال، وتكون الألوان الداكنة إلى جانب الفاتحة، وذلك بسبب عدم تساوي تركيز الميلانين في جميع مناطق القزحيّة.

لا يعتبر دور الميلانين جماليًّا فحسب، بل أيضًا لحماية الخلايا. يمتصّ الميلانين أشعّة الشّمس، ويقوم بإرجاع بعضها إلى الخارج. ولهذا، كلّما زاد تركيز الميلانين، قلّت فرصة إيذاء أعيننا من أشعّة الشّمس. في العيون الفاتحة، الّتي تحوي تركيزًا منخفضًا من الميلانين، يمكن لأشعة الشمس أن تخترق الأجزاء الدّاخليّة للعين بسهولة أكبر؛ وبالفعل فإنّ العيون الفاتحة أكثر عرضة للإصابة بالبهر، وقد وجدت علاقة ذات دلالة إحصائيّة بين العيون الفاتحة وزيادة خطر الإصابة بسرطان الجلد. مع ذلك، يبدو أنّ العيون الدّاكنة تحمل أيضًا مخاطر صحّيّة: فالأشخاص ذوو العيون الدّاكنة لديهم ميل متزايد للإصابة بإعتام عدسة العين (Cataract)، نتيجة التّعرّض لأشعة الشمس.

على الرّغم من أنّ أشعّة الشّمس قد تلحق الضرر بالعينين كما ذكرنا، فمن المهمّ أن نتذكّر أنّ التّعرّض المتحكّم لأشعّة الشّمس له فوائد صحّيّة، سواء في مجال نموّ العين أو في الحفاظ على الإيقاعات البيولوجيّة الطّبيعيّة، وتجنّب ذلك تمامًا يمكن أن يكون ضارًّا. لذا، كما هو معتاد لحماية الجلد من أشعّة الشّمس بمساعدة التدّابير الوقائيّة، علينا أيضًا الانتباه إلى العينين. ليست هناك حاجة لوسائل متطوّرة بشكل خاصّ لحمايتها - يمكنك ببساطة ارتداء النّظّارات الشّمسيّة والحدّ من ساعات التّعرّض للضّوء.

أعيننا هي النّوافذ الّتي نراقب من خلالها العالم من حولنا، بدءًا من النّظر إلى أوسع المناظر الطبيعيّة في الطّبيعة وحتّى فحص أصغر التّفاصيل. بمساعدة المعرفة والبراعة، قمنا بتطوير عدسات تسمح بتصحيح عيوب الرؤية المختلفة ويمكنها استعادة الرّؤية للحدّة والتّركيز الطّبيعيّ. وكما تعلمون، ليس هناك أفضل من البصر.

0 تعليقات