الكثير من الحيوانات تقوم بحماية مناطقها وطرد الدخلاء منها. لكنّ الدّراسات تُظهر أنّ مستوى المناطق الّتي تحت السيطرة يتغيّر بتغيّر الظروف البيئيّة

في الفيديو الّذي أمامكم، نمر بالغ يهاجم نمرة صغيرة، يجرحها ويُجبرها على الهرب. لماذا يفعل ذلك؟ يقول لنا الراوي: لقد اصطادت في منطقته، وعليها أن تدفع ثمن ذلك.

كالعديد من الحيوانات الأخرى، النمر حيوان مناطقيّ (Territorial)- الحيوان الّذي يحدّد منطقة خاصّة به يدافع عنها من أجل الصيد وغيره يُسمّى حيوانًا مناطقيًّا-. منطقته لا تقتصر على كونها مجرّد الأرض الّتي يعيش فيها: إنّها المنطقة الّتي يحميها، ويطرد أيّ نمر غريب يجرؤ أن يضع قدمه فيها. تعتبر المنطقة تحت السيطرة شائعة جدًّا بين الثدييات والطيور والزواحف والأسماك وحتّى الحشرات والرخويّات. لكن لماذا يحدث هذا في الواقع؟ لماذا من المهمّ جدًّا للكثير من الحيوانات أن يتأكّدوا من أنّهم ونسلهم فقط هم من سيستخدمون منطقة معيّنة؟

يبدو أنّ الإجابة واضحة: هناك موارد مهمّة في المنطقة، ولو تمكّن كلّ غريب من القدوم واستخدامها، فلن يتبقّى ما يكفي لصاحب البيت. لو سمح النمر في الفيديو للنّمرة الصغيرة بالصّيد في منطقته، وكذلك لمن يأتي بعدها، فقد يجد نفسه بلا طعام.

بعد إعادة التفكير، نرى بسهولة أنّ هذه الإستراتيجيّة ليست منطقيّة دائمًا. فمن أجل حماية منطقته، يتعيّن على النمر قضاء الوقت في المشي على طول الحدود والبحث عن الغزاة، وعندما يجد دخيلًا يقوم بتهديده، بل ومقاتلته، فإنّ ذلك أمرٌ يستهلك الكثير من الطاقة ويمكن أن يؤدّي إلى إصابته. إذا لم يفعل ذلك، فيمكنه استثمار وقته وطاقته في الصيد، وفي الحصول على المزيد من الغذاء. صحيح أنّه في هذه الحالة يمكن للنّمور الغريبة أن تأتي وتصطاد في نفس المنطقة، ولكن نظرًا لأنّ عدد النمور في المنطقة ليس كبيرًا، فهل تستحقّ حماية المنطقة هذا الثمن؟

حقيقة كون أنّ الحيوانات المناطقيّة منتشرة في عالم الحيوان تدلّ على أنّ الإجابة في كثير من الحالات هي نعم، تستحقّ هذا الثمن. ومع ذلك، فإنّ تسمية "المناطقيّة" الّتي تطلق على الحيوانات تخفي حقيقة أنّ ذلك في الواقع تسلسل: هناك حيوانات لها منطقة محدّدة جيّدًا وهي تهاجم كلّ من يقترب منها، وهناك حيوانات تكون مناطقها أقلّ وضوحًا، وتسمح في بعض الأحيان للغرباء بالاقتراب. إنّ هذا السلوك ليس ثابتًا حتّى لدى نفس النوع، وقد يتغيّر مع تغيّر الظروف. على مدى العقود القليلة الماضية، كشف الباحثون الّذين درسوا أنواعًا مختلفة من الحيوانات المناطقيّة، الظروف الّتي تكون فيها الحراسة المناطقيّة الصارمة هي أفضل إستراتيجيّة، والظروف الّتي يكون من الأفضل فيها اتّباع نهج أكثر تسامحًا. العوامل الّتي تؤثر في السلوك المناطقيّ تشمل كميّة الغذاء المتاح وطريقة توزيعه في المنطقة، تعداد الحيوانات، وخصائص المنطقة نفسها كذلك. في هذا المقال سنتحدّث عن هذه العوامل وكيفيّة تأثيرها، لكنّنا سنبدأ بالسؤال الأساسيّ: ما هي منطقة الحيوان الّتي تحت السيطرة، وكيف يمكن حمايتها؟


عوامل مختلفة تؤثّر في السلوك المناطقيّ. ذكران من خنافس إييليت في وضع قتال | المصدر: Bob Gibbons / Science Photo Library

مفاهيم مختلفة لمناطق الحيوان

يختلف تعريف المنطقة من نوع إلى آخر. تمتلك بعض الحيوانات منطقة تعيش فيها طوال العام، والبعض الآخر يحدّد المناطق خلال موسم التكاثر فقط أو خلال رعاية نسله. لا تقضي الحيوانات كلّ وقتها دائمًا داخل منطقتها. فعلى سبيل المثال، تحمي العديد من العصافير المنطقة المجاورة لعشّها، ولكنّها تغادر هذه المنطقة الصغيرة مرارًا للبحث عن الطعام في مناطق أخرى. وفي المقابل، تقوم طيور الطنّان بالدّفاع بقوّة عن أراضي الزهور الّتي تحمل الرحيق، حتّى لو كانت أعشاشها في مكان آخر.

كذلك فإنّ حجم المنطقة يختلف من نوع إلى آخر. فثدييات كبيرة قد تعيش في مناطق تبلغ مساحتها العديد من الكيلومترات المربّعة، والّتي تشمل مصادر غذائها وكذلك المناطق الّتي تنام فيها، وفيها يغازلون شريكاتهم، ويرعون نسلهم. المناطق الصغيرة أكثر، والّتي تكون أيضًا مؤقّتة جدًّا، تتبع إلى الذكور الّذين يُنشئون ساحات مغازلة. في هذه الساحات، والّتي تُسمَّى أيضًا ليك (Lek)، يجتمع العديد من الذكور من نفس النوع معًا، وكلّ واحد يحاول إقناع الأنثى بالتزاوج معه بالذات. لكلّ ذكر بضعة أمتار مربّعة خاصّة به، يعرض فيها نفسه ويدافع عن حدودها ضدّ الذكور الآخرين. إنّ هذا السلوك شائع عادةً لدى الطيور، ولكن تمّت ملاحظته أيضًا في الثدييات والزواحف والأسماك وغيرها


ساحات المغازلة (Lek) مميّزة بشكل رئيس لدى الطيور. قتال بين طائرَين من طيور نقّار الخشب الشائعة |المصدر: John Devries / Science Photo Library

القتال كخيار أخير

تتجلّى حراسة المنطقة الخاصّة بكلّ حيوان في المعارك بين "صاحب البيت" وبين أفرادٍ من نفس النوع، يحاولون دخول المنطقة واستخدام مواردها، مثل القتال بين النمور في الفيديو. ولكنّ ذاك يكون الخيار الأخير: تفضّل الحيوانات تجنّب القتال الحقيقيّ بقدر الإمكان. على الرغم من أنّ صاحب المنطقة ينتصر بهذه المعارك في معظم الحالات، إلّا أنّ الاحتمال أن يخسر يظلّ قائمًا، وحتّى إذا انتصر فقد يتعرّض للإصابة، الأمر الّذي سيصعّب عليه الحصول على الغذاء. ويفضّل "الغازي" كذلك عدم الدخول في مواجهة مباشرة قد يخسر فيها على الأرجح. لهذا السبب، تحرص العديد من الحيوانات على وضع علامة على مناطقها، وهي علامة تشبه اللافتة الّتي توضّح أنّ هذه منطقة خاصّة. وبهذه الطريقة، يعرف كلّ من يأتي إلى المكان أن يكون حذرًا، وألّا يدخل إلى المنطقة الخاصّة عن طريق الخطأ.

تحدّد الحيوانات المختلفة مناطقها بطرق مختلفة. تغنّي الطيور المغرّدة للإشارة إلى أنّ المنطقة المحيطة بها واقعة تحت ملكيّتها، كما تنعق الضفادع لنفس الغرض. قطعان الذئاب تعوي بصوت يمكن سماعه من على بعد عشرات الكيلومترات، لتحذير القطعان المنافسة من الاقتراب. ثدييات غيرها تفضّل تحديد الحدود بواسطة الرائحة. هناك الكثير من الثدييات تستخدم البول، والبعض الآخر يستخدم البراز، وهناك أيضًا ثدييات تفرز سائلًا له رائحة معيّنة من غدد خاصّة. لدى أفراد عائلة القطط غدد رائحة على وجوههم، وحين يفركون وجوههم بأغراض يتركون رائحتهم عليها. هذا ما تفعله كذلك قطّة المنزل عندما تحتكّ بحقيبة أو كتاب.

يمكن للروائح الّتي تتركها الحيوانات أن تنقل معلومات تتجاوز قول إنّ "هذه المنطقة تحت السيطرة". قد تخبر الموادّ الموجودة في البول من يشمّها ما إذا كان مالك المنطقة ذكرًا أم أنثى، مثلًا، بل حتّى تقول أيضًا معلومات عن حجمه، حيث إنّ الحيوان الأكبر حجمًا قادر على ترك الرائحة في منطقة تكون مرتفعة على جذع الشجرة أو الصخرة. هناك مِن الحيوانات مَن "يغشّون" ويحاولون أن يظهروا أكبر ممّا هم عليه بالحقيقة. تؤدّي دبب الباندا العملاقة (Ailuropoda melanoleuca) والنمس القزم (Helogale parvula) وحيوانات أخرى نوعًا من سلوك "الوقوف على اليدين"، حيث ترفع الجزء الخلفيّ من جسدها إلى أعلى مستوى تصل إليه فوق جذع الشجرة، من أجل أن تترك الرائحة بأعلى مستوى ممكن. دبّ الباندا المنافس الّذي يمرّ عبر المنطقة سوف يشمّ العلامة ويدرك أنّ هذه المنطقة تابعة لدبّ باندا آخر، وبناءً على ارتفاع العلامة سيستنتج أنّه طويل وكبير، ولا ينبغي له أن يعبث معه.

إذا لم ينجح كلّ ذلك، والتقى الحيوانان وجهًا لوجه، فيظلّ من غير المؤكّد أنّهما سيتقاتلان بالفعل. في البداية سوف يؤدّيان عروضًا، يحاول فيها كلٌّ منهما أن يبدو قويًّا وكبيرًا ومخيفًا. على سبيل المثال، تميل القطط المنزليّة إلى تقويس ظهورها وجعل شعر فرائها يقف، مع إصدار أصوات تهديد. في معظم الحالات، يستسلم أحد المنافسين ويهرب. في حال لم يكن أحدهما على استعداد للاستسلام، فسوف يتقاتلان.


هناك طرق مختلفة لتحديد المنطقة مثل الأغاني والمناداة وموادّّ الروائح. اثنان من طيور الطوقان ذي  المنقار الأصفر الجنوبيّ يتشاجران | المصدر: Tony Camacho / Science Photo Library

كميّة الغذاء والمنطقة

ما هي العوامل الّتي تؤثّر في درجة تحديد المناطق لدى الحيوانات؟ سنتحدّث عن بعضها، ولكنّنا سنبدأ بالعامل الّذي تمّت دراسته أكثر من أيّ عامل آخر: الغذاء. لا شكّ أنّ توفّر الغذاء مهمّ جدًّا للحيوانات، ويؤثّر في سلوكها بطرق عديدة. لكنّ هذا ليس هو السبب الوحيد وراء دراسة موضوع الغذاء كثيرًا؛ فالسبب الآخر هو أنّ الغذاء عامل أسهل للقياس. ففي الدراسات الّتي تتمّ في الطبيعة، لا يستطيع الباحثون زيادة أو تقليل عدد الحيوانات، أو تغيير مسارات المنطقة وخصائصها. لكن في كثير من الحالات، لا توجد مشكلة في توفير المزيد من الغذاء والتّحكّم في توزيعه. فماذا تقول الدراسات إذن؟

العلاقة بين الطعام وتحديد المنطقة ليست علاقة مباشرة وبسيطة. في مقال نشر عام 2000، نظر الباحثون في عدد كبير من الدراسات ووجدوا أنّ قسمًا منها أظهر أنّ زيادة كميّة الطعام جعلت الحيوانات أكثر مناطقيّة، وقسمًا آخر أظهر أنّ زيادة مماثلة أدّت إلى انخفاض المناطقيّة؛ دراسات حدّدت الطعام ووجدت زيادة في المناطقيّة ودراسات أخرى أدّى فيها تحديد الطعام إلى توقّف الحيوانات عن الدفاع عن منطقتها تمامًا. وجدت هذه الدراسة، الّتي أُجريت على طائر الذعرة البيضاء (Motacilla alba)، كلا الأمرين: زيادة كميّة الطعام المتاحة جعلت الطيور مناطقيّة، وزيادة أخرى أدّت إلى تأثير معاكس.

استنتاج الباحثين هو أنّ العلاقة بين كميّة الطعام والمناطقيّة هي علاقة يمكن وصفها في رسم بيانيّ على شكل حرف U مقلوب. فعندما يكون الطعام قليلًا للغاية، لا فائدة من استثمار الكثير من الطاقة لحمايته وحماية المنطقة الّتي يتوفّر فيها: إنّ "مكافأة" الوصول الحصريّ إلى مثل هذا المصدر الغذائيّ الشّحيح، لا تستحقّ هذا الثمن. عندما تزداد كميّة الطعام، يبقى الثمن الّذي يجب دفعه لحمايته كما هو، ولكنّ المكافأة تصبح مرغوبة أكثر. في مرحلة ما، تأتي اللحظة الّتي يستحقّ فيها الأمر أن تدفع الحيوانات ثمن حماية الغذاء، وحينها تبدأ في إظهار السلوك المناطقيّ. إذا واصلنا زيادة الطعام، فسوف نصل إلى مرحلة لا يهمّ فيها إذا غزت الحيوانات الغريبة المنطقة وأكلت الطعام أم لا، لأنّه وعلى أيّ حال سيكون هناك ما يكفي للجميع. في هذه المرحلة سنلاحظ أنّ الحيوانات ستتوقّف عن الدفاع عن المنطقة.


عندما يكون الغذاء شحيحًا- فلا فائدة من استثمار الكثير من الموارد لحمايته، وعندما تزيد كميّته– يصبح من الجيّد حمايته، وعندما تزيد الكميّة أكثر- يكون هناك ما يكفي للجميع. منحنى يصف العلاقة بين كميّة الغذاء المتاح ومستوى المناطقيّة | رسم: يونات إشحار

تأثير توزيع الغذاء

ليست كميّة الطعام وحدها ما يؤثّر في السلوك المناطقيّ، ولكن أيضًا طريقة توزيعه. إذا كان الطعام موجودًا بكميّات متساوية تقريبًا في جميع أنحاء المنطقة، على سبيل المثال إذا كان ذلك عشبًا يغطّي مساحات كبيرة، فمن الصّعب جدًّا منع الغرباء من الأكل منه. إذا كان مجموعًا في أماكن معيّنة، مثلًا في حالة ثمار على عدد قليل من الأشجار فقط أو أزهار مليئة بالرحيق للطائر الطنّان، فيكون هكذا من الأسهل حمايتها.

في إحدى الدراسات، فحص باحثون سلوك أسماك من نوع Amatitlania nigrofasciata، من فصيلة البلطيّات، عندما يكون طعامها مجموعًا في مكان واحد، أو موزّعًا في أكثر من مكان. قاموا بوضع ثلاث سمكات في كلّ حوض سمك، ثمّ أدخلوا ثلاثة أنابيب إلى الحوض، يتدفّق منها برغوث الماء العذب (دافنيا)، وهو من شعبة القشريّات الصغيرة، يُستخدم كغذاء للأسماك. عندما كانت الأنابيب الثلاثة متباعدة عن بعضها البعض، مسافة 40 سم بين الأنبوب والأنبوب، لم تتمكّن أيّة سمكة من أن تكون متفرّدة في الحصول على الطعام. ولكن عندما كانت الأنابيب الثلاثة ملاصقة لبعضها البعض، أتيحت للأسماك المهيمنة الفرصة للاستيلاء على هذا المورد المهمّ وإبعاد الآخرين عنه. في هذه الحالة عمليًّا، أظهرت السمكة المهيمنة عدوانًا أكبر بكثير تجاه الأسماك الأخرى، وأكلت نسبة أكبر من هذه القشريّات.

ومع ذلك، وكما هو الحال في العلاقة بين المناطقيّة وكميّة الغذاء، فإنّ العلاقة بين المناطقيّة وتوزيع الغذاء ليست أيضًا بسيطة ومباشرة. إذا كان كلّ الطعام موجودًا في مكان واحد، فستحاول جميع الحيوانات الوصول إليه، ولن يتمكّن حيوان واحد من حمايته من العديد من المنافسين. في مثل هذه الحالة، ستكون المكافأة كبيرة جدًّا، لكنّ ثمنها سيصبح باهظًا جدًّا؛ إذ سيتعيّن على الحيوان قضاء كلّ وقته تقريبًا في الدفاع والقتال


يُخمّن أن تظهر الحيوانات درجة كبيرة من المناطقيّةّ عندما لا يكون تعداد الحيوانات مرتفعًا جدًّا  أو منخفضًا جدًّا. منحنى يصف العلاقة بين تعداد الحيوانات ودرجة المناطقيّة | رسم: يونات إشحار

تعداد الحيوانات، وطبيعة المنطقة

هناك عوامل أخرى قد تؤثر أيضًا في درجة المناطقيّة. فمثلًا، يرتبط تركيز تعداد الحيوانات بمقدار الوقت والجهود الّتي يتعيّن على الحيوان أن يستثمرها في الحفاظ على المنطقة: إذا كان هناك عدد كبير جدًّا من أفراد نوعه في المنطقة، فسيكون من الصعب جدًّ منعهم جميعهم من الدخول إلى أرضه. من ناحية أخرى، إذا كان عدد الحيوانات قليلًا ومنتشرًا على مساحة كبيرة، فمن المرجّح أنّه لن يكون مجديًا جدًّا استثمار الوقت في الدفاع ضدّ غزاة لن يأتوا سوى في أوقات نادرة، هذا إذا أتوا في الأصل. ولذلك، ففي هذه الحالة أيضًا، الفرضيّة هي أنّ الحيوانات سوف تُظهر ميولًا مناطقيّة قويّة عندما يكون تركيز السكّان معتدلًا، لا مرتفعًا جدًّاولا منخفضًا جدًّا.

يمكن أن تؤثّر طبيعة المنطقة أيضًا في سلوك الحيوانات الّتي تعيش فيها. في تجربة أجريت على أسماك الحمار الوحشيّ (Danio rerio)، كانت الأسماك المهيمنة أكثر عدوانيّة، ومنعت وصول الأسماك الأخرى إلى الطعام بشكل أكبر عندما كان الحوض مفتوحًا ودون نباتات تقيّد الرؤية. عندما أدخل الباحثون قطعًا بلاستيكيّة على شكل طحالب ونباتات مائيّة إلى الحوض، انخفضت العدوانيّة. في بيئة ذات تعقيد أكبر، كان لدى الأسماك الأقلّ هيمنة مكانًا للاختباء، ولم تتمكّن الأسماك الأقوى من السيطرة على الطعام والتأكّد من عدم وصول أيّة سمكة أخرى إليه.

في دراسة أخرى، فحص الباحثون درجة المناطقيّة لدى أنواع مختلفة من الضفادع من فصيلة Hylinae. ووجدوا أنّ الأنواع الّتي تعيش في البرك أو الوحل تميل إلى أن تكون أكثر مناطقيّة من تلك الّتي تفضّل المياه المتدفّقة من جدول أو نهر. يفترض الباحثون أنّ أحد أسباب ذلك هو أنّ البرك والوحل تجذب إليها العديد من ذكور الضفادع خلال موسم التكاثر، وتتنافس مع بعضها البعض على المنطقة. ينطبق هذا الأمر بشكل خاصّ على برك الوحل الصغيرة، الّتي تتكوّن لبضعة أسابيع ثم تختفي: يعمل الذكور الّذين يصلون إليها أوّلًا على أن "يمتلكوا مكانًا" للاستفادة من المورد المؤقّت، ويحاولون منع الذكور الآخرين من الوصول إليه. في المقابل، تميل الأنواع الّتي تعيش في الأنهر إلى الانتشار في أعلى مجرى النهر وفي أسفل مجرى النهر، ومن الممكن ألّا يصل تركيز تعدادهم إلى مستوى يشعرون فيه بالحاجة إلى حماية منطقتهم.


محاولة الدفاع عن منطقة ما تستهلك الطاقة، وقد تؤدّي إلى الإصابة. زوج من النمور يتقاتلان أثناء قفزهما في الهواء | المصدر: Fanie Heymans, Greatstock / Science Photo Library

يتغيّر السلوك بتغيُّر الظروف

أظهرت الدراسات أنّ الحيوانات، حتّى لو كانت من نفس النوع، تتصرّف بشكل مختلف عندما تتغيّر ظروفها المعيشيّة والطعام الّذي تتناوله. تُظهر أسماك من فصيلة Salvelinus Fontinalis من عائلة السلمون سلوكًا مناطقيًّا عندما تعيش في جداول يكون تيّار الماء فيها سريعًا، حيث تسبح عادةً في نفس المكان وتنتظر الفريسة الّتي يحملها تيّار الماء نحوها؛ في المياه الأكثر هدوءًا، فإنّها تصطاد بشكل أكبر، ولا تكون مناطقيّة. الثعالب آكلة السرطان (Cerdocyon thous)، والّتي تعيش في أمريكا الجنوبيّة، تكون مناطقيّة في الأماكن الّتي تأكل فيها السرطانات الّتي سمّيت باسمها؛ ولكن في المناطق الّتي تعيش فيها على الفواكه والحشرات، وهو الغذاء الّذي يكون موزّعًا بالتساوي إلى حدّ ما في المنطقة، فإنّ لديها مساحات معيشيّة متداخلة. تتغذّى طيور الكركر القطبيّ (Stercorarius parasiticus) أحيانًا على القوارض، وحينها  تكون مناطقيّة، حيث إنّه من السهل جدًّا حماية مساحة من الأرض تتواجد فيها القوارض؛ ولكن عندما تسرق طيور الكركر القطبيّ الطعام من طيور أخرى، وفقًا لعادتها الّتي سمّيت باسمها (اسمها العلميّ: ستركوراريوس الطفيليّ)، فإنّه لا يكون لديها منطقة واضحة.

يبدو إذًا أنّ الحيوانات لا تولد مع تعليمات واضحة ومكتوبة في أذهانها تُملي على بعضها الدفاع عن المناطق ومهاجمة كلّ من يقترب منها، وتُملي للبعض الآخر أن يكون أكثر تسامحًا. يعتمد السلوك المناطقيّ للحيوانات على الظروف البيئيّة، وعندما تتغيّر الظروف يتغيّر السلوك أيضًا. لديها القدرة على أن تكون عدوانيّة، وأيضًا متسامحة؛ أيّة صفة  من الصّفتَين يتمّ التعبير عنها؟ يتعلّق ذلك بالوضع الّذي تجد أنفسها فيه.

0 تعليقات