تعزّز دراسة جديدة الفرضيّة القائلة إنّ النّظام النّباتيّ والخضريّ أقلّ ضررًا على البيئة مقارنة بالنّظام الغذائيّ الحيوانيّ

يؤثّر الطّعام الّذي نستهلكه بشكل مباشر على محيطنا البيئيّ. في عام 2015، على سبيل المثال، أشارت التّقديرات إلى أنّ صناعة الموادّ الغذائيّة وحدها مسؤولة عن 34% من انبعاثات غازات الدّفيئة في الغلاف الجوّيّ. لكنّ تأثير صناعة الأغذية على البيئة لا يقتصر على مساهمتها في ظاهرة الاحتباس الحراريّ؛ إنّما ينطوي على أضرار إضافيّة - من بينها استغلال المياه العذبة، تلوّث الأراضي ومصادر المياه، وتقليل التّنوّع البيولوجيّ، بسبب استخدام الأراضي للأغراض الزّراعيّة - وكلّ هذا يضرّ بالبيئة الّتي نعيش فيها.

مع استمرار ازدياد النّموّ السّكّانيّ، تصبح حماية البيئة مهمّة ضروريّة لبقاء الإنسان. وبناء على ذلك، فقد اتّخذت خطوات فعليّة في بعض البلدان للحدّ من آثار صناعة الأغذية، مثل الحدّ من هدر الأغذية، فثلث الأغذية المنتجة تفسد أو تعطب أو يتمّ التّخلّص منها قبل أن تصل إلى المستهلكين؛ على سبيل المثال، تحسين تكنولوجيّات الإنتاج الحاليّ مهمّ من أجل زيادة الإنتاج الزّراعيّ دون توسيع المساحة المستخدمة، وإدارة أنماط الرّيّ والتّسميد للمحاصيل بأكثر كفاءة، وإعادة تدوير المياه والأسمدة؛ وكذلك في مجال الثّروة الحيوانيّة - فإنّ التّغيّرات في تغذية الحيوانات وأنماط تغذيتها قد تقلّل من التّأثير البيئيّ، وتقلّل من كمّيّة الغازات البيئيّة المنبعثة للغلاف الجوّيّ.


صناعة الأغذية وحدها مسؤولة عن 34% من انبعاثات غازات الدّفيئة في الغلاف الجوّيّ. طبق يحتوي على طعام مصدره نباتيّ | Creative Cat Studio, Shutterstock

تغييرات في عادات الاستهلاك

أظهر نموذج صمّمه باحثون من عدد من الجامعات أنّ التّحسينات التّكنولوجيّة، وتنجيع عمليّة إنتاج الغذاء والحدّ من التّبذير يمكن أن تقلّل إلى حدّ كبير من الأضرار البيئيّة المتوقّعة مع حلول عام 2050، لكنّها لن تكون كافية وحدها. فقط التّغيير في عادات استهلاك الغذاء، إلى جانب هذه العمليّات، سيمكّننا من الحفاظ على بيئة تكون فيها حياة الإنسان آمنة، وغير معرّضة لخطر وجوديّ بسبب عدم الاستقرار على هذا الكوكب.

في الواقع، أظهر النّموذج أنّ التّغيير الغذائيّ العالميّ، واعتماد نظام غذائيّ يتضمّن أقلّ قدر ممكن من الأغذية الحيوانيّة، الّذي يسمّى أيضًا النّظام الغذائيّ المرن Flexitarian، هي السيناريوهات الّتي من المتوقّع أن تؤدّي إلى أكبر انخفاض في انبعاثات غازات الدّفيئة مقارنة بالتّدابير الأخرى.

إذا كان الأمر كذلك، فما هو النّظام الغذائيّ الّذي سيكون له أقلّ أثر بيئيّ؟ يبدو أنّ استهلاك الأغذية الحيوانيّة أكثر ضررًا من استهلاك الأغذية النّباتيّة والخضريّة، سواء بسبب العمليّات المباشرة المتعلّقة بالثّروة الحيوانيّة، مثل انبعاث غاز الميثان من الحيوانات المجترّة، أو بشكل غير مباشر، مثل زراعة المحاصيل لصالح تغذية الحيوانات.

أنشأت الدّراسات السّابقة عدّة نماذج لدراسة التّأثيرات البيئيّة للأنماط الغذائيّة المختلفة، ووجدت أنّ النّظام الغذائيّ النّباتيّ يقلّل من انبعاثات غازات الدّفيئة، اِستخدام الأراضي، اِستغلال المياه العذبة مقارنة بالنّظام الغذائيّ الّذي يشمل اللّحوم. ومع ذلك، تستخدم هذه الدّراسات نماذج لا تعكس الصّورة الكاملة: فهي لا تستند إلى أنماط الاستهلاك الغذائيّ الفعليّة، بل إلى المعدّلات فقط، كما أنّها لا تتطرّق بشكل خاصّ للعواقب البيئيّة المحدّدة للمنتجات الغذائيّة وخاصّة بما يتعلّق بكيفيّة زراعتها ومكان تواجدها.

من أجل اختبار التّأثير البيئيّ لاستهلاك الغذاء بشكل أكثر موثوقيّة - وعلى وجه التّحديد، لمقارنة النّظام الغذائيّ القائم على اللّحوم بالنّظام الغذائيّ النّباتي أو الخضريّ - يلزم وجود بيانات عن الاستهلاك الغذائيّ لأشخاص حقيقيّين، ويجب فحصها بناء على معلومات إضافيّة، مثل مكان الإنتاج وطريقة زراعة الأغذية، من أجل تحديد الأثر البيئيّ لكلّ منتج.


يبدو أنّ استهلاك الأغذية الحيوانية أكثر ضررًا للبيئة من استهلاك الأغذية النّباتيّة . عامل في مصنع تحضير الدّجاج | Nataliia Maksymenko, Shutterstock

ماذا نأكل اليوم؟

في دراسة نشرت في مجلّة Nature، فحص الباحثون العلاقة بين أنماط الأكل والشّرب لدى 55 ألف مواطن بريطانيّ وبين خمسة مؤشّرات بيئيّة: اِنبعاثات غازات الدّفيئة، اِستخدام المياه العذبة، التّلوّث البحريّ، اِستخدام الأراضي والتّأثير على التّنوّع البيولوجيّ. وقد تمّ جمع المعلومات المتعلّقة بأنماط الأكل في دراسة سابقة، والّتي تابعت أنماط الأكل لدى المشاركين فيها مدّة عقدين، من أجل دراسة العلاقة بين التّغذية ومرض السّرطان.

وبحسب التّصريح الذّاتيّ للمشاركين، فقد تمّ تصنيفهم إلى واحدة من ستّ مجموعات: النّباتيّين، الخضريّين، آكلي الأسماك، آكلي اللّحوم بكمّيّات قليلة (أقل من 50 جرامًا يوميًّا)، آكلي اللّحوم بكمّيّات متوسّطة (50 إلى 100 جرام يوميًّا) وآكلي اللّحوم بكمّيّات كبيرة (أكثر من 100 جرام يوميًّا).

ربط الباحثون أنماط الأكل بقاعدة بيانات تلخّص التّأثيرات البيئيّة لنحو 57 ألف مادّة غذائيّة مختلفة. تتفرّد قاعدة البيانات هذه في مرجعيّتها لاعتمادها بيانات مثل طريقة زراعة الغذاء وموقعه، ممّا يغيّر تأثيره على البيئة. على سبيل المثال، لن تؤثّر الجزرة المزروعة في دفيئة في إسبانيا بالضّرورة على البيئة مثل الجزرة المزروعة في أحد الحقول في إنجلترا. نطاق قاعدة البيانات فريد أيضًا: قد تمّ جمع المعلومات الواردة فيه من 570 دراسة مختلفة، والّتي شملت ما لا يقلّ عن 38 ألف مزرعة، منتشرة في 119 دولة في خمس قارّات. يُمكن استخدام قاعدة البيانات الشّاملة على يد الباحثين في تحديد ما إذا كانت الأنماط الغذائيّة المختلفة تؤثّر على البيئة بشكل مختلف وبشكل أكثر وضوحًا.

وجد الباحثون أنّ النّظام الغذائيّ الّذي يحتوي على مكوّنات حيوانيّة، مثل اللّحوم والجبن، له تأثير أكبر على البيئة مقارنة بالنّظام الغذائيّ النّباتيّ. إنّ التّأثير البيئيّ لمن يأكلون القليل من اللّحوم أقلّ بنحو 30 في المائة من تأثير أولئك الّذين يأكلون الكثير من اللّحوم، في حين أنّ تأثير الخضريّين على إنتاج غازات الدّفيئة كان 25 في المائة فقط من تأثير أكلة اللّحوم.

يرجع هذا الاختلاف الكبير إلى حقيقة أنّ تربية المواشي تتطلّب مساحة أكبر من الأرض مقارنة بزراعة النّباتات؛ تؤدّي الحاجة إلى مساحات إضافيّة إلى زيادة إزالة الغابات، ويقلّل انخفاض كمّيّة الأشجار أيضًا من كمّيّة ثاني أكسيد الكربون الّتي يمكنها تخزينها واستخدامها.

إضافة الى ذلك، تُستخدم العديد من المناطق لزراعة الغذاء للحيوانات، ولا يقتصر الأمر على أنّ هذه المحاصيل لا يستخدمها الإنسان بشكل مباشر فحسب، بل إنّها تستهلك أيضًا كمّيّة كبيرة من الأسمدة. غالبًا ما يتمّ إنتاج الأسمدة من الوقود الأحفوريّ الّذي يحتوي على كمّيّة عالية من الكربون.

إنّ تأثير التّغذية على النّظام البيئيّ، كما ذكرنا، لا يقتصر على انبعاث غازات الدّفيئة. وجدت الدّراسة أنّ النّظام الغذائيّ الخضريّ أفضل للبيئة في جوانب أخرى أيضًا: فهو يستخدم مساحة أقلّ من الأرض (25 في المائة مقارنة بتأثير النّظام الغذائيّ الغنيّ باللّحوم)، ويستهلك كمّيّة أقل من المياه العذبة (46 في المائة مقارنة باستهلاك المياه العذبة في النّظام الغذائيّ الغنيّ باللّحوم)، ينتج تلوّثًا بحريًّا أقلّ (27 في المائة)، ويضرّ أقلّ بالتّنوّع البيولوجيّ (34 في المائة).


للحدّ من العواقب الضّارّة على الكوكب، يكفي استهلاك كمّيّات أقلّ من الأطعمة الحيوانيّة. طبق مقسّم في المنتصف للحوم وخضار | Prostock-studio, Shutterstock

للكمّيّة معنًى أيضًا

لا يمكن للجميع أن يختاروا اتّباع النّظام النّباتيّ أو الخضريّ. وماذا عن كمّيّة اللّحوم؟ تبيّن في الدّراسة أنّ للكمّيّة أيضًا معنًى كبيرًا في حساب التّأثير البيئيّ. الأشخاص الّذين يتناولون كمّيّات قليلة من اللّحوم مسؤولون عن حوالي 70 في المائة من العواقب البيئيّة النّاجمة عن تناول كمّيّات كبيرة من اللّحوم. إذا كان الأمر كذلك، فليس من الضّروريّ أن تكون نباتيًّا، أو حتّى خضريًّا، من أجل تقليل العواقب الضّارّة على الكوكب، يكفي استهلاك كمّيّات أقلّ من الأطعمة الحيوانيّة.

كما تبيّن أنّ الاختلافات في طريقة زراعة الغذاء وفي موقعه لا تفسّر الاختلاف في درجة تأثيره على البيئة. ومن هنا، حتّى النّظام الغذائيّ الّذي "يراعي" البيئة ويحتوي على أغذية حيوانيّة بكمّيّة قليلة، سيكون له تأثير أكبر على البيئة من النّظام الغذائيّ الخضريّ، وحتّى سيكون نظامًا خضريًّا ذا تأثير بيئيّ كبير نسبيًّا.

في نهاية المطاف، أنماطنا الغذائيّة تتعلّق بنا. توضّح هذه الدّراسة التّأثير الهائل لصناعة الأغذية على البيئة والصّحّة العالميّة، وهو تأثير لدينا قدرة حقيقيّة على الحدّ منه من خلال استهلاك أكثر اعتدالًا للأغذية الحيوانيّة واختيار المزيد من النّباتات. والأهمّ من ذلك أن يكون الطعام لذيذًا ومغذّيًا ومشبعًا.

0 تعليقات