تختبر البلدان في جميع أنحاء العالم تقنيّات لتوليد الكهرباء بمساعدة حقول ضخمة من الألواح الشمسيّة الّتي سيتمّ وضعها في الفضاء

إنَّ وضع الكثير من الألواح الشمسيّة في الفضاء لإنتاج الطاقة يبدو وكأنّه سيناريو مستحيل، ولكن في السنوات الأخيرة تمّ اعتباره بجديّة. والواقع أنّ بعض البلدان تخوض سباقًا حقيقيًّا لتطوير تكنولوجيا مناسبة.

على سبيل المثال، استثمرت الحكومة البريطانيّة مؤخّرًا أكثر من أربعة ملايين جنيه إسترلينيّ لتطوير الفكرة، وتطوّر وكالة الفضاء التابعة لها، إلى جانب مجموعة من الجامعات والشركات الخاصّة، تقنيّات بهدف توفير ثلث الطاقة للمملكة في غضون عقدين إلى ثلاثة عقود. تعمل الحكومة اليابانيّة ووكالة الفضاء اليابانيّة JAXA عبر السنين على تطوير هذه التقنيّات، وتأملان في اختبارها في الفضاء في المستقبل القريب. وتحلم وكالة الفضاء الأوروبيّة ESA قيادة صناعة تبلغ قيمتها تريليون دولار، وقد دخلت الصين السباق بكلّ قوّة، ويدّعي البعض أنّها رائدة فيه.

وكذلك الأمريكيّون الّذين روّجوا للفكرة في السبعينيّات، جدّدوا الاهتمام بها، بمشاركة جهات أخرى مثل وكالة ناسا وأجهزة الأمن الأمريكيّة، الّتي تقوم باختبار التكنولوجيا، والاستثمار بها، وسبق أن قامت بتجربة ناجحة في الفضاء. لكن لماذا نستثمر المليارات في وضع الألواح الشمسيّة في الفضاء، في حين أنّها تعمل بشكل ممتاز هنا على الأرض؟


ستدور الحقول الشمسيّة على ارتفاع حوالي 36 ألف كيلومترًا فوق سطح الأرض، وسيتمّ استقبال الموجات الكهرومغناطيسيّة بواسطة مجالات الهوائيّات. في الرسم البيانيّ: خطوات المشروع الثوريّ لإنتاج الكهرباء من الطاقة الشمسيّة في الفضاء | المصدر: وكالة الفضاء الأوروبيّة ©

الوعد الكبير

توفّر مصادر الطاقة المتجدّدة، مثل توربينات الرياح وحقول الطاقة الشمسيّة- وهي عبارة عن ألواح شمسيّة عديدة منتشرة على مساحة واسعة- كهرباء رخيصة بدون غازات دفيئة، ولكن لها عيب كبير: وهو أنّ إنتاج الكهرباء باستخدامها متقطّع وغير ثابت. تتغيّر قوّة الرياح باستمرار، وبالتالي وتيرة دوران توربينات الرياح، ما يؤثّر في الطاقة الّتي تنتجها.

تشعّ الشمس بقوّة في ساعات الظهر، وقد توفّر الكثير من الطاقة، ولكن في أوقات أخرى، أو عندما تغطّي الغيوم السماء، فإنّها توفّر طاقة أقلّ، ناهيك عن الليل. تتيح محطّات الطاقة النوويّة والسدود الكهرومائيّة إنتاج الكهرباء بشكل منتظم ونظيف، لكنّها ليست مناسبة لكلّ مكان، وفي بعض الأحيان يكون إنشاؤها  مشكلة بسبب القيود الفنيّة أو الاجتماعيّة. كلّ هذه القضايا تثير الحاجة إلى حلول إضافيّة.

في الفضاء تشعّ الشمس دائمًا. إذا ابتعدنا بما فيه الكفاية عن الأرض، فلن تخفي الشمس بعد الآن، وسيكون من الممكن استخدام تدفّق مستمرّ من الضوء. وبما أنّه لا توجد غيوم أو غلاف جويّ في الفضاء ليمتصّ الضوء، فإنّ الإشعاع الشمسيّ في الفضاء بالمعدّل أقوى بعشر مرّات من الإشعاع الّذي يصل إلى سطح الأرض. وللاستفادة من هذه الظروف، تقترح معظم البرامج وضع حقل ضخم من الألواح الشمسيّة في مدار عالٍ  حول الأرض، بحيث تكون حركته متناسقة مع دوران الأرض (المدار الثابت بالنسبة للأرض).

وهناك، على ارتفاع نحو 36 ألف كيلومترًا فوق سطح الأرض، سيدور الحقل العملاق حول الأرض مرّة واحدة يوميًّا، ليظلّ دائمًا فوق نفس النقطة نسبة للأرض. سوف يغمر ضوء الشمس الألواح الشمسيّة طوال الوقت تقريبًا، باستثناء أوقات قصيرة ومعروفة مسبقًا، عندما تظلّلها الأرض.

ولنقل الكهرباء إلى الأرض، سيقوم الحقل العملاق بتحويلها إلى موجات دقيقة قويّة ونقلها بطريقة مركّزة إلى حقول هوائيّات خاصّة تعمل على تحويل الموجات مرّة أخرى إلى كهرباء. لا تتأثّر الموجات الدقيقة تقريبًا بسبب الغيوم والطقس، لذلك يمكننا الاستمتاع بالكهرباء الشمسيّة طوال العام. بالإضافة إلى ذلك، سيكون من الممكن استخدام الحقول الهوائيّة لأهداف أخرى، مثل زراعة المحاصيل الزراعيّة بين الهوائيّات، أو وضع الألواح الشمسيّة العاديّة هناك.

ويمكن وضع الحقل العملاق في الفضاء فوق أيّة دولة، وتوفير الطاقة لمناطق مختلفة من العالم. يمكن للحقل تحويل إرسال الموجات الدقيقة إلى أماكن مختلفة، وفي غضون ثوانٍ قليلة يوفّر الكهرباء لدولة أخرى. وعلى عكس إنتاج الكهرباء من الاندماج النوويّ، فإنّ الأمر هنا "ليس علمًا جديدًا، بل مشكلة هندسيّة"، وفقًا لأقوال جان دومينيك كوست (Coste)، مدير شركة إيرباص (Airbus)  الّذي يشارك في تطوير التكنولوجيا، "ومع ذلك، لم يتمّ القيام بذلك على نطاق واسع على الإطلاق."


تبلغ اليوم تكلفة الإطلاق إلى الفضاء نحو عُشر ما كانت عليه قبل نحو عقد من الزمان، ومن المتوقّع أن تستمرّ في الانخفاض في السنوات المقبلة. في الرسم البيانيّ: تكاليف الإطلاق لكلّ كيلوغرام من المادّة على مرّ السنين، والتوقّعات المتفائلة لشركة SpaceX بشأن التكلفة المتوقّعة في سنة 2030 | المصدر: Visual Capitalist

هبوط في تكاليف الإطلاق

فكرة وضع حقل شمسيّ في الفضاء ليست جديدة. كتب إسحاق أسيموف (Asimov) عن ذلك في قصّة الخيال العلميّ "المنطق" (Reason) في وقت مبكّر من سنة 1941، وفي سنة 1968 خطّط بيتر جلاسر (Glaser) أيضًا لمثل هذا الحقل- وهي خطّة كانت تأمل ناسا في تحقيقها في ذلك الوقت، عصر أزمة الطاقة والهبوط على القمر لكنّ تكلفة الإطلاق الهائلة لمشروع بهذا الحجم حالت حتّى الآن دون تطوير الفكرة، ووفقًا لتقرير وكالة ناسا في بداية سنة 2024، هناك حقل شمسيّ في الفضاء بقوّة تبلغ حوالي 2 جيجا-وات. من المتوقّع أن تغطّي محطّة توليد الكهرباء "أوروت رابين" في الخضيرة مساحة تتراوح بين عشرة إلى عشرين كيلومترًا مربّعًا ويصل وزنها إلى عشرة آلاف طنّ- أي أكثر من وزن 4000 قمر صناعيّ من أقمار SpaceX Starlink مجتمعة، أو 14 ضعفًا من وزن محطّة الفضاء الدوليّة.

ووفقًا لوكالة ناسا، ستكون هناك حاجة إلى ما لا يقلّ عن 2300 عمليّة إطلاق لوضع الحقل العملاق في مداره، وسيتمّ استخدام 12 من كلّ 13 عمليّة إطلاق في الفضاء للتزوّد بالوقود ونقل الوزن من مدارات منخفضة، مماثلة لتلك الخاصّة بمحطّة الفضاء الدوليّة، إلى المدار الثابت بالنسبة للأرض. قدّرت التكلفة الإجماليّة للحقل بما لا يقلّ عن 280 مليار دولار، ومن المتوقّع أن تبلغ تكلفة الإطلاق حوالي 70 في المائة من هذا المبلغ. فيما يتعلّق بقدرة توليد الطاقة، تبلغ تكلفة الحقل أعلى بكثير من تقنيّات توليد الطاقة الّتي نستخدمها اليوم.

ومع ذلك، يقدّم التقرير أيضًا سببًا للتفاؤل، وقد تبدو التكلفة خرافيّة، لكنّ تكاليف الإطلاق إلى الفضاء تقلّصت مقارنة بتكاليف الماضي، وتمّ تطوير منصّات إطلاق أقمار صناعيّة يمكنها استخدام أجزائها أكثر من مرّة بما في ذلك منصّة إطلاق الأقمار الصناعيّة Falcon 9 التابعة لشركة SpaceX، والّتي تمّ تطويرها في سنة 2010 وتعتبر نقطة فارقة في التطوّر التكنولوجيّ، حيث يمكنها الإقلاع والهبوط عدّة مرّات.

تُمكن إعادة استخدام المكوّنات تقليل التكاليف بشكل كبير، بحيث تصبح أقلّ فأقلّ: في الوقت الحاليّ، يكلّف إرسال كيلوغرام واحد من الموادّ إلى الفضاء أقلّ بقليل من 3000 دولار أمريكيّ، وقد قدّرت وكالة ناسا أنّه بحلول سنة 2050، ستبلغ تكلفة الإطلاق حوالي ألف دولار للكيلوغرام الواحد، في حين تقدّم شركة سبيس إكس توقّعات أكثر تفاؤلًا: بمساعدة منصّة الإطلاق الضخمة ستارشيب وإعادة استخدام جميع أجزاء الأقمار الصناعيّة؛ قد تكون تكلفة إطلاقها حوالي 200 دولار فقط للكيلوغرام الواحد.

بالإضافة إلى ذلك، فإنّ تطوير تكنولوجيا الدفع الكهربائيّ المُعتمِدة على الطاقة الشمسيّة واستخدامها في الفضاء قد يسمح بنقل المجال الشمسيّ من المدار المنخفض مباشرة إلى المدار الثابت بالنسبة للأرض، دون الحاجة إلى عمليّات إطلاق إضافيّة للتزوّد بالوقود. مثل هذا التطوّر، إذا حدث، سوف يقلّل بشكل كبير من تكلفة الإطلاق، وقد يجعل المشروع بأكمله قابلًا للاستمرار من الناحية الماديّة. وفي سيناريو متفائل بشكل خاصّ، من الممكن أن يكون سعر الكهرباء من الحقل الموجود في الفضاء مماثلًا لسعر الكهرباء الّتي ينتجها حقل شمسيّ على الأرض.

وبالإضافة إلى تكاليف الإطلاق المرتفعة، سيتطلّب هذا المشروع الضخم تطوير تكنولوجيا معقّدة. على سبيل المثال، سيتعيّن على الروبوتات المستقلّة المتطوّرة إنشاء ونقل وصيانة الحقل الشمسيّ بأكمله، دون تدخّل بشريّ. يجب أن يكون نظام الإرسال والاستقبال بالموجات الدقيقة أكثر كفاءة من الأنظمة المستخدمة في التجارب الأخيرة، وسيتعيّن عليه نقل أكبر قدر ممكن من الطاقة بنجاح إلى مساحة صغيرة على الأرض.

يظهر الفيديو برنامج SOLARIS التابع لوكالة الفضاء الأوروبيّة لإنشاء حقول شمسيّة

"دبّابة في الغرفة"

قد تساعدنا التطوّرات التكنولوجيّة في الحدّ من أزمة المناخ، لكن يبدو أنّ السباق لتحصيل الكهرباء من الفضاء مدفوع أيضًا باعتبارات أمنيّة. ووفقًا للقوّات الجوّيّة الأمريكيّة، على سبيل المثال، فإنّ التكنولوجيا قد توفّر الطاقة لقواعد عسكريّة نائية، حتّى خلف خطوط العدو، وبالتالي لن تكون هناك حاجة لقوافل إمداد الوقود إلى القاعدة، ما يشكّل خطرًا كبيرًا. قد تكتفي القاعدة العسكريّة بحقل شمسيّ صغير نسبيًّا، حيث تكون التكنولوجيا جديرة بالاهتمام حتّى لو كانت باهظة الثمن. وقد تقوم هذه التقنيّة أيضًا بشحن الطائرات العسكريّة أثناء الطيران، ما يمنح الطائرات بدون طيّار نطاقًا لا نهائيًّا. وقد تكون "الكهرباء من الفضاء" مفيدة أيضًا للمواطنين في المناطق الّتي أصابتها الكوارث أو الحروب وفي حالات الأضرار الّتي لحقت بالبنية التحتيّة الكهربائيّة، على غرار استخدام الإنترنت الفضائيّ أثناء الحرب في أوكرانيا.

قد تبدو فكرة إنتاج جزء من الكهرباء في الفضاء بعيدة عن الواقع، لكنّ الكثير من التكنولوجيا اللازمة لمثل هذا المشروع موجودة بالفعل. وهذه عمليّة غير مسبوقة في تاريخ البشريّة، ولكن إذا استمرّ سعر الإطلاق في الفضاء في الانخفاض، فقد يصبح ذلك ممكنًا وقريبًا، على الأقلّ للاستخدامات العسكريّة. هل ستصبح الحقول الشمسيّة في الفضاء مشهدًا مألوفًا في المستقبل القريب؟ ربّما تتّضح الإجابة في السنوات المقبلة. الأمر المؤكّد هو أنّه في هذه الأثناء يجب علينا مواصلة الانتقال إلى إنتاج الطاقة من مصادر متجدّدة هنا على الأرض.

0 تعليقات