متى يصبح الشّكّ معقولًا؟ بعد أن قضت بالفعل عشرين عامًا في السّجن، تمّت تبرِئة أمّ أستراليّة من قتل أطفالها الأربعة بسبب وجود أدلّة على طفرات جينيّة نادرة ربّما تكون قد أدّت إلى وفاتهم

أعداد كبيرة بما فيه الكفاية. أشهر الأمثلة على ذلك هي ألعاب القِمارمثل اليانصيب، الّتي صُمِّمت بحيث تكون هناك فرص فوز منخفضة جدًّا للمُقامِر، فلا تكون هناك أي فائدة من المحاولة. مع ذلك، يقامر الناس، بل ويفوز بعضهم. لماذا؟ لأنّه عندما يكون هناك ملايين المشاركين في اللّعبة، فحتّى الحالات غير المتوقّعة مثل الفوز باليانصيب ستحدث في حين إلى آخر. نفس الشّيء ينطبق على الأدوية والعلاجات الطّبّيّة. فتقريبًا كلّ دواء له آثار جانبيّة نادرة للغاية، والّتي ليس لدى المستهلك سبب واقعيّ للقلق منها. مع ذلك، عاجلًا أم آجلًا، يظهر عدد لا بأس به من تُعساء الحظّ الذين يعانون من هذه المضاعفات النّادرة.

في الواقع، هناك العديد من السّيناريوهات الّذي يعتبر احتمال حدوثها ضئيلًا للغاية، لدرجة أننا قد نخطئ الظّنّ بأنّها مستحيلة. في بعض الأحيان، قد يكون التّفسير البديل الّذي وًجِدَ أو أُخترِع  مصيريُّا. هذه هي قصة كاثلين فولبيج (Kathleen Folbigg)، وهي أمّ استرالية خسرت مرات عديدة في يانصيب الحياة.


أم استرالية قضت عشرين عامًا في السجن بتهمة قتل أطفالها الأربعة. خلف قضبان السّجون | Netta Kashir by Midjourney

بين المأساة والقتل

وُلِدَ كاليب فولبيج (Caleb Gibson Folbigg) في 1 شباط 1989، وهو الأبن الأكبر لأبوين شابّين من استراليا، كاثلين وكريغ (Craig Folbigg). عانى كاليب من ضيق في التّنفّس، وشخّصه الأطباء بأنّه مصاب بحالة خفيفة من الصّرير (Stridor) بسبب تليُّن في الحنجرة (Laryngomalacia). وفقًا للأطباء، قيل للوالدين أنّ الامر سيمرّ من تلقاء نفسه، وأنّه لا يوجد ما يدعو للقلق، لكنّه توفي عندما بلغ من العمر 19 يومًا. تمّ تصنيف الحادثة كحالة مؤسفة من متلازمة موت الرّضّع الفجائيّ (Sudden Infant Death Syndrome وباختصار، SIDS).

بعد هذه الحادثة المأساوية، أنجب كاثلين وكريغ  ابنهما الثاني، باتريك، في 3 حزيران 1990. عندما بلغ باتريك من العمر ستّة أشهر، استيقظ الأب على صراخ زوجته التي كانت واقفة وتمسك بالطفل وهي تلهث. تمكّنوا بالمستشفى من إحياء باتريك، إلّا أنّه توفّي بعد أربعة أشهر بسبب نوبة صرع؛ الأمر الذي دمّر الزوجيْن.

بعد مرور عام ونصف، أنجب الزوجان طفلةً صغيرةً تُدعى سارة، الّتي لم تعش طويلًا أيضًا، وعُثِرَ عليها ميّتة وهي تبلغ من العمرِ عشرة أشهر. بعد مرور عامين، ولدت ابنتهما الرّابعة لورا، الّتي بلغت من العمر عامًا ونصف، قبل أن يُعثَر عليها أيضًا ميِّتة. بدت كلتا الطفلتيْن بصحّة جيّدة، ولم يهتدوا إلى سبب وفاتهما. "حلَّت الصّاعقة" أربعة مرات على عائلة فولبيج.

وهنا بدأت أجراس الإنذار تدقّ بالفعل في ذهن كريج، الأب الذي فقد جميع أبنائه واحدًا تلو الآخر. ففي نهاية المطاف، ما هي احتمالات وفاة أربعة أطفال من نفس العائلة، في مثل هذه السّنّ المبكّرة دون أي علامات مُسبقة، ودون أيّ سبب طبّيّ واضح، باستثناء سعال كاليب الخفيف؟ ففي كل الحالات كانت كاثلين هي الّتي تجد الأطفال ميّتين، وعندما نظر كريغ في مذكّراتها الشّخصيّة وجد أنّها أعربت عن ندمها على وفاة أطفالهم. انفصل الزوجان عن بعضهما وتطلقا، وفي ذلك الوقت قرّر كريغ إبلاغ الشّرطة بالأمر، وقُبِضَ على كاثلين ومحاكمتها في عام 2003.

يُمكن صياغة الادّعاء الرّئيسيّ في المحكمة على النّحو التّالي: "حالة واحدة من موت الرُّضّع المفاجئ هي مأساة؛ وحالتان هما شُبهات؛ أمّا ثلاث حالات فهي جريمة قتل، إلّا إذا ثبت خلاف ذلك". يُسمّى هذا النّهج قانون ميدو، نسبة إلى طبيب الأطفال البريطاني روي ميدو (Roy Meadow) المتخصّص بعلاج الأطفال الّذين تعرضوا للإساءة.

السّبب وراء هذا القانون هو إحصائيّ: متلازمة موت الرّضّع الفجائيّ نادرة للغاية، وتقدّر نسبة حدوثها في إسرائيل بواحد من كلّ عشرة آلاف ولادة. لذلك، احتماليّة حدوث كارثة كهذه في نفس العائلة مرّتين منخفضة وتكاد تكون معدومة، لذلك من المرجّح أن يكون سبب موت الأطفال هو سوء المعاملة، الإهمال أو القتل. بالإضافة إلى ذلك، بحسب أقوال المحامين والأخصائيين الاجتماعييّن، أنّه من الأفضل الافتراض في هذه الحالات أنّ الأطفال الآخرين في الأسرة معرّضون للخطر أيضًا، ويفضّل إبعادهم عن والديهم. ففي نهاية المطاف، فإنّ احتمال أن يكون منزل كهذا صحّيًّا يكاد يكون صفرًا؛ أي حوالي واحد في مائة مليون. أدّى هذا النّهج إلى تفكيك العائلات وإرسال الآباء إلى السّجن، وهو أمر محقّ في بعض الأحيان، لكن ليس دائمًا. لكن في النّهاية، إذا كان هناك عامل وراثيّ أو بيئيّ خطر لا نعرف عنه يجري في العائلة، فإنّه سيزيد من الخطر بشكل كبير.

ادّعت كاثلين أنّها بريئة من التّهم، وقدّم الدّفاع تفسيرات طبّيّة بديلة لوفاة الأطفال الأربعة. لكن تبدو المصادفة  كبيرة جدًّا وغير منطقيّة. استغرق الأمر من المحكمة سبعة أسابيع، لتقرّر أنّ كاثلين فولبيج قاتلة أطفال، وحُكِمَ عليها بالسّجن أربعين عامًا دون إمكانيّة لتقصيرها. ظلّت فولبيج تدّعي البراءة طوال السّنوات الّتي قضتها في السّجن، واستأنفت إدانتها، مدعيةً أنّ أطفالها ماتوا جميعًا لأسباب طبيعيّة، ولكن دون جدوى، تم رفض استئنافها.

عندما تستبعد المستحيل، فإنّ المتبقّي يكون الحقيقة مهما بلغت غرابتها. - آرثر كونان دويل، مؤلّف قصص شارلوك هولمز

"ضرب البرق" أربعة مرّات

منذ الإدانة حدثت تطوّرات كثيرة في علم الأدلّة الجنائيّة. ومن بين أمور أخرى، تحسّنت اختبارات الحمض النّوويّ وأصبحت أكثر سهولةً من النّاحية التّكنولوجيّة والاقتصاديّة. وفي عام 2008، بعد 15 عامًا في السّجن، حاول محامو كاثلين إثبات برائتها مرّة أخرى. لكن هذه المرة لجؤوا إلى عالمة المناعة كارولا غارسيا دي فينويسا (Carola Garcia de Vinuesa) من الجامعة الوطنيّة الأستراليّة، وطلبوا مساعدتها في العثور على أدلّة تشير إلى وجود مرض وراثيّ لدى الأطفال.

أجرت فينوسا اختبارًا جينيًّا شاملًا تضمّن التّسلسل الكامل الشّريط الوراثيّ "الجنيوم" للأم وللأطفال. لجأت فينوسا أيضًا للأب، لكنّه رفض التّعاون. كشف الاختبار أنّ الفتاتيْن حاملتان لطفرة جينيّة نادرة ومميتة في جين CALM2، الّذي يشارك في العديد من العمليّات البيولوجيّة المتعلّقة بنقل الكالسيوم في الخليّة. يؤدّي التّلف في هذا الجين إلى خلل في إنتاج بروتين معيّن، ممّا قد يسبّب مشاكل في نشاط القلب، حتّى قد يؤدّي إلى سكتة قلبيّة في سنّ مبكّرة. أمّا الأولاد، فقد اكتُشِفت نسختان لطفرات جينيّة من جين BSN، الأمر الذي يمكن أن يسبّب الصّرع. بشكل طبيعيّ، يتلقّى النّسل نسختيْن من الجين، واحدة من الأب والأخرى من الأم. وفي حالة عائلة فولبيج، ورث الأطفال نسخةً واحدةً من الجين المضطرب من الأم، ومن المحتمل أنّهم حصلوا على النّسخة الثّانية من الأب، لذلك، من الممكن أن يكون مزيج الجينات من كلا الوالدين، هو الّذي قد أدّى إلى النّتيجة المأساويّة.

قدّم المحامون هذه النّتائج إلى المحكمة، وطالبوا بإعادة محاكمة كاثلين. في البداية، رفضت المحكمة الطّلب، وقرّرت أنّ هذه النّتائج لم تكن كافيةً لإثارة شكّ منطقيّ في إدانتها، بسبب صعوبة إثبات وجود صلة طبّيّة بين الطّفرات وسبب الوفاة. ولربّما من المنطقيّ افتراض أنّ الأمّ قتلت أطفالها، بدلًا من أن نعزو وفاتهم على وجه التّحديد إلى الطّفرات النّادرة الّتي اكتُشِفت. لم تُستَأنَف المناقشة القانونيّة للإدانة، إلّا بعد ضغوطات طويلة من النّاس، بما في ذلك آراء طبّيّة وعريضة موقّعة من عشرات العلماء والمهنيّين الطّبّيّين. خلال المحكمة، وبالنّظر إلى الأدلّة الجينيّة، أضطرّ محامي النّيابة إلى الاعتراف بوجود شكّ معقول في إدانتها. في 5 حزيران 2023، حصلت كاثلين على عفو وأُطلِقَ سراحها من السّجن بعد 20 عامًا.


في عام 2008، اتصل محامو كاثلين بعالمة المناعة التي أجرت اختبارًا جينيًا شاملًا. باحث يفحص تسلسل الـ DNA | المصدر: Monika Wisniewska, Shutterstock

انتصار علميّ

في عام 2003، وبعد جهد دوليّ استمر 13 عامًا، وكلّف نحو ثلاثة مليارات دولار، تمّ بنجاح إنجاز المشروع الضّخمّ لتسلسل الجينوم البشريّ. كان هذا أيضًا هو العام الّذي حُوكِمت فيه وأُدينَت كاثلين، لذا فمن الواضح أنّ الأدوات اللّازمة لتبرئتها لم تكن متاحةً في ذلك الوقت. مع مرور السّنين، أصبحت التّكنولوجيا أكثر كفاءَةً وانخفضت التّكلفة بشكل ملحوظ. على سبيل المثال، في يومنا، تقوم العديد من المختبرات في جميع أنحاء العالم بإجراء هذه الفحوصات بشكل روتيني، بتكلفة مئات الدولارات لكلّ فحص. بحيث يمكن فكّ التّسلسل الكامل والبحث عن اضطرابات في الحمض النّوويّ من عيّنة DNA واحدة، والّذي يمكن استخراجه بسهولة من أيّ نسيج للكائن الحيّ، حتّى بعد الموت.

إنّ معرفتنا للجينوم البشريّ، أي كلّ المادّة الوراثيّة للشّخص، تتطوّر بسرعة، وما تزال بعيدة عن الاكتمال. كان من حظّ كاثلين أنّه عُثِرَ على طفرات لديها ولدى أطفالها، في جينات أساسيّة الّتي يُعرف دورها. بينما لو تمّ اكتشافها في مناطق الـ DNA الّتي لم تتمّ دراستها كثيرًا، فمن المحتمل أنّ إدانتها كانت ستظلّ على حالها.

ليست هذه هي المرّة الأولى الّتي يساعد فيها فحص الـ DNA، في تبرئة الأشخاص الّذين أدينوا بالقتل دون ارتكاب الجريمة، ولكن غالبًا تكون هذه قضايا الّتي أُدين فيها المتّهم بالقتل بعد سنوات التّسعينيّات، إذ بدأت المحاكم بالتّعرّف على صحّة الأدلّة من فحوصات الـ DNA في أواخر الثّمانينيّات فقط. بل أنّ اليوم هناك مبادرة في الولايات المتّحدة تُسمّى "مشروع البراءة" (Innocence project)، الّذي يُعاد في إطارها فحص الأدلّة الجينيّة المحفوظة من التّحقيقات الجنائيّة القديمة، وذلك بهدف معرفة ما إذا كانت تحوي معلومات جديدة، قد تسقط إدانة أشخاص أبرياء. فحتّى كتابة هذا النّصّ، تمّ تبرئة 243 شخصًا ضمن هذا المشروع. أجبر خمسة بالمائة من هؤلاء على الاعتراف بالذّنب في محاكمتهم الأصليّة، رغم أنّهم لم يرتكبوا الجريمة، وحُكم على حوالي عُشرهم بالإعدام.

"الأشياء الّتي احتمال حدوثها واحد في 64 مليونًا، تحدث دائمًا" - تيم مينشين

شكّ معقول

حدثت مصادفة مزدوجة في حالة عائلة فولبيج. فاحتمال الإصابة بالطّفرة الّتي أدّت إلى وفاة الطّفلتين هو واحد في 35 مليونًا، الأمر الّذي يُعتبر نادرًا للغاية. حيث تمّ التّعرّف على 135 فردًا حاملًا للطّفرة فقط في جميع أنحاء العالم، لكن من المحتمل أن يكون هناك المزيد من حاملي المرض، الّذين نجوا ولم يُكتَشفوا. فيكفي أن يكون أحد الأبويْن حاملًا للطّفرة لكي تظهر في 50 بالمائة من نسلهم، وفي عائلة فولبيج عملت الإحصائيات كما هو متوقّع، بحيث ورث اثنان من الأطفال الأربعة الجين المضطرب من الأم.

أمّا بالنّسبة للصّبيان، فهي صدفة مختلفة؛ فإنّ انتشار الجين المضطرب الّذي ربّما أدّى إلى وفاتهم منخفض نسبيًّا، لكنّه ليس نادرًا إلى هذا الحدّ - واحد من كلّ 25 ألف شخصٍ. وفي هذه الحالة، يجب أن يتوارث الشّخص نسختيْن من الجين المضطرب - أي من كلا الوالدين. ممّا يعني أنّه من سوء الحظّ أن يكون كلا الوالديْن حاملان للطّفرة، بحيث يمكن أن ينقلوها إلى أبنائهم. يعتبر احتمال هذه المصادفة صفرًا، لكنّ الأدلّة قاطعة وواضحة. هناك سبب طبّيّ منطقيّ لوفاة الأطفال الصّغار. 

هذه النّقطة تثير التّساؤل حول ماهية الشّكّ المعقول. فأُدينت كاثلين فولبيج على أساس أنّ احتمال وفاة أطفالها الأربعة لأسباب طبيعيّة، كان منخفضًا جدًّا لدرجة أنّه منعدمًا، ولكن كما تظهر في قصّتها، فحتّى الفرصة الضّئيلة هي فرصة ممكنة.

في الواقع، يعتبر كلّ حدث نواجهه هو حدث نادر لا مثيل له، إذ لم يكن ممكنًا إلّا بفضل سلسلة طويلة من الأحداث الّتي أدّت إليه. فإنّ الكارثة الّتي احتمال وقوعها هو واحد في 73 مليونًا، لن تؤثّر على عشرات ملايين الأشخاص الّتي مرّت عليهم، ما عدا الشّخص الوحيد الّذي "خسر الرّهان"، وهذه هي حقيقة مؤكّدة ومؤلمة. بالتّالي، "في النّهاية، السّؤال ليس عن مدى ندرة هذه الطّفرات، ولكن عن احتمال أن تلتقي كاثلين بشخص مثل كريغ، اللذانت يتشاركان هذه المجموعة المحدّدة من الطّفرات معًا. وبمجرد ظهور علم الوراثة في الصّورة، تطير الإحصائيّات إلى الجحيم"، اختتمت فينويسا كلامها.

وفي طبيعة الحال، ما يزال هناك احتمال أن يكون الأطفال الصّغار قد قُتلوا بالفعل. كلّ ما نعرفه هو أنّ الأدلّة الطّبّيّة المتوفّرة لا تسمح بتحديد ذلك على وجه اليقين. والأمر الواضح هو أنّنا لو لم نتعلّم كيفيّة فحص تسلسل الجينوم، لكانت كاثلين فولبيج قد قضت بقيّة حياتها في السّجن. إنّ التّطوّرات العلميّة في مجال علم الوراثة وإمكانيّة الوصول إليها، إلى جانب العلماء وخبراء الطّبّ لكشف الحقيقة، مكّنت من تبرئتها، حتّى لو بعد مرور عقديْن من الزّمان. 

 

0 تعليقات