بينما تعجّل العولمة ووسائل النقل الحديثة انتشار الأوبئة بشكل كبير وسريع بين القارات، يتيح الطب الحديث الحد من العديد منها. فهل تنتشر الأمراض بشكل مختلف اليوم؟
يبدو اليوم أننا نجحنا في التحكم بانتشار الأوبئة الكُبرى وتفشيها، على نقيض ما كان عليه الحال في الماضي، حيث كانت الأوبئة تفتك بمجموعات سكانية كاملة. وإن كان الأمر صحيحًا إلى حدّ ما في أوروبا والدول المتقدمة، فإن الأوبئة لا تزال تتسبب بموت الملايين من البشر سنويًّا في دول العالم الثالث. فهل يمكننا الحديث عن اختلاف نمط انتشار الأوبئة مع مرور السنين؟
تاريخ فتّاك
يعود تاريخ تفشي أحد الأوبئة الموثقة الأولى إلى القرن الخامس قبل الميلاد في اليونان القديمة. فقد أودى وباء الحمى النمشية (التيفوس) بحياة نصف سكان المنطقة أو ما يقدر بمئة ألف إنسان. ولعل أحد أبرز الأوبئة المسجلة في التاريخ القديم هو وباء الطاعون الأنطوني (قد يكون الجدري أو الحصبة)، الذي تفشى في الإمبراطورية الرومانية في عهد القيصر ماركوس أوريليوس في القرن الثاني للميلاد، فأهلك نحو ألفَي شخصي يوميا ونحو ربع سكان الإمبراطورية بحسب التقديرات.
أما الوباء الأشهر تاريخيا فهو ذاك المسمى بالموت الأسود أو الطاعون الأسود، والذي تفشى في أوروبا ووصل إلى ذروته ما بين 1345 -1351. ابتدأ الطاعون الأسود في الصين لينتقل من هناك مع التجار عبر طريق الحرير إلى شبه جزيرة القرم. ويحكى أن المغول استخدموا ضحايا الطاعون الأسود في حصار مدينة كابا، فكانوا يلقون بجثث الجنود ضحايا الطاعون عبر الأسوار إلى داخل المدينة ليتفشى الوباء بين سكانها. ويُعتبر هذا الحدث سابقةً تاريخية للحرب البيولوجية. انتشر الطاعون الأسود لاحقًا من شبه جزيرة القرم إلى القسطنطينية ومدن حوض البحر الأبيض المتوسط، لينتقل من شواطئ إيطاليا إلى عمق "القارة العجوز"، أوروبا، حيث امتد الى الجزر البريطانية وحتى إلى جرينلاند البعيدة. أصبح الطاعون الأسود مثلا مرعبا لقدرة الأوبئة على الانتشار في كل قارات الأرض بعد أن اضحى جائحة عالمية مميتة أهلكت نحو 35 مليونًا في الصين وعددًا مماثلًا في أوروبا، أي نحو نصف سكانها.
الطاعون الأسود في مدينة تورناي البلجيكية عام 1349
أما بخصوص أوبئة الماضي القريب، وفي القرن العشرين على وجه التحديد، فيمكننا الحديث عن وباءَين بارزَين: أولهما وباء الحمّى الاسبانية، الذي اندلع عام 1918 وأودى بحياة 75 مليون شخصا بالتقريب؛ أما الثاني فهو وباء الايدز، الذي بدأ يتفشى في الغرب في الستينيات وما زال ينتشر دون هوادة في بعض دول أفريقيا حتى يومنا هذا، حيث تسبب بموت حوالي 30 مليون نسمة حتى الآن. وبخلاف هذين الوباءَين، أهلك وباء انفلونزا هونغ كونغ، الذي اندلع عام 1968، مليون إنسان "فقط".
أما في القرن الحادي والعشرين فقد شهدنا تفشي أوبئة عديدة، حظيت بتغطية إعلامية واسعة، بالرغم من انحصار انتشارها. ولعل أشهر هذه الاوبئة كان SARS في آسيا، إنفلونزا الطيورـ إنفلونزا الخنازيرـ البوليو أو شلل الأطفال (خاصة محليا في إسرائيل)، ومؤخرا انتشار فيروس زيكا في أميركا الجنوبية، وهو وباء غير مميت، لكنه يتسبب بتشوهات خلقية صعبة لدى الأطفال الرضع والمواليد الجدد. إضافة إلى ذلك، لا تزال أوبئة أخرى "عادية" مثل الملاريا تعيث فسادا في دول العالم الثالث.
قسم لمعالجة مرضى الإنفلونزا في مستشفى في الولايات المتحدة، أثناء تفشي وباء الإنفلونزا الإسبانية
تجارة الأمراض
يمكننا اعتبار انتشار الأوبئة الواسع في كل أنحاء العالم من خلال طرق التجارة والسياحة أحد الآثار الرئيسية للعولمة. فهكذا انتقل "الموت الأسود" من الصين إلى أوروبا عبر طريق الحرير، فيما أخذ الأوروبيون معهم كلًّا من وباءَي الجدري والحصبة إلى "العالَم الجديد" (القارتين الأمريكيتين) عبر رحلات الاستكشاف والاحتلال. وكان تفشي الاوبئة والأمراض في العالم الجديد، حتى البسيطة منها، مميتا بشكل استثنائي وغير مسبوق؛ فأجسام السكان الأصليين لم تحتوِ على أية مناعة ضد مسببات الأمراض الجديدة. من الجدير بالذكر أن انتقال الأمراض إلى السكان الأصليين لم يتم دائمًا بشكل عفوي، وإنما بشكل مقصود في بعض الأحيان، كنوع من السلاح من قبل المحتلين. بالإضافة إلى ذلك، لعبت تجارة العبيد الافارقة هي أيضا دورا أساسيا في تفشي أوبئة كالحمى الصفراء وأمراض أخرى بين سكان الأمريكيتين الأصليين.
أما في الوقت الحاضر وبفضل وسائل النقل الحديثة، أصبح العالم في متناول اليد وبات السفر للتجارة أو السياحة من سلوكيات البشر العادية، فصار انتشار الأمراض والأوبئة حول العالم أسهل وأسرع. ومن أبرز الأمثلة على ذلك انتشار فيروس عوز المناعة البشري (HIV) الذي يتسبب بمرض الإيدز ليصبح وباءً عالميا. اندلع وباء الإيدز في بداية الأمر في منطقة محصورة في الكونغو في العشرينات، وانتشر في جميع أنحاء الكونغو بعد افتتاح سكة حديد وطنية في الستينات. وعام 1967 صُدّر فيروس الـ HIV إلى جزيرة تاهيتي عبر البحر ومن هناك إلى الولايات المتحدة، لينتشر منها إلى بقية أنحاء العالم.
أما بالنسبة للتحدي الوبائي الأكبر في العصر الحالي، فهو يتجسد بالفيروسات التي تنتقل بواسطة البعوض، كما هي الحال في دول العالم الفقيرة، وخاصةً في المناطق الاستوائية حيث يتواجد البعوض بكثرة. فما زالت أوبئة كالملاريا، الحمى الصفراء، وحمى الضنك متفشية جدا في هذه المناطق حاصدةً أرواح الملايين من سكانها. تكمن صعوبة مواجهة هذه الأوبئة في شقّين: الأول هو انتشار الأمراض في دول فقيرة لا تمتلك ميزانيات لإجراء أبحاث لإيجاد الحلول. أما الشق الثاني فيتجلى بنجاعة البعوضة وقدرتها الفائقة على نقل مسببات الأمراض من مكان الى آخر.
بعوضة من نوع Aedes aegepti تنقل فيروس زيكا، الحمى الصفراء، ومسببات أمراض أخرى | Science Photo Library
حمَّى زيكا
لعل أحدث الأمثلة على انتشار الأوبئة عن طريق البعوض هو انتشار حمَّى زيكا. حظي هذا المرض بتغطية إعلامية واهتمام عالمي واسع، وذلك كما يبدو بسبب انتشاره في جنوب الولايات المتحدة. وكان هذا الوباء الفيروسي قد بدأ في غابات زيكا في إفريقيا في الخمسينات. في السبعينات والثمانينات، بدأ ينتشر شرقًا وظهر في الهند، إندونيسيا، ماليزيا، وباكستان. أما التفشي الأكثر حدة للزيكا فحدث في جزيرة ياب (Yap) التابعة لجزر ميكرونيزيا في المحيط الهادئ. ولبُعد هذه الجزر عن اليابسة، يرجّح أن الوباء انتقل من خلال سائح حامل للفيروس وليس عن طريق البعوض.
انتشر وباء الزيكا عامَي 2013 و 2014 في جزر إضافية في المحيط الهادئ، وخصوصًا في بولينيزيا الفرنسية. وفي أيار 2015، وصل الفيروس إلى أميركا الجنوبية، بدءًا بالبرازيل، ثم كولومبيا، بنما، السلفادور، المكسيك، غواتيمالا، فنزويلا، وباراغواي. وفي نهاية العام، صدرت تقارير عن انتشار وباء الزيكا في إقليم بورتو ريكو ثم في ولاية تكساس الأمريكية وأماكن أخرى.
تتحقق في البعوض أهم السمات التي تجعله أداة نقل مثالية للفيروسات والجراثيم المختلفة. فالبعوض يتكاثر بوتيرة مرتفعة ويتنقل باستمرار من مكان إلى آخر، ما يجعل التخلص منه وكبحه أمرًا في غاية الصعوبة. فمن المحتمل مثلًا أن تنتقل بعوضة حاملة أحد مسببات الامراض عبر القارات إن تواجدت صدفة داخل طائرة أو على متن سفينة، كما أنه محتمل جدا أن يلسع هذا البعوض سائحا ليقوم هو بنقل الوباء إلى مكان آخر. وتحمل لنا التغييرات المناخية المتوقعة في القرن الجاري أخبارا سيئة في هذا الصدد، فقد تتوسع رقعة المَواطن البيئية للبعوض مستقبلًا لتتخطى المناطق الاستوائية وتصل إلى أوروبا وأمريكا الشمالية، ما يزيد انتشار الأوبئة بشكل كبير. بكلمات اخرى: قد تصبح مشكلة العالم الثالث اليوم وباء العالم الغربي في الغد.
نستنتج إذًا أن العولمة أمست عاملا رئيسيا في توسُّع رقعة انتشار الأوبئة، بدأت معالمه تبدو مع أولى الإمبراطوريات القديمة. أضف إلى ذلك قدرة بعض الفيروسات، كفيروسات الإنفلونزا، على ملاءمة نفسها بوتيرة عالية بفضل تراكم الطفرات في جينومها، ما يجعل انتشار هذه الفيروسات خطرا لا يُستهان به ويصعب التصدي له. فعام 2009 ظهر وباء إنفلونزا الخنازير جراء ظهور فيروس إنفلونزا جديد يحمل مزيجًا من جينات أربعة أنواع مختلفة من الإنفلونزا. وإذا ما دمجنا هذه السمة للإنفلونزا مع عامل العولمة، يصبح متوقعا جدا ظهور أوبئة إنفلونزا عالمية تتفشى بالاستعانة بالعولمة.
الوقاية الناجعة
يكمن الفرق الكبير بين أوبئة العالم القديم وأوبئة العصر الحديث في تطوّر العلم وتراكم المعرفة، حتى حول أدق تفاصيل الأوبئة، بواسطة البحث العلمي. أتاح هذا الأمر للبشر تطوير أدوات ووسائل قوية وفعالة لمواجهة الأوبئة، وكذلك تطوير لقاحات ومضادات حيوية، وبالتالي تحسين ظروفنا الصحية. ويتجسد النجاح الأكبر في هذا الخصوص في القضاء على وباء الجدري، بعد أن كان من أكثر الأوبئة فتكًا في التاريخ البشري. ويُذكر أيضا إحكام السيطرة على أمراض وبائية مميتة أخرى، مثل وباء السل، بواسطة المضادات الحيوية والنظافة الشخصية، علمًا أنّ هذه الأمراض ما زالت منتشرة ومميتة في بعض الدول الفقيرة.
ومن أهمّ التطورات على هذا الصعيد إنشاء مؤسسات مثل منظمة الصحة العالمية (WHO) التابعة للأمم المتحدة، والتي تتيح توحيد الجهود العالمية لرصد تفشي الأوبئة ومعالجتها، ليكون هذا أثرا إيجابيا للعولمة. بالمقابل، تعمل منظمات أخرى، مثل مركز مكافحة الأمراض في الولايات المتحدة (CDC)، على مكافحة الأمراض الوبائية والسيطرة عليها على الصعيد الوطني. ولم تكن هذه الجهات متوفرة في القرون السابقة.
مع ذلك، نواجه في العصر الحديث خطرًا جديدا يتمثل في تفشي الأوبئة من خلال استخدام الأسلحة البيولوجية. فالعديد من الدول تحتفظ بفيروسات ومسببات أمراض فتاكة للاستخدام العسكري، وقد حدث بالفعل أن تسربت مثل هذه الموادّ في الماضي. وباتت هذه الحوادث محل إلهام لروايات الخيال العلمي، كرواية "الموقف" الشهيرة لمؤلفها ستيفن كينغ. علاوةً على ذلك، فإن تقنيات صنع الفيروسات أصبحت اليوم متاحة أكثر من أي وقت مضى وقد تصل إلى جهات معادية. نختم حديثنا آملين بأن تكون دول العالم - والعلماء فيها خصوصًا - على قدر كافٍ من المسؤولية حتى لا نكتوي بنار أوبئة لا داعي لها.