الكتب المطبوعة أم الكتب الرّقميّة- أيّهما أكثر صداقةً للبيئة؟
"يفكِّر البشر في القصص؛ ليس في الحقائق أو الأرقام أو المعادلات"- هذا ما كتبه يوفال نوح هراري في بداية كتابه "21 فكرة في القرن الـ- 21". يُعتبَر سرد القصص جزءًا أساسيًّا من كوننا بشرًا، فتنتقل القصص منذ فجر البشريّة من الأبّ إلى الابن، ومن الأمّ إلى الابنة. منذ حوالي 5000 عام، حدث تغيير هائل في تقنيّة سرد القصص مع اختراع الكتابة المِسماريّة، والّتي سمحت للبشر بتوثيق كلّ ما يمكن قوله شفهيًّا عن طريق الكتابة. في الواقع، تمّ العثور على مخطوطات وكتب قديمة تحكي قِصصًا مختلفة في جميع أنحاء العالم.
لآلاف السّنين، كانت هذه المخطوطات والكتب متاحةً للأثرياء أو المتعلّمين فقط. ولكن في القرن الخامس عشر، أصبح الوصول إلى الكتب متاحًا لعامّة النّاس بفضل اختراع يوهان جوتنبرج (Johannes Gutenberg) للمطبعة، والّتي أشعلت ثورةً في عالم الطِّباعة، وأتاحت طباعة عدد كبير من الكتب بسرعةٍ وبتكلفةٍ زهيدةٍ. منذ حوالي 15 عامًا، قامت الثّورة الرّقميّة بمنحنا "القارئ الإلكترونيّ"، وهو جهاز مخصّص لعرض الكتب وقراءتها. ومع ذلك، وبشكلٍ مثيرٍ للدّهشة، فإنّ الكتب المطبوعة لا تزال تهيمن على سوق الكتب. وِفقًا لجمعيّة النّاشرين الأمريكيّين، فإنّ حوالي 10 في المائة فقط من جميع الكتب المُباعة في الولايات المُتّحدة هي كتب رقميّة، وحتّى أقلّ من ذلك كتبٌ صّوتيّة، والباقي كتب مطبوعة.
حوالي 10 في المائة فقط من جميع الكتب المُباعة هي كتب رقميّة. شخص يقرأ كتابًا رقميًّا | المصدر: TierneyMJ, Shutterstock
كيف تعمل الكتب الرّقميّة؟
تختلف شاشات الكتب الرّقميّة عن شاشات أجهزة التّلفزيون أو أجهزة الكمبيوتر. نلاحظ أنّه عند قراءة نصٍ من شاشة الكمبيوتر أو الجهاز اللّوحيّ، "تتعب" الأعين بعد بضع ساعات. وذلك لأنّه يصدر عن شاشات التّلفزيون والكمبيوتر ضوء أزرق، يمكن أن يُتلِف شبكيّة العين. بالإضافة إلى ذلك، يخلق ضوء الشّمس أو النّيون انعكاسات غير مرغوب فيها على الشّاشة.
تتكوّن شبكات الكمبيوتر والتّلفزيون، مثل شاشات LCD، من آلاف الوحدات من البكسل. يحتوي كلّ بكسل على شبكةٍ متداخلة من مرشِّحات (filters) باللّون الأحمر، الأخضر والأزرق، والّتي من خلال الجمع بينها يتمّ إنشاء الألوان وعرضها على الشّاشة. يتمّ إنشاء لون مُعيّن وتحديده في كلّ بكسل، والّذي يمكن أن يكون مختلفًا عن ألوان وحدات البكسل الأخرى، عن طريق تغيير الحقل الكهربائيّ، ممّا يتسبّب في مرور كمِّيّات مختلفة من الضّوء عبر كلّ واحدةٍ من هذه المرشِّحات. في النِّهاية، تصل أعيننا كلُّ الألوان في جميع وحدات البكسل وتكوِّن الصّورة الكاملة على الشّاشة.
بعكس شاشات الكمبيوتر والتّلفزيون، تعمل شاشات القارئات الإلكترونيّة بتقنيّة تسمّى: "الورق الإلكترونيّ" (Electrophoretic Display). يتكوّن كلّ بكسل في هذه التّقنيّة من كبسولةٍ صغيرةٍ بداخلها سائل شفّاف وجزيئات صغيرة من نوعيْن- أبيض بشحنةٍ موجبة وأسود بشحنةٍ سالبة. تتواجد هذه الكبسولات بين قُطبيْن. عندما يتمّ تطبيق حقل كهربائيّ في اِتّجاه واحد، تتحرّك الجزيئات البيضاء فقط لأعلى باِتّجاه الشّاشة، وبالتّالي تظهر نقطة بيضاء؛ وعندما يتمّ تطبيق حقل كهربائيّ في الاِتّجاه المعاكس، تتحرّك الجزيئات السّوداء فقط نحو الشّاشة، وبالتّالي تظهر نقطة سوداء. يُكوِّن مجموع النِّقاط على الشّاشة النّصّ بالأبيض والأسود.
تتميّز هذه التّكنولوجيا بميزتيْن رئيسيّتيْن. أوّلًا، تُعتَبر هذه التّقنيّة موفّرة للطّاقة- الاستثمار الوحيد في الطّاقة المطلوب هو نقل الجزيئات من مكان إلى آخر، وطالما لم يكن هناك تغيير في المحتوى المعروض على الشّاشة، فلا حاجة لاِستثمارٍ إضافيّ في الطّاقة. ثانيًا، لا تُصدِر هذه الشّاشات ضوءًا، ولكنّها تعكس الضّوء الّذي ينشأ من البيئة تمامًا مثل الورق. لذلك، تكون مريحةً وأقلّ إجهادًا للعيون عند القراءة، ومن الممكن القراءة حتّى عند تعرّضها لأشعّة الشّمس المباشرة.
تَستخدِم التّقنيّة "حبرًا" إلكترونيًّا، حيث يتكوّن كلّ بكسل من كبسولة صغيرة، فيها سائل شفّاف وجزيئات صغيرة من نوعيْن بداخلها. الورق الإلكترونيّ | مصدر: Science Photo Library
البصمة الكربونيّة للكتب
يمكن لقارئٍ إلكترونيّ واحدٍ أن يسمح لنا بقراءة أكبر عددٍ نريده من الكتب. كما أنّه ليست هناك حاجةٌ لقطع الأشجار لإنتاج الورق، أو استهلاك الوقود من أجل نقل الكتب فِعليًّا من مكان إلى آخر. على ما يبدو، أمامنا تقنيّة "صديقة للبيئة" لا مثيل لها. هل هذا صحيح؟ هل الكتب الرّقميّة أفضل حقًّا من وجهة نظرٍ بيئيّة؟
لا توجد إجابة واحدة على هذا السّؤال، بل تعتمد على عادات القراءة لكلّ شخص. لحسم هذا النّقاش، من المهمّ فهم كيف يمكن قياس التّأثير البيئيّ للكتب المطبوعة مقابل الكتب الرّقميّة. إحدى طرق قياس هذا التّأثير تتمثّل في تقدير البصمة الكربونيّة، وهي إجماليّ اِنبعاث غازات الاِحتباس الحراريّ لشخصٍ أو مصنعٍ أو دولة أو عمليّة إنتاج لأيّ منتجٍ معيّن. تُقاس البصمة الكربونيّة بتحديد كمّيّة ثاني أُكسيد الكربون المنبعثة، بوحدات الوزن. في دراسة أُجرِيت في هذا المجال، قُدِّر أنّ البصمة الكربونيّة لكتابٍ واحدٍ مطبوع على الورق تبلغ 7.5 كجم من ثاني أكسيد الكربون؛ بينما تبلغ البصمة الكربونيّة للقارئ الإلكترونيّ 167 كجم من ثاني أكسيد الكربون. أي أنّ إنتاج قارئٍ إلكترونيّ يتسبّب باِنبعاث ثاني أكسيد الكربون 22.5 مرّةً أكثر من إنتاج الكتاب المطبوع. لذلك، سوف يُساعد القارئ الإلكترونيّ بتقليل تأثير البصمة الإلكترونيّة على البيئة فقط إذا قرأ الشّخص أكثر من 23 كتابًا بمساعدته.
يمكن تحديد التّأثير البيئيّ للكتب المطبوعة مقابل الكتب الرّقميّة. البصمة الكربونيّة | المصدر: Ink Drop, Shutterstock
الموارد الطّبيعيّة والماء
من الممكن تقييم الأثر البيئيّ للكتب المطبوعة والكتب الرّقميّة بواسطة تقدير مدى استهلاك الموارد الطّبيعيّة أيضًا. تعتمد صناعة الطِّباعة على الورق، والّتي تتطلّب قطع العديد من الأشجار، الّتي تُعتبَر مهمِّة للحفاظ على التّوازن بين الأكسجين وثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجويّ وإِبطاء ظاهرة الاِحتباس الحراريّ. ومع ذلك، في السّنوات الأخيرة،يُنتَج جزء كبير من الورق المستخدم في صناعة الطّباعة من الأشجار المزروعة خصّيصًا لهذا الغرض، وعندما يتمّ قطعها، تُزْرَع أجزاء أخرى في مكانها.
تستهلك صناعة الطّباعة أيضًا كمّيّات كبيرة جدًّا من الماء (حوالي 8 لترات من الماء لكتابٍ واحدٍ مطبوع)، وبسبب استخدام موادّ سامّة لتبييض الورق، صبغه بالحبر ولصق الصّفحات معًا، فهي مسؤولة عن تلوّث حوالي 600 مليون متر مكعّب من المياه سنويًّا. ومع ذلك، فإنّ إنتاج القارئ الإلكترونيّ يستهلك أيضًا الكثير من الموارد الطّبيعيّة. يتطلّب إنتاج قارئ إلكترونيّ واحد حوالي 15 كغم من المعادن الخام الّتي تُنتَج منها عناصر نادرة، مثل: التّنتالوم والكوبالت، والّتي تعدّ ضروريّة لإنتاج المكوّنات الإلكترونيّة والبطّاريات؛ علاوة على ذلك، يتسبّب إنتاجه في تلوّث حوالي 300 لتر من المياه.
لذلك، يستهلك كلٌ من الكتب المطبوعة والقارئات الإلكترونيّة الكثير من الموارد الطّبيعيّة ويُسبّب التّلوّث. لكن، بالرّغم من أنّ إنتاج قارئٍ إلكترونيّ واحد يستهلك كمّيّة من الماء تزيد 40 مرّة عن تلك المطلوبة لإنتاج الكتاب المطبوع، وكذلك العناصر النّادرة الّتي يجب اِستخراجها من الأرض، إلّا أنّه لا يتطلّب قطع أشجار؛ ومن الممكن استخدام قارئٍ إلكترونيّ واحدٍ من أجل قراءة العديد من الكتب الرّقميّة.
تستهلك صناعة الورق والطِّباعة العديد من الموارد الطّبيعيّة، كما وتستخدم موادّ سامّة. مصنع ورق في أسبانيا | المصدر : tony mills, Shutterstock
إمكانيّة إعادة التّدوير
يصبِح الأمر أكثر تعقيدًا عند النّظر في إمكانيّة إعادة تدوير الكتب المطبوعة مقابل القارئ الإلكترونيّ. يتمّ إصدار نموذج جديد من القارئ الإلكترونيّ في السّوق كلّ بضع سنوات، ويريد العديد من المستخدمين شراء أحدث إصدار. يُعرَّف القارئ الإلكترونيّ الّذي يُلقَى في سلّة المهملات بأنّه نفايات إلكترونيّة سامّة، تلوِّث الأرض والمياه والهواء بموادّ سامّة، مثل: الرّصاص، السّيلينيوم، الزّئبق، الكادميوم وجزيئات البلاستيك. بالرّغم من أنّ قدرتنا على إعادة تدوير النّفايات الإلكترونيّة تتحسّن على مرّ السِّنين، إلّا أنّها لا تزال عمّليّة مُكلفةً ومعقّدةً. بالمقابل، من الممكن استخدام الكتب المطبوعة لعقودٍ، واستعارتها من المكتبات العامّة، حيث يمكن لمئات الأشخاص المختلفين استخدام كلّ كتابٍ واحدٍ؛ علاوة على ذلك، فإنّ عمليّة إعادة تدويرها أبسط بكثير.
لذلك، فإنّ إنتاج الكتب المطبوعة على الورق والقارئات الإلكترونيّة يستهلك الكثير من الموارد الطّبيعيّة ويضرّ بالبيئة. إذا أخذنا بعيْن الاِعتبار تأثير انبعاث ثاني أكسيد الكربون وتلوّث المياه على البيئة، فإنّ القارئ الإلكترونيّ الواحد يعادل حوالي 20 إلى 40 كتابًا مطبوعًا؛ بالإضافة إلى ذلك، يتطلّب إنتاج القارئ الإلكترونيّ أيضًا معادن وعناصر نادرة. لذلك، ترتبط المقارنة البيئيّة بين القارئ الإلكترونيّ والكتاب المطبوع أيضًا بعدد الكتب الّتي يرغب مستخدمٌ واحدٌ في قراءتها قبل استبدال القارئ الإلكترونيّ الخاصّ به. فإذا كنتَ ستستخدم القارئ الإلكترونيّ لقراءة 40 كتابًا أو أكثر، فهو بديل "صديق للبيئة" أكثر من شراء 40 كتابًا مطبوعًا وقراءتِهم.