لا يتفرّدُ الإنسان بالقدرة على عدِّ الأشياء والمقارنة بين كمّياتها وإجراء العمليّات الحسابيّة. بمناسبة افتتاح العام الدّراسي: أيّ الحيوانات تعرف الحِساب؟
بدأ عشرات الآلاف من تلاميذ الصفّ الأوّل المنفعلين عامَهم الدّراسي في الأوّل من أيلول. سيتعلّم هؤلاء التّلاميذ، من ضمن موادّ كثيرة، إجراءَ العمليّات الحسابية، بدءًا من الجمع والطّرح: كم يساوي ثلاثة زائد واحد؟ وماذا بالنّسبة لأربعة ناقص واحد؟
قد يجدُ الأولاد مساعدةً لِحلِّ هذه المسائل البسيطة في حوض السّمك؛ فقد أظهرت دراسةٌ نُشِرت هذا العام أنّ أسماكًا معيّنةً قادرةٌ على القيام بهذه الحسابات.
على الرغم من أنّ الأمر يبدو غريبًا ومُفاجئًا، يتّضحُ من تَفَحُّص شتّى الدّراسات التي أُجريت في هذا المجال، أنّ الأسماك ليست شاذّةً في ذلك. فمقالاتٌ كثيرةٌ نُشرت في السنين الأخيرة أظهرت وجود قدرات رياضيّة عند الكثير من الحيوانات على اختلاف أنواعها، من الأسماك حتى الثدييّات، ومن الطّيور حتى الحبابير والحشرات والعناكب. تستطيع الكثير من الحيوانات المقارنة بين كمّيات الأشياء، وأن تُجري عمليّات الجمع والطّرح وتُدرك حتّى مفهوم الفكرة الرياضيّة المراوغة المتملّصة، ألا وهي الصفر. يتّضحُ إذًا أنّ الإنسان ليس هو الكائن الوحيد الذي يعرف العمليّات الحسابيّة. سنقوم في هذه المقالة، بمناسبة افتتاح العام الدّراسيّ والعودة إلى مقاعد الدّراسة، بفحص القدرات الرياضيّة عند الحيوانات المختلفة.
تتجلّى قدراتها الرّياضيّة في أنّها تختار العشّ الذي تضع بيوضها فيه حسب عدد البيضات الموجودة فيه مسبقًا. في الصورة: أنثى الوقواق تقف على غصن شجرة | المصدر: Piotr Krzeslak, Shutterstock
في أيّ كومة يوجد عددٌ أكبر؟
دعونا نبدأ من الأوّل.
في أيِّ كومةٍ هُناك عددٌ أكبر من التفاحات، في الكوْمة اليمنى أم اليسرى؟
حسنًا، هذا سؤال سهل. لكن ماذا بالنسبة لهاتين الكومَتيْن؟
الفرقُ بين أعداد حبّات التفاح في الحالتين هو ذات الفرق - تُفّاحتان. لكنّ النسبة بين عدد التفاحات عن اليمين وعدد التفاحات عن اليسار أصغر في الحالة الثانية من الحالة الأولى، الأمر الذي يجعل من تقدير أيّ الكومتين هي الأكبر، بمجرد النظر إليها كمهمّة صعبة. يجب أن نعُدَّ التفاحات واحدةً تلو الأخرى كي نتوصّل إلى إجابةٍ موثوقة. القدرة على تقدير "أين يوجد أكثر؟" هي الأولى من بين القدرات الرياضيّة عند الإنسان. هذه القدرة تكون لدى الإنسان قبل أن يتعلّم عمليّات الجمع والضّرب، أو حتّى عدّ الأشياء. يستطيع الأطفال البالغون نصف سنة من عمرهم التمييز بين النقطة الواحدة والنقطتين، أو بين نقطتين وأربع نقاط، وحتّى بين ثمان نقاط وستّ عشرة نقطة. ليس المهم في الأمر، كما تبيّن لنا من مثال كومات التُّفاح، الفرق بين الكومتين أو بين مجموعات النقاط، وإنّما النسبة بينها: لم يستطع الأطفال، الذين نجحوا في التّمييز بين الاثنتين وأربعة بسهولة، أن يميّزوا بين الثمانية والاثنتي عشر.
يُسمّى النظام الدّماغي الذي يُمَكّننا من القيام بعمليّة التقدير هذه بـِ"نظام العدد التّقريبيّ" (Approximate number system). وهو نظام فِطريٌّ مخلوقٌ مع المولود ولا يعتمد على التعلُّم. تنشط هذه القدرة عند الأطفال قبل أن يتعلّموا الكلام، لأنّها لا تحتاج إلى اللُّغة.
ليس مفاجئًا أنّ هذه القدرة على تقدير الأرقام هي التي لوحظَ وجودُها عند أكبر عدد من أنواع الحيوانات. الطريقة الأسهل لفحص ذلك، هي وضع مجموعتين من الأشياء اللافتة لِانتباه الحيوان وانجذابه، المأكولات مثلًا، أمامه والمراقبة: هل يختار المجموعة التي تحوي العدد الأكبر من الأشياء. سمكة فرعون الحبّار (Sepia pharaonis)، على سبيل المثال، تُفضّلُ السِّباحة إلى المنطقة التي يوجد فيها أربع سمكات جمبري، وهو غذاؤها المفضّل، ولا تسبح إلى المنطقة المجاورة التي يوجد فيها ثلاث سمكات فقط.
المشكلة في طريقة التعرّض هذه للموضوع هي أنّه لا يمكننا أن نعرف فيما إذا كان الحيوان قادرًا على عدّ المأكولات التي وُضعت أمامه حقًّا، أو أنه يتّجه نحو الكومة الأكبر التي تحتلّ أكثرمساحةً أو حجمًا. ببساطة، يمكن المقارنة بين كِبر الكومات، في مثال كومات التُّفّاح، كي نعرف في أيّ كومة يوجد العدد الأكبر من التُّفّاحات. أظهرت الدّراسات أنّ أسماكًا معيّنةً تعتمد في اختيارها بين الأشياء على الكِبر فعلًا أكثر من الاعتماد على العدد.
هناك عِدّة طرق للتغلُّب على هذه المشكلة. أدخل الباحثون مثلًا، في دراسة أجريت على الفيلة، جزراتٍ إلى برميل، الجزرة تِلو الأخرى، على مرأى من عينيّ الفيل. لا يمكن للفيل أن يشاهد، في نهاية العمليّة، عدد الجزرات الموجودة في البرميل، لكن يمكنه عدّ الخضار ذات اللون الجزريّ أثناء إدخالها إلى البرميل. أتاح الباحثون للفيلة اختيار أحد البرميلَيْن الذين أدخلوا إليهما عددًا مختلفًا من حبّات الجزر. أبدت الفيلة قدرةً على العدّ وعرفت أيّ البرميلَيْن يحوي كمّيّة أكبر من الطّعام، إلّا أنّ هذه القدرة ازدادت صعوبةً، مثل الأطفال - والبشر عامّةً - كلما انخفضت النسبة بين عدد حبّات الجزر في البرميلين وازداد عدد الجزرات الكلّي.
فُحصت في دراساتٍ أخرى قدرةُ الحيوانات على عدّ الأصوات بدلًا من عدّ الأجسام. أبدت الضِّباع في إحدى هذه الدّراسات قدرةً على تقدير عدد الضِّباع الغريبة التي دخلت حيّزها الخاص - واحد أو إثنان أو ثلاثة -، بالاعتماد على الأصوات الصّادرة منها. لاءَمَ ردُّ فعل الضِّباع عددَ الضّباع الغازية ولم تتجه نحوها إلّا إذا كان عددها أكبر من عدد الغزاة.
أبدت الفيلة في إحدى الدِّراسات قدرةً على عدِّ حبّات الجزر التي أُدخلت إلى براميل غير شفّافة، ومعرفة البرميل الذي يحوي العدد الأكبر من حبّات الجزر. في الصورة: فيل يأكل الجزر في حديقة الحيوانات | Kit Leong, Shutterstock
الكلاب تجمع والأسماك تطرَح
لا تقتصر القدرة الرياضيّة عند الحيوانات، كما لاحظنا أعلاه، على تقدير الكمّيّات، وإنّما تشمل القدرة على الجمع والطّرح أيضًا. يحتاج الباحثون لفحص هذه القدرات استعمال وسائل لا تتطلّب استخدام اللّغة، لذا فقد توجّهوا نحو الدّراسات التي أجريت على غير القادرين على الكلام من بني البشر، أي الأطفال الذين لم تتجاوز أعمارهم نصف السنة.
أظهرت دراسةٌ نُشرت سنة 1992م أنّ أطفالًا أعمارهم خمسة أشهر قادرين، بشكل حدسيٍّ، على جمع وطرح أعداد صغيرة، مثل 1+1 أو 1-2. أقعدَ الباحثون الطّفلَ قِبالة طاولة وُضعت عليها دُميةٌ (لُعبة) واحدة، ثمّ وضعوا ستارًا بين الدُّمية وبين الطّفل بحيث لا يراها. تناول أحد الباحثين، على مرأى الطفل، دُميةً أخرى ومدّ يده وراء الستار ووضعها هناك. أزال الباحثون السّتار ورأى الطّفل ما يختبئ خلفه.
كانت في بعض الحالات دميتان وراء السّتار - الدُّمية التي تواجدت في البداية والدُّمية التي أضافها الباحث. إلّا أنّه كانت في حالات أخرى دميةٌ واحدةٌ وراء السّتار، إذ أزيلت الدُّمية الأخرى بدون أن يرى الطفل ذلك. حَدّقَ الأطفال في هذه الحالات في الدّمى مُدّةً زمنيّةً أطول بشكل ملحوظ، وتفاجأ الباحثون من هذا السلوك الذي تعارض مع توقّعاتهم. وبصورة مماثلة، إذا وُجدت دميتان على الطّاولة في البداية، ثمّ أخذ الباحث إحداها على مرأى الطّفل، نظر الأطفال مدّةً زمنيّة أطول إذا وُجدت دميتان على الطّاولة عند إزالة السّتار بدلًا من واحدة.
أُجريت تجارب مماثلة على الكلاب وعلى قرود المكاك أيضًا، تم فيها فحص المُدّة الزمنيّة التي خصّصتها هذه الحيوانات للنتائج المختلفة. استطاعت القرود القيام بتمارين أكثر تعقيدًا نوعًا ما مثل 5+3 أو 2-6.
فُحصت القدرات الرّياضيّة في دراساتٍ أخرى، بشكل أكثر مباشرةً، لكن ذلك استوجب الكثير من التمرين. فقد عرض باحثون من الولايات المتحدة الأمريكيّة، في دراسةٍ نُشرت سنة 2007م، على مرأى قرود المكاك شاشةً عليها مجموعة من النقاط، ثمّ عرضوا مجموعةً أخرى من النقاط بعدها بقليل. عرضوا، مثلًا، مجموعة من ثلاث نقاط وبعدها مجموعة من خمس نقاط. عُرضت على القرود في الشاشة التالية مجموعتان من النّقاط، حَوَت إحدى المجموعتين مجموع عدد النقاط من المجموعتيْن السابقتيْن - ثماني نقاط في هذه الحالة -، وحوَت المجموعة الثانية على عددِ نقاط آخر مختلف، وكان على القرود اختيار إحدى المجموعتيْن. أظهرت النتائج أنّ القرود كانت قادرةً فعلًا على جمع الأعداد، إلّا أنّها وجدت صعوبةً أكبر كلّما كبرت الأعداد، تمامًا كما كان متوقّعًا.
هي قادرة على القيام بعمليّات جمع وطرح بسيطة تصل حتّى 5. في الصورة سمكة الدّاسياتيس (عن اليسار) وَسمكة من عائلة البلطي (المشط) | المصدر: Prof. Vera Schlüssel, University of Bonn
نُشرت الدّراسة التي ورد ذكرها في الجملة الافتتاحيّة لهذه المقالة قبل بضعة أشهر - وفُحصت فيها قدرة الأسماك على القيام بعمليات الجمع والطّرح. عرض الباحثون على مرأى الأسماك بطاقاتٍ عليها بعض الرسومات، مثل ثلاثة مثلثات أو مربّعًا ومثلثًا. كانت الرسومات إمّا باللون الأزرق أو باللون الأصفر، وكانت المهمّة "الملقاة على" الأسماك إضافة القيمة واحد إلى عدد الإشارات الموجودة على البطاقة إذا كانت الإشارات باللون الأزرق، وطرح القيمة واحد من عدد الإشارات إذا كانت باللون الأصفر. سبحت الأسماك، بعد أن شاهدت البطاقات، نحو منطقة في الحوض وُضعت فيها بِطاقتان: على إحداهما إشارات بعدد مناسب للإجابة الصحيحة، وعلى البطاقة الأخرى إشارات بعدد مختلف. كانت سباحة الأسماك نحو البطاقة الصحيحة بمثابة إجابتها عن المهمّة.
كلّفَ الباحثون 16 سمكة بالمهمّة المذكورة: ثماني أسماك من النوع Pseudotropheus zebra من عائلة البلطي (المشط)، وثماني أسماك من الدّاسياتيس، من النوع (Potamotrygon motoro). نجحت ستُّ أسماك من البلطيّات وأربع من الدّاسياتيس، بعد تمارين كثيرة، في المهمة،. اختارت الأسماك البطاقة الصحيحة في جميع المرات، تقريبًا، التي استوجبت إجراء عمليّة الجمع; أمّا عملية الطّرح فكانت أصعب قليلًا إلّا أنّ الأسماك أجابت إجابة صحيحة في معظم الحالات، أكثر من توقعاتنا فيما لو حصلَ اختيارها للبطاقة عن طريق الصدفة.
اعتمدت هذه الدّراسة على دراسة أخرى قبلها سلكت نفس النهج تمامًا، إلّا أنّ الكائنات التي وُضعت في الاختبار هي النّحل. تعلمت 14 نحلة من نحل العسل القواعد - متى يُضاف واحِد ومتى يُطرح واحد - ونجحت في 73 بالمئة من اختبارات الجمع وفي 64 بالمئة من اختبارات الطّرح.
نجحت معظم السمكات، بعد التمرين وفي معظم الحالات، في تمارين الجمع أمّا نسبة نجاحها في تمارين الطّرح فكانت أقل قليلًا. في الصورة: بطاقات رسمت عليها أشكال هندسيّة باللون الأزرق وأخرى باللون الأصفر | المصدر: Esther Schmidt
الغربان، والنّحل والصِّفر
تستطيع الحيوانات المختلفة إذًا القيام بالعمليات الحسابيّة، وتتعدّى قدرتها الرياضيّة هذا الحدّ (الجمع والطرح)، إذ أظهرت بعض الدّراسات أنّ الحيوانات قادرة على الإدراك أنّ الإشارة تُمَثِّلُ عددًا.
علّمَ الباحثون نحل العسل، ضمن دراسة نُشرت في سنة 2019م، تشخيص إشارة معيّنة بأنها تُمَثّلُ العدد ثلاثة وأشارةً أخرى بأنها تُمثِّلُ العدد اثنين. فعلَ الباحثون ذلك استعانة بتجهيز مُكوّنٍ من خليتين. تشاهد النحلة بطاقةً عليها إحدى الإشارات عندما تدخل الخلية الأولى، ثمّ تدخل إلى الخليّة التّالية حيث يمكنها أن تختار - الهبوط بجانب البطاقة التي عليها ثلاثة أشكال، أو بجانب البطاقة التي عليها شكلان اثنان. لاءمت النحلات في 75 بالمئة من الحالات بشكل صحيح بين عدد الأشكال وبين الإشارة.
نجحت نحلات العسل في الملاءمة بين عدد الأشكال وبين الإشارة في 75 بالمئة من المرات. في الصورة: منظومة التجربة التي أجريت ضمن الدّراسة | المصدر: RMIT University
كانت قرود المكاك (Macaca mulatta) قادرةً على أكثر من ذلك بكثير (Macaca mulatta). فقد علّمَ باحثون من الولايات المتحدة الأمريكيّة ثلاثة قرود الأعداد 0 حتى 9، وتعلمت القرود أيضًا الربط بين 16 حرفًا لاتينيًّا وبين الأعداد 10 حتّى 25. تعلّمت القرود ما تدلُّ عليه الإشارات والربط بينها أيضًا. وضع الباحثون على مرأى القرود شاشةً ظهرت إشارة واحدةٌ على أحد جانبيها، وإشارتان على الجانب الآخر، وكان على القرود اختيار الجانب من الشّاشة الذي يُمثّلُ العدد الأكبر: الإشارة الواحدة أو مجموع الإشارتين. لم تنجح القرود في المهمّة في جميع المرات، إلّا أنّها اختارت المجموع الأكبر عددَ مراتٍ أكبر بكثير ممّا كان متوقعًا، فيما لو كان اختيارها قد حصل عن طريق الصدفة.
يحتملُ أنّ تُدركَ حيوانات معيّنة مصطلح الصفر، أي لا شيء. إنّ إدراك أنّ الصفر عددٌ له مكانه الخاص على محور الأعداد ليس بالأمر السّهل. ادّعى باحثون من أستراليا في مقال نُشرَ قبل بضعة أعوام، أنّ النحل قادرٌ على إدراك ذلك.
اختبر الباحثون نحل العسل بالاستعانة ببطاقات رُسمت عليها أشكال تشبه الدوائر أو المربّعات. أتاح الباحثون لِلنحلات اختيار إحدى البطاقتين، بعد أن علّموا بعضها الطيران باتجاه البطاقة التي عليها العدد الأكبر من الأشكال، وعلّموا البعض الآخر الطيران باتجاه العدد الأصغر. اختبر الباحثون النحلات، بعد أن تعلّمنَ ذلك، ببطاقتين، رُسمَ على إحداهما شكلٌ واحد ولم يُرسَم أيُّ شكلٍ على البطاقة الثانية. هل ستفهم النحلات أنّ البطاقة التي لم يُرسم عليها شكلٌ تعني صفرًا؟ يبدو أنّ الإجابة نعم: اختارت النحلات التي تمرّنت على اختيار العدد الأكبر البطاقةَ التي رُسمَ عليها شكلٌ واحد، بينما اختارت النحلات الأخرى التي تمرّنت على تفضيل العدد الأصغر البطاقةَ التي لم يُرسم عليها شيء.
أظهرت دراساتٌ أخرى أجريت على قرود المكاك وعلى غربان الزبالة والجِيَف (Corvus corone) أنّها، على ما يبدو، تَعتبر الصفر عددًا. وُجدَت لدى القرود خلايا عصبيّة تنشط كردّ فعل للرقم صفر، ويشبه قالب هذا النشاط القالب الذي شوهدَ في ردّ الفعل على الأعداد الأخرى - على العدد واحد بشكل خاصّ. ذلك يعني أنّ الصفر يتمثّل في دماغ القرود بشكلٍ قريبٍ من تمثُّل العدد واحدظت وبعيدٍ عن الأعداد الأكبر.
يختار قرد المكاك أحد الحرفين، ويُمثّل كلّ حرفٍ مُكافأةً طيّبة المذاق بحجم مختلف | المصدر: Margaret S. Livingstone et al.
معرفة الحساب متشابهة لدى حيواناتٍ لم تلتقِ من قبل
اتّضح مع تقدّم الفحوصات والأبحاث أنّ القدرات الحسابيّة، أو جزءًا منها على الأقل، منتشرة فعليًّا في عالم الأحياء. ها نحن قد صادفنا في هذه المقالة وحدها أمثلةً من دراسات عن الثدييّات والطّيور والأسماك والحشرات والحبّار (وهو من المحاريّات). الحيوانات التي تجلّت لديها هذه القدرات بعيدةٌ جدّا عن بعضها من حيث النوع. أظهرت الدّراسات أنّ تقدير الأعداد عند الحيوانات يتمّ في مناطق مختلفة من دماغ الثدييّات ودماغ الطيور.
أظهرت الدّراسات أنّ الحمام قادرٌ على التمييز بين الصور التي فيها حتى 9 أجسام وترتيبها من العدد الأصغر إلى الأكبر. في الصورة حمامةٌ تحت الاختبار | المصدر: William van der Vliet
الأفضليّة الكامنة في إجراء العمليّات الحسابيّة
يبدو أنّ هذه القدرة (على تقدير الكمّيات والقيام بالعمليّات الحسابيّة) تُكسِبُ من يمتلكها أفضليّةً ما. فما هي هذه الأفضلية؟ دعنا نبدأ بالقدرة التي، ربما، هي الأبسط، التي شوهدت لدى أكبر عددٍ من أنواع الحيوانات، القدرة على تقدير الأعداد والتحديد "أين يوجد أكثر". يقول عالِم النّفس ديفيد بور (Burr) في مقابلةٍ مع المجلّة العلميّة Science: " توجد لهذه القدرة قيمةٌ واضحة للبقاء على قيد الحياة"، "يجب على الحيوان أن يكون قادرًا على معرفة عدد الأسود التي تَهِمُّ بالهجوم عليه بمجرّد النظر إليها".
لا يقتصر الأمر طبعًا على الحيوانات المُهاجمة. تُمَكّنُ القدرةُ على تقدير الأعداد الحيوانَ من تحديد الأماكن التي توجد فيها كمّيّات كبيرة من الطّعام، واتِّخاذ القرار لأيّ شجرةٍ مثمرة يتوجه، أو معرفة الجزء من البحيرة الذي تزداد فيه فرص اصطياد السّمك. بالإضافة، لا يوجد مصدرا طعامٍ بالضرورة الواحد قرب الآخر مثلما تواجدت كومات التُّفّاح: يجب أن يتذكّرَ الحيوان أحيانًا عدد الأسماك الموجودة في وادٍ ما لِيقارنه مع وادٍ آخر، أو أن يجمع أعداد الثِّمار الموجودة على شجرتين مثمرتين، ليعرف فيما إذا كان من المستحسن له أن يختارهما، أو أن يختار الشجرة المثمرة الكبيرة الموجودة في الجانب الاخر من حيّز معيشته. لذلك، يمكن أن تكون للقدرات الرّياضيّة التي لا تقتصر على المقارنة البسيطة أهميةٌ بالغةٌ بالنسبة لحيوانات كثيرة ومتنوعة.
قد يكون الحساب مفيدًا في مجالاتٍ أخرى. لنأخذ مثلًا الوقواق الشّائع (Cuculus canorus)، الذي يعيش في بلادنا أيضًا وتضع أنثاه بيضها عادةً في أعشاش الطيور الأخرى. تمَّ خلال دراسةٍ أجريت في الصين تعقّب إناث الوقواق التي تضع بيوضها في أعشاش العصافير الصغيرة من العائلة (Acrocephalus orientalis). لا تختار الوقواقيّات الأعشاش بصورة عفويّة. فقد أظهرت المشاهدات التي امتدّت على مدار ثماني سنوات أنّ الوقواقيّات وضعت بيضها، في ثلاثة أرباعٍ من الحالات، في العشّ الذي وُجدت فيه بيضة واحدةٌ أو بيضتان لا أكثر. أجرى الباحثون تجربةً وضعوا فيها "أعشاشًا وهميّة" تحتوي على أعداد مختلفة من البيض، ووجدوا أنّ الوقواقيّات فضّلت في هذه الحالة أيضًا الأعشاش التي فيها العدد الأقل من البيض.
ما هو سبب هذا التفضيل؟ تعود ملكيّة العشِّ الذي توجد فيه بيضةٌ واحدةٌ أو بيضتان، على ما يبدو، لزوجٍ من العصافير بدأ بوضع البيض حديثًا ومن المتوقع أن يضع فيه لاحقًا المزيد من البيض. أمّا العُشّ الذي يحوي عددًا أكبر من البيضات، فقد تكون العصافير أنهت وضْع البيض فيه منذ عِدّة أيّام واقترب موعد تفقيسها.
الأفضل بالنّسبة لِلوقواقة هو اختيار العُشّ الذي بدأ وضعُ البيض فيه منذ وقت قصير: يفقس فرخ الوقواق من البيضة في وقت مُبَكَّرٍ نسبيًّا، ويُلقي عندها البيضات الأخرى من العشّ، وهكذا يستثمرُ أبواه "المُتبنّان" جُلَّ مواردهم فيه فقط. أمّا إذا وضعت الوقواقة بيضاتها في عشٍّ اقترب موعد تفقيس البيض فيه، لن يستطيع فرخها القيام بذلك عندما يفقس. يتوجّب على الوقواقة إذًا أن تعُدَّ البيضات الموجودة في العشّ وتعرفَ إذا كان عددها قليلًا بما فيه الكفاية كي تضع بيضاتها في الوقت المناسب.
تستخدمُ حيواناتٌ أخرى القدرةَ على العدّ في نقل المعلومات. يُصدرُ طائر القُرقُف ذو الرأس الأسود (Poecile atricapillus)، طائرٌ صغيرٌ يعيش في شمال أمريكا، أصواتًا تُسمَع كأنها "تشيك-ا-دي- دي" عندما يقترب منها طيرٌ جارح. يتغيّرُ هذا النّداء (الأصوات) حسب شِدّةِ الخطر: تَزيدُ هذه الطيّور من عدد مرّات "الدّي" التي تُصدرها في ندائها كلّما كان الهجوم أشدَّ خطورة، أيّ كلما كان الطّير الجارح أكبرَ حجمًا، أو انتمى إلى نوعٍ أكثر عدوانيّةً، أو كلّما زاد قربه من منطقة التعشيش. تَسمع عصافير القرقف المجاورة النّداء وتُدركُ شدةَ الخطورة القادمة حسب عدد مرّات "الدّي" التي غالبًا ما يتراوح بين اثنين وخمسة. تتجمّعُ طيور القرقف معًا وتهاجم الطير المهاجمـ لتطرده عندما يشتدُّ الخطر ويقترب.
يزداد عدد نداءات التّحذير كلّما ازدادت شدّة الخطر. في الصورة: طائر القرقف ذو الرأس الأسود | Aaron J Hill, Shutterstock