في التّكنولوجيّات القائمة حاليًّا فإنّ الذّكريات الرّقميّة لا يتمّ الاحتفاظ بها إلى الأبد. إنّ تخزين المعلومات في الـ DNA قد يؤدّي إلى إطالة عمر المعلومات المخزّنة، ويرسم أفقًا جديدًا وواعدًا

يسمح لنا تخزين الذّكريات بحفظ المعلومات بواسطة وسيط خارجيّ، بحيث يظلّ بالإمكان الوصول إليها لاستردادها واستخدامها مستقبلًا. هكذا اعتاد البشر على تخزين ذكرياتهم منذ بدء التّاريخ، إن لم يكن من قبله: بدءًا من النّقوش على الحجر والصّلصال، مرورًا بالكتب والمخطوطات المكتوبة بخطّ اليد والسّجلّات الممتلئة بالمعلومات المطبوعة طباعةً، ووصولًا إلى مقاطع فيديو مهتزّة وغير واضحة كنّا قد صوّرناها في الحفلات، وغالبًا قد لا نعود لمشاهدتها أبدًا. 

يعتمد أيّ تخزين في الذّاكرة على إمكانيّة قراءة المعلومات وفكّ ترميزها لمرّة أخرى في المستقبل، ولكن مثلما يبهت الورق ويتفتّت الصلصال، فإنّ للأجهزة الّتي تخزن الذكريات الرقمية عمرٌ افتراضيٌ أيضًا. المعدّات أو الأجهزة (Hardware) التي تحفظ الذاكرة الرقمية ليست أبدية وليست ذات عمر لا نهائيّ، والقدرة على قراءة المعلومات منها يحدّها الزّمن.

يتمّ تخزين الذّاكرة الرّقميّة عادةً في شكل ثنائيّ، أي: يتمّ تقديم المعلومات المخزّنة كمجموعة من الأصفار والآحاد. في عمليّة حفظ المعلومات، يتمّ تحويل المحتوى إلى لغة مكوّنة من رمزين فقط، تُسمى البتّات 0 وَ-1،  وقبل قراءة المعلومات، يتمّ تحويل المحتوى الثّنائيّ مرّة أخرى إلى الشّكل المطلوب: صورٌ أو نصوصٌ وهلمّ جرّا. ومن أجل تخزين محتوىً بشكل رقميّ، يجب أن يكون لجهاز التخزين وضعان واضحان ومستقرّان، يمثّلان الأصفار والآحاد.


تُستخدم البتّات 0 و1 لترجمة المعلومات والملفات والصور والصوت إلى لغة يمكن تخزينها على الأجهزة. رمز ثنائيّ يُرى من خلال عدسة مكبّرة | kilukilu, Shutterstock

لكلّ جهاز أخطار مختلفة

هل تعرفون علامة زرّ الحفظ في برامج الـ Office؟ هي رسمٌ لقرص مرن (Diskette) - جهاز تخزين أساسه مادّة مغناطيسيّة. الموادّ المغناطيسيّة لها اتّجاهات، يتمّ تحديدها من خلال اتّجاه أقطابها. المادّة المغناطيسيّة الموجودة على القرص المرن مكوّنة من مناطق صغيرة، كلٌّ منها عبارة عن وحدة مغناطيسيّة. المغناطيسيّة في كلّ الوحدة يمكن أن تأخذ أحد الاتّجاهيْن المحتمليْن؛ من بينها اتّجاه يرمز إلى 0 والآخر يرمز إلى 1. تتمّ كتابة المعلومات بصياغة كهذه بمساعدة تشغيل الحقل المغناطيسيّ، الّذي يلفّ الاتّجاه المغناطيسيّ للوحدة، إلى الاتّجاه الّذي يمثّل الـ 0، أو إلى الاتّجاه الّذي يمثّل الـ 1.

إنّ الأقراص المرنة، الّتي تمّ استخدامها كوسيلة تخزين شائعة في الثّمانينيّات والتّسعينيّات، تستطيع تخزين المعلومات بطريقة ثابتة لسنوات أو حتّى لعقود، إذا كانت المادّة ذات جودة عالية وتتواجد في ظروف بيئيّة مناسبة. لكن لو كانت الظّروف البيئيّة حولها غير مناسبة، كالحرارة العالية أو الرّطوبة المرتفعة مثلًا، فقد يؤدّي ذلك إلى التّشويش على المعلومات المُخزّنة. قد تُغيّر الحرارة اتّجاه المغناطيسيّة، وبالتّالي تضيع المعلومات الأصليّة: عندما نعود لقراءة محتويات القرص المرن، ونصطدم بوحدةٍ قد تغيّرت علاماتها، أو أنّها لا تتوافق مع 0 أو 1، فإنّنا سوف نتلقى محتوىً خاطئ ومعلومات مشوّهة.

تعتمد الأقراص المُدمجة - CDs (والّتي تُسمّى أيضًا الأقراص المضغوطة) على التّكنولوجيا البصريّة. عندما يتمّ تخزين المعلومات عليها، يتمّ استخدام الفجوات الموجودة على القرص لتمثيل البتّات 0 وَ-1. تتمّ القراءة بواسطة شعاع اللّيزر، الّذي يمرُّ فوق القرص المضغوط، ويعود بزاوية معيّنة حين يصطدم بالفجوة، وبزاوية معيّنة أخرى حين يصطدم بالمسحات الّتي تكون بين الفجوات (لاندز - lands). الاختلاف بين قراءة اللّيزر للفجوة وقراءته للاندز يسمح بالتّمييز بين 0 و1. ولكن القرص المضغوط هو الآخر ليس مُحصّنًا ضدّ الأضرار أيضًا: بالإضافة إلى الخدوش الملموسة الّتي يمكن أن تشوّش مناطق القراءة، فإنّ الموادّ الّتي تغلّف القرص قد تكون عرضة لعدد من التّغييرات الكيميائيّة، وهذه التّغييرات تُدمّر القرص المضغوط وتجعل المعلومات غير قابلة للقراءة.

في ذاكرة الفلاش أو الذاكرة الوميضيّة (flash memory، مثل القرص المحمول USB) تُستخدم الترانزستورات لتمثيل الأصفار والآحاد. الترانزستور الذي يوصل تيّارًا كهربائيًا يعني 1، والترانزستور غير الموصل للتّيّار الكهربائيّ يعني 0. ومع ذلك، وكما يمكن التّخمين في هذه المرحلة من المقالة، فإنّ الحفاظ على القدرة على توصيل أو عدم توصيل التّيّار بمرور الوقت غير مؤكّد أيضًا. قد تؤدّي الحرارة، بالإضافة إلى عمليّات الكتابة والقراءة المتعدّدة، إلى تشويش طبيعة توصيل الترانزستور، وبالتّالي فإنّ الوحدة تفقد القيمة الأصليّة الّتي كُتبت فيها.

إنّ أيّ مادّة مادّيّة (ملموسة) تقوم بتخزين المعلومات، تكون عرضةً للأعطال والتّآكل، وذلك حسب الاستخدام وظروف التّخزين والوقت الّذي انقضى منذ حفظ المعلومات. تُسمّى هذه العمليّة "فقدان الذّاكرة" أو "تعفّن الذّاكرة" (Data Rot). لذلك، يوصى بعمل نسخة جديدة احتياطيّة من المعلومات الّتي تهّمنا مرّة كلّ بضع سنوات، ونسخها مرارًا وتكرارًا إلى أجهزة ذاكرة أحدث. 

حتّى المعلومات الّتي نقوم بحفظها على الخوادم "السّحابيّة" فإنّها تُحفظ على خوادم بعيدة على محرّكات أقراص ملموسة، حيث تتولّى الشركة المُشغّلة للسّحابة عمليّة الصّيانة والنّسخ الاحتياطيّ المستمرَّين للذاكرة. عمليًّا، لا أحد يضمن سلامة الذّكريات بشكل مُطلق - على الرّغم من أنّ مقدّمي الخدمة أنفسهم يعِدون بقوّة ثبات ومتانة، إلّا أنّهم دائمًا ما يُلحقون وعودَهم بعبارات مثل "تمّ تصميم المنتجات لتوفير متانة بنسبة 99.999999999 بالمائة للمعلومات على مدار عامٍ واحد" فيما يتعلّق بالمعلومات المخزّنة لديهم.


جميع أجهزة الذاكرة معرّضة للعطل والتآكل. من اليسار إلى اليمين: قرص مرن، قرص مدمج، محرك أقراص الممر التسلسلي العام (USB)| Mattia Riccadonna, Shutterstock

هذه الذّاكرة موجودة في جيناتنا

تمكّن العلماء في السّنوات الأخيرة من قراءة رموز المعلومات الّتي تمّ حفظها وفكّها وتخزينها خلال حوالي 5000 عام، معلومات يبلغ عمرها 50 ألف عام، وحتّى معلومات من قبل مئات آلاف السّنين. المعلومات الّتي تمّ تخزينها على مرّ السنوات في ظروف مناسبة، نجت بفضل الوسيلة الفريدة الّتي تمّ حفظها بها: جزيئات الحمض النّوويّ. إنّ البقايا البشريّة والحيوانيّة، الّتي تمّ العثور عليها في العقود الأخيرة، بعد أن حُفظت جيّدًا في الجليد، تُتيح للباحثين التّنقيب في الماضي من خلال قراءة بقايا أحماضِهم النّوويّة.

طرح الفيزيائي ريتشارد فاينمان (Feynman) فكرة استخدام جزيئات الحمض النّوويّ لتخزين المعلومات، في خطاب ألقاه في نهاية سنوات الخمسينيّات. وبالفعل، أصبح الحمض النّوويّ اليوم محور الكثير من الأبحاث الحديثة حول أجهزة الذّاكرة المبتكرة. يتكوّن جزيء الحمض النّوويّ من أربع وحدات بناء أو لبنات أساسية، والّتي يُشار إليها بالأحرف A وC وG وT. المعلومات الوراثيّة في الحمض النووي، أي "نَصّ" الجينوم، تتكوّن من كلمات مركّبة من هذه الأحرف الأربعة. على غرار المعلومات المخزنة في الكود الثّنائيّ، بواسطة الرمزين 0 وَ-1 وحدهما، ففي الحمض النّوويّ يتمّ تخزين المعلومات الجينيّة بواسطة أربعة أحرف فقط. أشار فاينمان إلى ميزة أخرى ينفرد بها الحمض النوويّ: تخزين كمّيّات هائلة من البيانات داخل مساحة صغيرة. يحتوي الحمض النّوويّ البشريّ على مليارات اللّبنات الأساسيّة في بضعة ميكرومترات.

في عام 1988، قام الفنان جو ديفيس (Davis)، بالتّعاون مع كلّيّة الطّبّ بجامعة هارفارد، بترميز صورة بسيطة كتسلسلٍ لحمضٍ نوويّ. منذ ذلك الحين تمّ إنجاز تقدّم كبير، وفي عام 2012 تمكّن باحثون من جامعة هارفارد من ترميز كتاب يبلغ طوله حوالي 50 ألف كلمة باستخدام الحمض النّوويّ. في السنوات التي مرّت منذ ذلك الحين، حُفظ في حمض نووي أحد الأفلام الأولى التي صُوِّرت، وألبومات موسيقيّة وكذلك جميع محتويات ويكيبيديا.


يمكن للحمض النووي، كجهاز ذاكرة حديث، تخزين جبالٍ من المعلومات. يتم تخزين كميات هائلة من المحتوى الرقميّ داخل شريط DNA | المصدر: metamorworks, Shutterstock

طريقٌ طويل، ولكنّه واعدٌ

إنّ الطريق نحو الاستخدام العمليّ للحمض النوويّ كوسيلة تخزين ما يزالُ طويلًا. عملياتٌ مثل القراءة والكتابة وتصحيح الأخطاء يجب أن تكون ثابتة - من حيث الموثوقيّة، ومن حيث مدّة الوقت الذي تتطلّبه، وكذلك من حيث تكلفة كلّ واحدة من هذه العمليّات. لحسن الحظّ، فإنّ التقنيات المتعلّقة بالحمض النوويّ يتمّ تطويرها بمعزل عن ذلك، وبشكل دائم للدراسات البيولوجيّة. فمثلًا، إنتاج نسَخٍ لنفس مقطع الحمض النوويّ باستخدام تقنية الـ PCR، هي عمليّة موازية لعمليّة نَسْخ الذاكرة، وقراءة محتوى الجزيء في عمليّة تسمّى التسلسل، والتي هي في حدّ ذاتها موازية لقراءة الذاكرة. إحدى الصعوبات الرئيسيّة هي كتابة تسلسل الحمض النوويّ، وهي ما يوازي عمليّة كتابة محتوى نرغب في تخزينه. مختبرات عدّة في جميع أنحاء العالم، وكذلك هنا في إسرائيل، تعمل على إيجاد حلّ لهذا التّحدّي. من أجل تكييف الحمض النوويّ لتخزين المعلومات، يجب إنشاء خوارزميّات خاصّة، والتقليل بشكل كبير من العمليّات المرتبطة بمعالجة الحمض النوويّ.

إذا وصلت هذه الفكرة إلى مرحلة التنفيذ التكنولوجيّ، فسوف تكون قادرة على حلّ مشاكل أخرى إلى جانب مشكلة ديمومة الذاكرة أو ثباتها. في الوقت الذي أصبحت فيه الأقراص المرنة والأقراص المضغوطة موضوعة "في العليّة"، وأصبحت متطلّبات التخزين المتغيّرة تتطلّب استبدالًا للتكنولوجيا ولجميع البروتوكولات المصاحبة لها كلّ بضع سنوات، فإنّ الحمض النوويّ يمكن أن يُستخدم كوسيلة تخزين عالميّة. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ الجزيء القابل للتحلّل الحيويّ يُعتبر حلًّا أكثر استدامةً مقارنةً بأجهزة الذّاكرة الإلكترونيّة التي نستخدمها حاليًّا.

 

0 تعليقات