يعلم الجميع أنَّ جاذبيّة القمر مسؤولة عن دورات المدّ والجَزر، لكن في الواقع، العمليّة أكثر تعقيدًا ممّا هو متعارف عليه. وكيف يرتبط ذلك بأوّل حاسوب في البلاد؟

تُعدّ دورات المدّ والجَزر من أهمّ الظواهر على الأرض، فهي لا تؤثّر فقط على تطوّر الحياة على طول الشواطئ، إنّما أيضًا، على الدورات البيولوجيّة للمخلوقات التي تطوّرت منها، بما فيها الإنسان. تأثيرها على التيّارات البحريّة مهمّ جدًّا لملاحة السفن، بالتالي أيضًا للتجارة العالميّة والاقتصاد. وعلى الرغم من معرفة الجميع أنَّ المدّ والجزر ينشؤون بتأثير جاذبيّة القمر، يتّضح أنَّ الكثير من إدراكنا الحسديّ تجاه هذه المعلومة بعيدًا كلّ البعد عن الدقّة. 

المدّ هو ظاهرة دوريّة، يحدث فيها ارتفاع في منسوب المياه في البحار، تقريبًا مرّتين في اليوم. تتغيّر ساعة المدّ يوميًّا وفق موقع القمر نسبة للأرض؛ وهي متأثّرة بالوقت المستغرق لدورة الأرض حول نفسها وأيضًا بالوقت المستغرق لدورة القمر حول الأرض.  

في أيّ لحظة، يحدث مدّ في منطقتين منفصلتين على الأرض - الجانب الأقرب للقمر والجانب العكسيّ، الأبعد عن القمر. من اللحظة التي تكون فيها نقطة معيّنة على الأرض، في أقصر مسافة عن القمر وحتّى وصولها إليها مرّة أخرى، يمرّ يوم كامل و50 دقيقة أخرى. لذلك فإنَّ مدّة دورة المدّ هي نصف ذلك بالضبط: أي 12 ساعة و25 دقيقة. تتغيّر قوّة المدّ، أي الفرق بين منسوب الماء في ذروة المدّ وحضيض الجزر، من مكان الى آخر على سطح الأرض. يحدث أعلى مدّ في العالم في خليج فندى (Fundy) في كندا.

מעגן במפרץ פאנדי, שבו ההפרש בין מפלס הגאות למפלס השפל הוא הגבוה בעולם | צילום:  Noel V. Baebler, Shutterstock
عند الجَزر، تستقلّ القوارب في القاع. مرسى خليج فندى، حيث يكون هناك الفارق بين منسوب المدّ ومنسوب الجَزر، هو الأعلى في العالم | تصوير: Noel V. Baebler, Shutterstock

ما الذي يُسبّب المدّ؟
مصدر القوى التي تُحدِث المدّ، هي قوّة الجاذبيّة القائمة بين الأرض والقمر. لكن طريقة حدوث ذلك ما زالت غير مفهومة ضمنيًّا. قدّم إسحاق نيوتن مُكتشف قانون الجاذبيّة، أوّل تفسير علميّ لهذه الظاهرة، عندما وضّح أنَّ منسوب الماء في منطقة معيّنة على الأرض يرتفع أثناء مروره فوق المحور الوهميّ الذي يربط الأرض بالقمر. اعتقد نيوتن أنّه نظرًا لانخفاض قوّة الجاذبيّة كلّما ابتعدنا في المسافة، فإنَّ القوّة التي يبذلها القمر على أقرب نقطة له على الأرض، أكبر نسبيًّا من القوّة المبذولة على مركز الأرض. بشكلٍ مشابه، فإنّ قوّة الجاذبيّة في أبعد نقطة على الأرض مقارنةً بمركز الأرض بالنسبة للقمر هي أضعف، ولذلك تنحسر المياه في هذه الحالة.

تطابق تفسير نيوتن تمامًا مع الطبيعة الدوريّة للمدّ، ومع حقيقة أنّه يحدث في ذات الوقت في طرفي الأرض المعاكسة. لكن، كانت هناك مشكلة - الأرقام لم تكن ملائمة تمامًا. فعليًّا، عند حساب قوّة الجاذبيّة التي يبذلها القمر على الماء، وتغيّره على طول خطّ الاستواء، نحصل على قوى صغيرة جدًّا التي لا يمكن أن تُفسّر الارتفاع الملحوظ في منسوب المياه.

بعد عقود قليلة من نيوتن، تحديدًا في عام 1775، عرض الرياضيّاتيّ والفيزيائيّ، الفرنسيّ بيير سيمون دو لابلاس (Laplace) تفسيرًا مختلفًا لظاهرة المدّ، والذي اعتمد على تحليل عمليّة تدفّق المياه فوق السطح. كانت النظريّة الديناميكيّة التي عرضها مختلفة بشكلٍ جذريّ عن نظرية نيوتن. لقد أيقن لابلاس أنَّ مصدر المدّ هو حركة الأمواج على سطح الأرض، التي كان يعتقد أنّها متأثّرة بمبنى اليابسة ودوران الأرض وليس فقط بجاذبيّة القمر. يرتفع منسوب المياه فوق المحور الرابط بين الأرض والقمر، لأنَّ التغيّرات في قوى الجاذبيّة وتأثيرها على محيط الأرض تُصدِر أمواجًا باتّجاه جميع خطوط الطول والعرض الأخرى، التي بدوها تتحرّك باتجاه المحور الرابط بين الأرض والقمر، وتتراكم هناك على جانبي الأرض. 

المعنى الفعليّ، هو أنَّ المدّ ليست ظاهرة محليّة، إنّما عالميّة، متأثرة بالروابط بين المحيطات والبحار وبنية القارات، ويرافقها تدفّق كبير للمياه على سطح الأرض. في الواقع، نحن نشهد هذه التيّارات، والتي في بعض الأماكن قد تكون قادرة على تغيير اتّجاه تدفّق الأنهار خلال المدّ. 

החיצים מייצגים את כוחות הכבידה של הירח ביחס לכבידה במרכז כדור הארץ | איור: מריה גורוחובסקי וליאת מרכוס, על פי: W.S. von Arx, An Introduction to Physical Oceanography
وفق لابلاس، تؤثّر جاذبيّة القمر بشكلٍ ديناميكيّ على التيارات في جميع أنحاء الأرض. تمثّل الأسهم قوى جاذبيّة القمر نسبةً للجاذبيّة في مركز الأرض | صورة توضيحية: ماريا غوروخوفسكي وليات ماركوس، منقول عن: W.S. von Arx, An Introduction to Physical Oceanography

قدّمت نظريّة لابلاس عدّة تجديدات مفاجئة مقارنةً بنظريّة نيوتن. إحداها، هو أنّه من الناحية العمليّة هناك تأثير حقيقيّ لشكل القارّات على ارتفاع المدّ في أماكن مختلفة على الأرض، حيثُ أنَّ ذروة المدّ لا تحصل بالضرورة على طول المحور الرابط بين الأرض والقمر، بل على بُعد معيّن عنه. إضافة إلى ذلك، عند النظر إلى ظاهرة المدّ كأنّها حركة للأمواج على سطح الأرض، يمكن التوصّل إلى أنَّ المدّ في نقطة معيّنة هو حاصل جمع جميع الأمواج الواصلة إليه. لذلك، قد تكون هناك حالة تلتقي فيها أمواج ذات مطال عكسيّ عند نقطة معيّنة، بحيث يكون مجموعها صفرًا - وهي ظاهرة تُعرف باسم التداخل المدمّر. أي، أنَّ هناك نقاط على سطح الأرض لا تحدث فيها ظاهرة المدّ على الإطلاق. في الواقع، خلال السنين تمّ اكتشاف العديد من هذه النقاط، وتسمّى النقاط الثابتة (النقاط البرمائيّة -Amphidromic point).

הדמיה של הירח מעל חוף האוקיינוס | איור: Gwoeii, Shutterstock
في كلّ منطقة، للجاذبيّة القمريّة تأثير مختلف، وأحيانًا لا يكون لها تأثير على الإطلاق. تجسيد مرئيّ للقمر فوق شاطئ المحيط  | رسم توضيحي: Gwoeii, Shutterstock

من الوصف إلى التوقّعات

كان لابلاس أوّل من تعامل مع ظاهرة المدّ والجزر بوصفها مشكلة "مياه متحرِّكة"، على عكس الصورة الثابتة التي قدّمها نيوتن. مع ذلك، فإنَّ معادلاته الهيدروديناميكيّة، التي تصف انتشار موجات المدّ والجزر عبر المحيط، لم تمكن حلّها بشكلٍ كامل بدون الحاسوب، الذي بالطبع لم يكن موجودًا في ذلك الوقت.

على مرّ السنين، بذلت محاولات عديدة للوصول إلى حلول تقريبيّة للتنبّؤ بشكلٍ أفضل بأوقات المدّ والجزر. ازدادت الحاجة إلى التنبّؤ الدقيق بشكلٍ متواصل مع تطوّر النقل البحريّ والتجارة البحريّة، والذي كان يعتمد بشكلٍ كبير على التيارات والمدّ، بحيث تطلّبَ جداول ومعادلات موثوقة التي من شأنها أن تساعد في التنبّؤ.

 صمّم العالم البريطاني وليام طومسون (Thomson) أوّل آلة للتنبّؤ في المدّ، وهو المعروف باسم اللورد كلفن (Kelvin). تمّ إنشاؤها عام 1873 تحت رعاية الجمعيّة البريطانيّة لتطوير العلوم. بعد تسع سنوات، في عام 1882، طوّر عالم الرياضيّات الأمريكيّ وليام فيرل أوّل آلة تنبّؤ لأوقات المدّ والارتفاع على طول سواحل الولايات المتّحدة. تمّ استخدام الآلة لأكثر من مائة عام حتّى عام 1991.

تحقّقت الانبلاجة الحقيقيّة فقط في النصف الثاني من القرن العشرين، في أعقاب اختراع الحاسوب الإلكتروني. في عام 1969، استخدم مؤسّس كلّيّة الرياضيّات في معهد وايزمان للعلوم، حاييم پيكيريس، أوّل حاسوب إسرائيليّ، فيتسيك WEIZAC، لحلّ معادلات لابلاس الخاصّة بمبنى القارّات وسواحل الأرض. كانت إحدى نجاحاته العظيمة أنّه تمكّن بمساعدة حساباته، التنبّؤ بمكان ما في المحيط الأطلسيّ لا تحدث فيه تقلّبات المدّ والجزر - أي نقطة ثابتة جديدة. أكَّدت القياسات التي أجرتها البحريّة البريطانيّة لاحقًا هذا الحساب، ووجدت أنَّ هذه المنطقة هي بالفعل نقطة ثابتة.

המעגל בקו רוחב 15 וקו אורך 20 מייצג את נקודת השבת – אזור נטול גאות | מתוך מאמרם של פקריס ויגאל אכד, 1969
مسح ارتفاعات المدّ ومواعيده في جنوب المحيط الأطلسيّ. تمثّل الدائرة الموجودة على خطّ عرض 15 وخطّ طول 20 النقطة الثابتة - وهي منطقة خالية من المدّ. اضغط على الصورة لتكبيرها | من مقال پيكيريس وإيجال اخاد، 1969
 
بالتّالي، فإنّ بحث المدّ هي عمليّة أكثر تعقيدًا ممّا اعتقد نيوتن في بداية طريقه، وعلى الرغم من أنَّ نظريّته كانت صحيحة في صلبها، إلّا أنّها لم تكن كافية لتفسير إجماليّ الملاحظات والاستنتاجات. مجرّد إلقاء نظرة على العالم كلّه كنظام واحد كامل متكامل، مكَّن نظريًّا من حساب المدّ في جميع أنحاء الأرض، وذلك بعد أكثر من مائتي عام. لقد فهم نيوتن بنفسه مدى تعقيد الانشغال العلميّ، عندما قال: "لا أعرف كيف يَنظُر إليَّ العالم، لكنّي أبدو في نفسي فقط كصبي يلعب على شاطئ البحر، ويسلّي نفسه بحقيقة أنّه من وقت لآخر يجد حصاة ملوّنة أكثر من غيرها، أو صدفة جميلة، بينما ينتشر محيط الحقيقة العظيم أمامي غير مُكتشَف".

0 تعليقات