شرع علماء الفلك برسم خرائط منهجيّة لنجوم السماء منذ أكثر من 2000 عام، وبفضل جهودهم، أصبح بإمكاننا اليوم تأريخ الأعمال القديمة.

منذ فَجر الحضارة، يوجِّه البشر أنظارهم صوب قبّة السّماء ليستقصوا حقيقة تلك الأجسام المشعّة ويتتبّعون حركتها. وخير شاهد على ذلك، هي تلك الرسومات في الكهوف والنقوش القديمة والتي تصوّر لنا، وفقًا لتقديرات الباحثين، مجموعات نجميّة مختلفة، أبرزها خرائط نجميّة وفهارس فلكيّة تصف مواقع النجوم في السماء بوضوح، وتعود أُصولها إلى مصر وبابل (منطقة العراق اليوم) منذ حوالي 3500 سنة. كما أنّ هنالك تقارير تاريخيّة تصف مثل هذه الفهارس النجميّة في الصين القديمة قبل حوالي 2500 سنة.

تُنسب المحاولة المنهجيّة الأولى إلى رسم خريطة كاملة للسماء إلى الفلكيّ اليونانيّ المعروف باسم هيبارخوس في القرن الثاني قبل الميلاد. ظلَّ كتالوج النجوم الذي أعدّه هيبارخوس مفقودًا لأجيال عِدّة، وكانت معرفتنا به تقتصر على الإشارات الواردة في الأعمال اللاحقة لعلماء آخرين. وبقي هذا الحال حتّى عام 2022، حين كُشِفَ عن جزء من هذا الكتالوج الأصليّ، المُخبَّأ ضمن مخطوطات عُثر عليها في دير سانت كاترين الواقع في جنوب سيناء.

يُعتبر هيبارخوس من عظماء علماء الفلك في العالم القديم، بل ربّما الأعظم بينهم، وقد برع أيضًا في الرياضيات والجغرافيا. كعالم في الرياضيّات، طوّر هيبارخوس فرع الهندسة المثلثيّة الذي مكّنه من تحليل ملاحظاته الفلكيّة بدقّة. في عام 127 قبل الميلاد بالتقريب، اكتشف هيبارخوس ميلان محور دوران الأرض، مقارنًا قياساته لمواقع نجوم معيّنة بتلك التي سجلها علماء الفلك في القرن الثالث قبل الميلاد. نظرًا لكون هذا الميل لمحور الأرض ليس ثابتًا، بل يتغيّر ببطء تحت تأثير جاذبيّة الشمس والقمر، فهو يكمل دورة كلّ نحو 25,788 عامًا، ويمكننا تخيّله "كدوامة الصبيان" التي يدور مقبضها بحركة دائريّة خفيفة.  تتغيّر مواقع النجوم في السماء بالنسبة لفصول السنة وبفعل هذا الميل، فتظهر مثلًا مجموعات من النجوم المعروفة بأسماء الأبراج الفلكيّة في أشهر مختلفة عن تلك المرتبطة بها تقليديًّا. وبالمثل، يتبدّل "كوكب الشمال" بين الحين والآخر لنفس السبب، فبينما "بولاريس" هو النجم الأقرب للقطب الشماليّ السماويّ في أيامنا هذه، كان النجم المعروف بـ "النجم" في مجموعة الدبّ الأصغر هو الأقرب قبل حوالي 3000 عام، ومن المتوقّع أن يحلّ محلّه النجم إراي (Errai)، المعروف أيضًا بجاما في مجموعة كيفيوس، في غضون حوالي ألف سنة.


انحراف محور دوران الأرض يؤدّي إلى تغييرات في المواقع الظاهرة لمجموعات النجوم، وكذلك إلى تبديل نجم الشمال كلّ بضعة آلاف من السنين | المصدر: Tfr000، ويكيبيديا

ألَّف هيبارخوس في مراحل لاحقة من مسيرته أوَل فهرس شامل لنجوم السماء، في العالم الغربيّ على الأقلّ. كانت الفهارس التي سبقته، كالّتي أعدّها البابليّون، تركّز على خرائط النجوم على طول مستوى درب التبّانة، أي على المسار السنويّ للشمس نسبةً للنجوم البعيدة. بالمقابل، وضع هيبارخوس خرائط لكامل قبّة السماء باستخدام شبكة إحداثيّات قام بابتكارها. ثمّ قام هيبارخوس بقياس مواقع حوالي 850 نجم على قبة السماء بشكل منهجيّ، بواسطة أدوات قياس خاصّة، الّتي طوّرها أو حسّنها بنفسه. كما ويُنسب إليه أيضًا اختراع الأسطرلاب، وهو جهاز استُخدم في القرن الثاني قبل الميلاد وحتى القرن الثامن عشر، لقياس مواقع النجوم والملاحة. وكُشف مؤخرًا عن أسطرلاب من القرن الـ11 في إيطاليا، مع نقوش بالعربيّة والعبريّة. ومن المحتمل أن هيبارخوس قد استخدم أدوات قياس أخرى مثل الكرة السماويّة (Armillary sphere)، وهي نموذج لقبّة السماء، والديوبترا (dioptra)، وهو نوع من الأنابيب المراقبة المتّصلة بجهاز قياس الزوايا.


يُنسب اختراع الجهاز إلى هيبارخوس، ابتداءً من القرن الثاني قبل الميلاد. أسطرلاب حديث صُنع في إيران في عام 2013 | المصدر: Masoud Safarniya, Wikipedia

خريطة أطلس

في مؤلَّفيْن ضائعيْن من القرن الرابع قبل الميلاد، وصف الفلكيُّ اليونانيُّ أنّ اختراع الجهاز يُنسب إلى هيبارخوس، بالفعل في القرن الثاني قبل الميلاد. 

دوكسوس من كنيدوس بآسيا الصغرى، مواقع النجوم ومجموعات النجوم المختلفة. وَثَّق عمله هذا في قصيدة "الظواهر" التي ألّفها الشاعر اليوناني أراتوس في القرن الثالث قبل الميلاد. أضاف هيبارخوس، في تعليقاته على هذه القصيدة، معلومات عن مواقع النجوم وأوقات شروقها وغروبها. وكانت هذه القصيدة حتّى الآونة الأخيرة المصدر الوحيد المتبقّي لمعرفتنا بأعمال هيبارخوس. كما ذُكر فهرس النجوم الذي أعدَّه هيبارخوس في كتابات بلينيوس الأكبر، وكذلك في ترجمة لاتينيّة لقصيدة أراتوس.

ظهر في القرن الثاني للميلاد الوصف البصريّ الأقدم الذي نجا لمجموعاتِ النجوم التي كانت شائعة في اليونان القديمة، وقد ظهر هذا الوصف ضمن نسخة من تمثال رومانيّ لأطلس، ذلك العملاق من الأساطير اليونانيّة الذي يحمل قبّة السماء على كتفيْه. وفي عام 2005 قدّر الفيزيائيّ برادلي شيفر(Schaefer) ، باستخدام حسابات مَيْل كُرة الأرض، أنّ صورة السماء الموصوفة على الكرة التي يحملها أطلس تعود إلى حوالي عام 125 قبل الميلاد، ممّا يُشير إلى أنّ كتالوج النجوم الذي أعدّه هيبارخوس كان الأساس لصورة السماء في التمثال.


تمكّن العلماء من تأريخ التمثال وفقًا لصورة السماء التي يحملها أطلس. نسخة من تمثال أطلس الذي يحمل السماء على كتفيْه | المصدر: Paolo Gallo, Shutterstock

قراءة جديدة في النصوص القديمة

مخطوطات كليماشي ريسكريبتوس (Climaci Rescriptus) عبارة عن مجموعة من المخطوطات المكتوبة باللّغتيْن الآراميّة واليونانيّة، وتضمّ مقاطع من العهد القديم والعهد الجديد بالإضافة إلى نصوص دينيّة خارجيّة. نشأت هذه المجموعة في دير سانت كاترينا بجنوب سيناء، وتُعرض معظم صفحات الكوديكس اليوم في متحف الكتاب المقدّس بواشنطن، العاصمة الأمريكيّة. تُعرّف صفحات هذا الكوديكس أيضًا بالصفحات الطرس أو البالمبسيست (Palimpsest)، وهي نصوص تُكتشف على صفحات من ورق البردي التي أُعيد استخدامها بعد محوها أو كشطها. وكانت هذه الممارسة شائعةً في الماضي، إمّا للتوفير أو بسبب نقص المواد.

في عام 2012، لاحظ طالب البكالوريوس في جامعة كامبريدج جيمي كلير(Klair) أنّ النصّ الأصليّ الذي كان تحت الكتابة اليونانيّة المتأخّرة قد تناول موضوعات فلكيّة. وفي مرحلة لاحقة في عام 2021، أشار عالم النصوص المقدّسة بيتر ويليامز(Williams) إلى أنّ النصوص تحتوي بالتحديد على قياسات فلكيّة. وقد تبيَّن أنّ بعض صفحات المخطوطات كانت في الأصل جُزءًا من مخطوطات أكثر قدمًا، وتعود للقرن الخامس أو السادس وتشمل قصيدة إراتوس. بخلاف الترجمة اللاتينيّة للقصيدة التي تضمَّنت قياسات هيبارخوس لثلاث مجموعات نجميّة فقط (الدبّ الأكبر، الدبّ الأصغر والتنين) يبدو أن النسخة المحفوظة في مخطوطات كليماشي ريسكريبتوس قد شملت جميع المجموعات النجميّة التي وردت في فهرس هيبارخوس.

لكن كيف يمكن استخلاص النصوص القديمة التي طُمست بفعل إعادة الاستخدام في المخطوطات المعروفة بالبالمبسيست؟ مع أنّ النصّ الأصليّ لم يُمحى بالكامل، فإنّ أجزاءً منه تظلّ مرئيّة. كانت في القرن التاسع عشر تُستعمل محاليل كيميائيّة متنوّعة للكشف عن هذه النصوص، إلّا أنّ هذه الطرق كانت تؤدّي أحيانًا إلى تلف ورق البردي على الدّوام. أمّا في يومنا هذا فتقع المهمّة على عاتق التقنيّات البصريّة؛ حيث تصوّر ورق البردي تحت إضاءات ملوّنة متفاوتة، لفكّ شفرة النصوص الغابرة وتمييزها عن النصوص الأحدث. تسمح هذه التقنيّة المعروفة ب"التصوير متعدّد الطيف" برؤية النصوص الباهتة، دون إلحاق الضرر بالمخطوط نفسه.


النصّ المخفيّ. قطعة من فهرس هيبارخوس التي اكتُشفت في صفحات مخططات كليماشي ريسكريبتوس. تُظهر  الصورة النصّ الأحدث والنصّ القديم الذي كُشف عنه بواسطة التصوير متعدّد الطّيْف |المصدر:Museum of the Bible. Photo by Early Manuscripts Electronic Library/Lazarus Project, University of Rochester; multispectral processing by Keith T. Knox; tracings by Emanuel Zingg

في مقالة نُشرت عام 2022 بمجلّة تاريخ الفلك، أفاد الباحثون فيكتور جيزمبرغ (Gysembergh)، بيتر ويليامز (Williams) وإيمانويل زينغ (Zingg)، بأوّل الاكتشافات من فهرس هيبارخوس الذي عُثِر عليه ضمن النصوص القديمة لمخطوطات كليماشي ريسكريبتوس. يُظهر الجزء المكتشف، الذي يقتصر حتّى الآن على وصف موقع تجمّع النجوم كوثر بورياليس (Corona Borealis) وحجمها، دقّة عالية تصل إلى درجة واحدة من الموقع الفعليّ لهذه المجموعة النجميّة في السماء خلال عصر هيبارخوس. إضافةً إلى ذلك، فإنّ نظام الإحداثيّات والمصطلحات المُستخدمة في النصّ المكتشف إستثنائيّة تُظهر النمط المعهود لهيبارخوس، وهي متطابقة مع تلك التي استخدمها في تعليقاته على قصيدة أراتوس، والتي تُعتبر، بحسب المؤرّخين، العمل الوحيد المنسوب لهيبارخوس الذي وصل إلينا. كلّ هذه العناصر تُعزّز النظريّة القائلة إنّ الجزء المُكتشف يرجع إلى كتابات هيبارخوس نفسه.


 بعض من ملاحظاته كانت دقيقة جدًّا. تمّ تخليد صورة هيبارخوس على طابع بريديّ يونانيّ من ستينيّات القرن الماضي | المصدر:rook76, Wikipedia

أحيانًا تنجو الفهارس

الفهرس السماويّ الشامل الوحيد الذي نجى وبقي حتّى عصرنا هذا هو الذي قد ألّفه الفلكيّ الهلنستيّ، بطليموس الأسكندرانيّ، في القرن الثاني الميلاديّ، من مدينة الإسكندريّة. في مؤلّفه الرائد "المجسطيّ" (Almagest)، قدّم بطليموس نظريّته حول حركات الأجرام السماويّة وفهرسًا سماويًّا محدثًا، استند فيه إلى فهرس هيبارخوس. عند مقارنة الإحداثيّات المذكورة عند بطليموس بتلك التي عثر عليها الباحثون من قياسات هيبارخوس، تظهر الأدلّة أنّ فهرس بطليموس اعتمد على قياسات مستقلّة، ولم يكن مجرّد تحديث حسابيّ يستند إلى ظاهرة الانحراف في القياسات كما كان يُعتقد سابقًا. أضف إلى ذلك، إن التحليل يُظهر قياسات هيبارخوس الأكثر دقّة من تلك التي وضعها بطليموس، والذي عاش بعدَهُ بمئات السنين.

 كان الفلكيّون البابليّون يتابعون حركات النجوم على مرّ السنين بدقّة شديدة، بل وأتقنوا التنبّؤ بالأحداث السماويّة كالكسوف الشمسيّ. مع ذلك، ولأنّ اهتماماتهم كانت ذات طبيعة دينيّة، لم يطوّروا نموذجًا ثلاثيَّ الأبعاد لتفسير حركة النجوم في قبّة السماء. بالمقابل، يُعتبر هيبارخوس رائد علم الفلك الحديث، حيث بنى نظريّاته على أسس رياضيّة قد ابتكرها بنفسه. الاكتشاف المحدود لجزء من الفهرس السماويّ الأصليّ لهيبارخوس يبرِز طبيعة عمله الرائدة والاستثنائيّة، التي شكّلت حجر الأساس في تاريخ الفلك الحديث. قد تكون هناك أقسام أخرى من هذا الفهرس ما زالت مخبّأة بين صفحات مخطوطات كليماشي ريسكريبتوس التي لم تُفحص بعد، أو ربّما في مخطوطات أخرى ضمن مكتبة دير سانتا هيلينا.

0 تعليقات