التّفاعل والتّوازن بين الأنظمة المختلفة في الدّماغ يُمكّنان من حلّ المشاكل بطريقة إبداعيّة وأصليّة.
نبدأ بلغز: أمامكم علبة دبابيس مصنوعة من الكرتون، شمعة، أعواد ثقاب، ولوحة فلّين مثبّتة على الحائط. عليكم إيجاد طريقة لتثبيت الشّمعة وإشعالها والتّأكّد من عدم تساقط الشّمع على الأرض. هذا مثال على مشكلة تتطلّب تفكيرًا إبداعيًّا للوصول إلى الحلّ.
علبة دبابيس، شمعة، ولوحة فلّين. كيف يمكن تثبيت الشّمعة المشتعلة بشكل مستقرّ بحيث لا يتساقط الشّمع على الأرض؟ | ديريا تشاكيرسوي، شترستوك
الواقع كمجموعة من التّحدّيات
يمكننا النّظر إلى كلّ توقّع يحتاج الدّماغ إلى إنتاجه على أنّه "مشكلة". يحاول الدّماغ التّنبّؤ بما سيحدث بعد ثانية، أو ساعة، أو حتّى سنة، ويستخلص السّلوك الأمثل والمفيد. عند محاولة حلّ مشكلة، غالبًا ما يعتمد الإنسان على تجاربه السابقة - مواقف واجهها من قبل، أو أفعال قام بها في الماضي. على سبيل المثال، إذا أشعلنا الشّموع من قبل، سنعرف أنّ الشّمع يقطر من الشّمعة. الاعتماد على الخبرات السّابقة يمكن أن يوفّر الوقت والموارد، ولكنّه من ناحية أخرى قد يؤدّي إلى الجمود الفكريّ. الجمود الفكريّ هو الميل إلى التّصرّف أو التّفكير وفق أنماط ثابتة، ممّا قد يعيق إيجاد حلّ إبداعيّ مختلف. في المشكلة الّتي أمامنا، مثلًا، مَن استخدم الدّبابيس من قبل يعرف أنّه يمكن تثبيتها بسهولة في لوحة الفلّين، ومن المرجّح أن يقوم بتثبيتها على اللّوحة بنفس الطّريقة المعتادة، ومَن استخدم الشموع، من المرجّح أن يمسك الشّمعة بالطّريقة التّقليديّة، وهو يعلم، أيضًا، أنّ الشمع يقطر إلى الأسفل من الشّمعة المشتعلة. هل تساعدنا التّجارب السّابقة في إيجاد حلّ إبداعيّ للمشكلة أم تعيقنا؟
شاشة التّوقّف الدّماغيّة
شبكة الوضع الافتراضيّ (Default Mode Network) هي مجموعة من المناطق في الدّماغ الّتي تعمل معًا عندما لا يكون الشّخص منشغلًا في أمر محدّد، بل عندما يكون في حالة راحة أو ملل تاركًا أفكاره تتجوّل. تتكوّن هذه الشّبكة من مناطق في القشرة الأماميّة للدّماغ، في الفصّ الصّدغيّ، ومنطقة تقع تحت الفصّ الجداريّ. تمّ اكتشاف شبكة الوضع الافتراضيّ في سبعينيّات القرن الماضي باستخدام التّصوير بالرّنين المغناطيسيّ الوظيفيّ (fMRI)، الّذي يسمح بفحص التّغيّرات في نشاط مناطق مختلفة من الدّماغ أثناء أداء المهامّ. لاحظ الباحثون أنّه أثناء انتظار المشاركين بين المهامّ، كانت هناك دائمًا زيادة في النّشاط في نفس المناطق في الدّماغ.
لفترة طويلة، كان يُعتقد أنّ هذه الشّبكة ليس لها دور محدّد أو ارتباط بالوظائف الإدراكيّة، وأنّها بمثابة "شاشة توقّف" يتمّ تشغيلها عندما لم يكن الدّماغ منشغلًا في نشاط معيّن. لكن عند الانشغال بمهمّة ما، يتغيّر نشاط هذه الشّبكة بحيث يتناسب عكسيًّا مع مستوى التّركيز: عندما يكون الشّخص مركّزًا في المهمّة، ينخفض نشاط الشّبكة، وعندما لا يكون مركّزًا وتبدأ الأفكار بالتّجوال، يزداد نشاط الشّبكة. تلعب شبكة الوضع الافتراضيّ دورًا مهمًّا في التّفكير العفويّ، وابتكار أفكار جديدة، وإنشاء روابط جديدة بين الأفكار والمعرفة الموجودة.
تمّ اكتشاف شبكة الوضع الافتراضيّ في الدّماغ أثناء وجود مشتركي البحث بين المهامّ. شخص يخضع لفحص دماغيّ بواسطة جهاز MRI | المصدر: Vo Trung Dung، مكتبة الصّور العلميّة
أنظمة مكمّلة لشبكة الوضع الافتراضيّ
إحدى الأنظمة المكمّلة لشبكة الوضع الافتراضيّ هي شبكة التّحكّم التّنفيذيّ (Executive Control Network). تتمركز هذه الشّبكة في القشرة الأماميّة للدّماغ، وتتيح التّركيز على المهامّ، تذكر تسلسل الأرقام أو الحقائق، وإجراء عمليّات التّفكير المعقّدة. التّفاعل والتّوازن بين نشاط هاتين الشّبكتين، حيث تثبّط إحداهما نشاط الأخرى، يسمح بتفكير إبداعيّ يتجاوز الأنماط التّقليديّة دون أن يكون مشتّتًا بشكل مفرط.
في دراسة إضافيّة، فحص الباحثون النّشاط الدّماغيّ لدى أشخاص يتمتّعون بقدرات إبداعيّة استثنائيّة، مثل فنّانين معروفين أو علماء حاصلين على جوائز، أثناء استحضارهم للأفكار الحرّة المرتبطة بالكلمات المعروضة على الشّاشة. أظهرت عمليّات المسح وجود نشاط متزايد في مناطق شبكة الوضع الافتراضيّ وفي مناطق الدّماغ المعروفة باسم "مناطق التّرابط". توجد هذه المناطق في القشرة الدّماغيّة وترتبط بفهم المعلومات الحسّيّة. على سبيل المثال، عند قراءة كلمة "جدّة"، تلتقط حروفها بواسطة نظام الرّؤية، بينما في مناطق التّرابط، ترتبط الكلمة بالذّكريات والمشاعر والمعلومات الحسّيّة الأخرى (مثل رائحة طعام الجدّة...) وتكتسب معنًى.
ومن المدهش أنّ هذا الاكتشاف كان متّسقًا لدى كلّ من الفنّانين مثل الكتّاب والمخرجين، وأيضًا لدى العلماء في مجال البيولوجيا. الاستنتاج المحتمل هو أنّ القدرات الإبداعيّة العالية، سواء في مجالات الفنّ والكتابة أو في مجالات البحث العلميّ، تعتمد على نفس الأنظمة في الدّماغ.
في دراسة أخرى، طُلِب من المشاركين التّفكير في أفكار إبداعيّة. قام الباحثون بتقييم الأفكار وفقًا لمدى أصالتها وابتكارها ووجدوا أنّ شبكة الوضع الافتراضيّ بأكملها كانت نشطة، لكنّ مناطق معينة منها كانت أكثر نشاطًا من غيرها. كانت المناطق الموجودة في الفصّ الجداريّ الأيسر، المرتبطة بعمليّات الـتّعقيل (Mentalization)، أي القدرة على إعطاء معنًى وتفسير لأفعال الآخرين، أكثر نشاطًا عندما فكّر المشاركون في أفكار أصليّة.
في الختام، الإبداع وحلّ المشكلات هما عمليّات معقّدة تتولّد فيها أفكار جديدة مع روابط جديدة بين الأفكار والمعرفة الموجودة، وذلك من خلال نشاط أنظمة ومناطق مختلفة في الدّماغ. هل نجحتم في حلّ اللغز؟ إذا لم تتمكّنوا من ذلك، ربّما ينبغي أخذ استراحة من الجهد، وترك الأفكار تتدفّق بحرّيّة، لعلّ الفكرة الجديدة أو الزّاوية الّتي لم تروها بعد سوف تظهر.
حلّ اللّغز:
أفرغ علبة الدّبابيس، ثمّ قم بتثبيتها على لوحة الفلّين باستخدام بعض الدّبابيس. ضع الشّمعة داخل العلبة وأشعلها. بهذه الطّريقة، لن يتساقط الشّمع على الأرض، بل سيقطر داخل العلبة. لحلّ المشكلة، كان من الضّروريّ الخروج من فكرة أنّ العلبة مخصّصة فقط لتخزين الدّبابيس، والتّفكير فيها بطريقة مختلفة.
حلّ اللّغز: اِستخدام علبة الكرتون الفارغة كقاعدة للشّمعة | ديريا تشاكيرسوي، شترستوك