تركيز الرصاص العالي في شعر الملحِّن الشهير تثير فرضيّة أنَّ استهلاك المعدن السامّ قد ساهم في إصابته بالصمم ومشاكل صحيّة عديدة عانى منها
في سنة 2010، حصل الباحث أندرو تود (Todd) على قطعة ثمينة- والّتي كان من المفترض أن تكون قطعة من جمجمة الملحِّن وعازف البيانو الشهير لودفيغ فان بيتهوفن (Beethoven). وكان أحد الاختبارات الّتي أجراها فريق تود البحثيّ هو اختبار نسبة الرصاص في العظام. وذلك في أعقاب دراسة سابقة، تبيّن فيها أنَّ عيّنة شعر منسوبة إلى بيتهوفن احتوت على نسبة عالية من الرصاص، وهو معطى يمكن أن يفسّرسبب الأمراض العديدة الّتي عانى منها.
لكن لم يعثر تود وفريقه على أيّ أثر للرصاص الفائض في الجمجمة. وكانت النسبة الّتي تمّ العثور عليها طبيعيّة، واستبعد فريق البحث احتمال إصابة بيتهوفن بالتسمّم بالرصاص. لكن لم تمرّ سنوات طويلة حتّى اتّضح لتود، بحسب باحثين في عالم العظام، أنّ قطعة الجمجمة الّتي درسها لا تعود لبيتهوفن على الإطلاق، ولا تتطابق مع قسم الجمجمة الّذي أزيل من رأس الملحِّن خلال جراحته بعد الوفاة.
قصّة تود هي فصل آخر في قضيّة معقّدة ومثيرة للدهشة تطوّرت حول الرصاص الّذي كان- أو لم يكن- في شعر بيتهوفن. إذن، ما قصّة الرصاص، وهل تُقدّم النتائج الجديدة حلًّا للغز عمره قرون من الزمن؟
بدأ سمعه في التدهور عندما كان في الثامنة والعشرين من عمره. لودفيج فان بيتهوفن في صورة شخصيّة لفرديناند سيمون من سنة 1819 | المصدر: مكتبة الكونجرس
أصمّ، مريض وموهوب بشكل غير عادي
ولد بيتهوفن في مدينة بون في ألمانيا سنة 1770، وكان واحدًا من ثلاثة أطفال وصلوا إلى مرحلة البلوغ من بين الأطفال السبعة الّذين ولدوا لوالديه. في سنّ مبكّرة، عُرف كعازف بيانو وملحِّن أظهر مهارات غير عاديّة، ولم يتوقّف عن التأليف والعزف حتّى بعد أن بدأ سمعه بالتدهور في سن 28 عامًا. ويبدو أنّه قد فقدَ سمعه تمامًا في أواخر حياته. إلى جانب الصمم الشهير، كان من المعروف أيضًا أنّه يعاني من مجموعة أمراض خطيرة؛ وبالفعل، في تشريح جثّته بعد الوفاة، تمّ العثور على إصابات في الكلى، البنكرياس، الكبد وغيرها.
لم يتمكّن الأطباء الّذين عالجوا بيتهوفن من إيجاد حلّ لمعاناته. في العقد السادس من حياته، كان على فراش الموت، وتوفي في النهاية عن عمر يناهز 56 عامًا. بعد الوفاة، أزال الأطباء قوقعة جمجمته وفحصوا عظام الأذن، محاولين تفسير صممه. وفي تشريح الجثّة، حدّد الباحثون تصلّب أعصاب الأذن، لكنّ الاختبارات الّتي أجريت على مرّ السنين لم تتوصّل إلى اتّفاق حتّى الآن، بشأن الظروف الّتي تسبّبت في التصلّب. ظلّت أسباب حالته الصحيّة السيئة تثير اهتمام الباحثين والأطبّاء حتّى بعد سنوات عديدة من وفاته.
قبل وفاته، أراد أقرباء ومعجبو بيتهوفن تخليد ذكراه وقصّ بعض أطراف شعره، كتذكار، أو للاحتفاظ بمجموعة من شعره بعد وفاته. يبدو غريبًا؟ جدًّا، لكنّ هذا لم يكن أمرًا غير عاديّ في زمن بيتهوفن؛ كان الحفاظ على شعر الشخص المعجب به أو المحبوب ممارسة شائعة في ذلك الوقت.
تمّ نقل ما يقارب مائتي مجموعة من شعر بيتهوفن من جيل إلى جيل وبين التجار، وحتّى سنة 1994 لم يتمّ عرض خصلة الشعر هذه للبيع بالمزاد. حضر للمزاد ممثّلون عن جمعيّة بيتهوفن الأمريكيّة، وهي مجموعة تعمل بشكل خاصّ لجمع العناصر المتعلّقة بالملحّن الشهير. وقام أعضاء الجمعيّة بشراء الشعر بمبلغ 7300 دولار أمريكيّ. تمّ عرض الشراء في مركز إيرا بريليانت (Brilliant) لدراسات بيتهوفن في كاليفورنيا بالولايات المتّحدة، حتّى إنّها ألهمتهم إصدار كتاب وفيلم وثائقيّ عن حياة بيتهوفن. وهذه هي الطريقة الّتي تمّ بها لفت انتباه عموم الناس إلى قصة الفرضيّات الّتي تدور حول شعره.
تبين أنَّ عيّنة الشعر الأولى الّتي عثر فيها على نسبة عالية من الرصاص تعود لامرأة يهوديّة وليس لبيتهوفن. خصلة من الشعر منسوبة بالخطأ إلى الملحّن | المصدر: Ira F. Brilliant Center for Beethoven Studies
يا للهول! لمن هذا الشعر؟
في سنة 2007، حتّى قبل إجراء الدراسة على قطعة الجمجمة، أبلغ الباحثون الّذين فحصوا عيّنة الشعر الّتي تمّ شراؤها عن وجود نسبة عالية بشكل استثنائيّ من الرصاص في شعر بيتهوفن. وهكذا بدأت قضيّة بحثيّة طويلة الأمد شملت نتائج محيّرة ومتناقضة، بما في ذلك بحث تود. في الواقع، حصلت هيلا بطريق الخطأ على قطعة من جمجمة يبدو أنّها لا تعود إلى بيتهوفن.
مرّت سنوات قليلة، وشجّع تطوّر تقنيّات التسلسل الجينيّ الباحثين على العودة والتحقّق من أصل خصلات الشعر المنسوبة إلى بيتهوفن. عمل الباحثون وجامعو التحف معًا حتّى تمكّنوا من شراء ثماني خصلات من الشعر في المزادات، والّتي كانت موجودة في عدّة أماكن ومملوكة لجهات مختلفة.
وفي سنة 2023، أفاد الباحثون الّذين فحصوها، أنّ خمس عيّنات شعر من أصل ثماني عيّنات لها نفس التركيب الجينيّ، وجميعها أظهرت علامات مميّزة للشعر من القرن التاسع عشر، وخلصوا إلى أنّها تنتمي إلى بيتهوفن. لكنّ العيّنة الّتي تمّ العثور فيها على نسبة عالية من الرصاص في وقت سابق ربّما تعود إلى امرأة يهوديّة من أصل أشكنازيّ- وهي صفات لا تُنسب بالتأكيد إلى الملحّن.
تمّ العثور على نسبة عالية من المعدن في عيّنة الشعر. رصاص منصهر | Peyker, Shutterstock
الشعَر والفرضيّات
وُجد في المسح الجينيّ للشعر المنسوب إلى بيتهوفن، على عدد من الطفرات الّتي تجعل أصحابها أكثر عرضة للإصابة بأمراض الكلى والكبد- والّتي عانى منها بيتهوفن، وربّما ساهمت أيضًا في وفاته. ومع ذلك، فإنَّ النتائج لم تقدّم تفسيرًا مقنعًا لفقدان السمع لدى بيتهوفن.
إذا تمّ نشر هذه النتائج قبل عام واحد فقط، فكيف عاد موضوع الرصاص إلى عناوين الأخبار مرّة أخرى؟ بينما كان فريق البحث يفكّ رموز جينات بيتهوفن، فحص فريق آخر احتمال احتواء الشعَر على الرصاص أو معادن أخرى. صرّحت مجلّة Clinical Chemistry مؤخّرًا أنَّ عيّنات الشعر المنسوبة إلى بيتهوفن تحوي أيضًا نسبة عالية للغاية من الرصاص- أعلى ممّا تمّ العثور عليه في شعر تلك السيّدة اليهوديّة المجهولة.
في الواقع، كان تركيز الرصاص أعلى من أيّة عيّنة شاهدها الباحثون على الإطلاق في شعر الإنسان. وشملت العيّنات ما بين 254 و380 ميكروغرامًا من الرصاص لكلّ غرام من الشعر، وهي كميّة أعلى بـ 64 إلى 95 مرّة من النسبة الطبيعيّة. وأشار الباحثون إلى أنَّ التلوّث الخارجيّ بالرصاص يمكن أن يؤثّر في الاختبار، لكنّهم اتّخذوا تدابير لمنع ذلك. كما وجدوا تركيزات غير طبيعيّة من معادن الزرنيخ والزئبق.
من المؤكّد أنَّ هذه التركيزات العالية من الرصاص ترتبط بتلف السمع وأمراض الكلى والأمعاء، ولكن وفقًا للباحثين، ربّما لم يكن التسمّم بالرصاص في حدّ ذاته هو سبب وفاة الملحّن. من المفترض أنَّ مزيجًا من عوامل الخطر- التسمّم، النزعة الوراثيّة للإصابة بمرض الكبد، العدوى بفيروس التهاب الكبد B، استهلاك عالٍ للكحول، نظام غذائيّ غير سليم، الأدوية العديدة الّتي تناولها- قد هزمت أنظمة جسمه.
كيف وصل كلّ هذا الرصاص إلى شعر بيتهوفن، وما سبب خطورته؟
كان استخدام الرصاص أكثر انتشارًا في الماضي، قبل- وحتّى بعد- عند اكتشاف مدى خطورته على الجسم. أنبوب يحوي الرصاص يتقشّر منه الطلاء | James Ebanks, Shutterstock
إنزيمات في خطر
الرصاص معدن ناعم رمادي اللون، ينصهر عند درجة حرارة منخفضة نسبيًّا تبلغ 327 درجة مئويّة- حتّى لهب الشمعة يذيبه. تجعل هذه الميزة الرصاص ملائمًا بشكل خاصّ للمعالجة، لذلك يتمّ استخدامها لإنتاج مجموعة متنوّعة من المنتجات، مثل الأنابيب، الأوزان، الدهان، البطاريّات، تقنيّات الطباعة والمزيد. كما أنّه معدن كثيف جدًّا مقارنة بالموادّ الأخرى الموجودة في الطبيعة، ولذلك يستخدم للحماية من الإشعاعات المؤّيّنة الّتي يصعب اختراقها من خلاله.
كان استخدام الرصاص أكثر انتشارًا في الماضي، قبل- وحتّى بعد- اكتشاف مدى خطورته على الجسم. في الواقع، وصف الطبيب اليونانيّ الشهير أبقراط (Hippocrates) أعراض التسمّم بالرصاص منذ حوالي 2500 عام، لكنّ الوعي واسع النطاق بتأثير الرصاص في الصحّة لم يتطوّر إلّا في القرون الأخيرة.
تُعدّ النسبة العالية للرصاص خطيرة بشكل رئيس بسبب تأثير المعدن في وظيفة البروتينات الضروريّة لجميع أعمال الجسم- الإنزيمات. تحفّز الإنزيمات العمليّات البيولوجيّة والكيميائيّة الضروريّة لجميع العمليّات في جسم الإنسان تقريبًا. تُعتبر أيونات المعادن، مثل الحديد أو النحاس، بكميّات ضئيلة جدًّا، جزءًا من العديد من الإنزيمات الموجودة في الجسم بشكل طبيعيّ، ولكن عندما يدخل الرصاص إلى الجسم فإنّه قد يحلّ محلّ هذه الأيونات وبالتالي يعطّلها عن نشاطها.
يمكن أن يؤثّر الإضرار بالإنزيمات في معظم أجهزة الجسم، وفي حالة التسمّم بالرصاص، أي التعرّض لنسبة عالية من الرصاص، من المتوقّع أن يتضرّر الجهاز العصبيّ، جهاز المناعة، القلب والسمع. وبعض هذه الظواهر سوف تمرّ إذا عادت تركيزات الرصاص إلى مستواها الطبيعيّ، ولكنّ بعضها لا رجعة فيه.
التركيزات العالية من الرصاص خطيرة بشكل رئيس بسبب تأثير المعدن في عمل الإنزيمات في الجسم. علامة تحذير من الرصاص | | Kim Britten, Shutterstock
القطرة المُرّة- الحلوة
يُعرف بيتهوفن بأنّه شخص نشأ وتلقّى تعليمه في منزل صعب وغير مستقرّ ماديًّا. كان والده معلّمَهُ الموسيقيّ الأوّل، وعندما اكتشف موهبة ابنه، أملى عليه روتينًا صارمًا للتمرين والعزف. تمّ وصف الأب لاحقًا بأنّه مدمن على الكحول. توصف الأم بأنّها امرأة جادّة وكئيبة. واضطرّ كلا الوالدين، كما ذكرنا، إلى دفن أربعة من أبنائهم الّذين لم يعيشوا طويلًا وماتوا في سنّ الطفولة.
مثل والده، لم يبخل بيتهوفن في تناول القطرة المرّة (الكحول). ويُعتقد أنّه في العقد الأخير من حياته، كان بيتهوفن يشرب يوميًّا زجاجة واحدة من النبيذ على الأقلّ، وأحيانًا أكثر. في زمن بيتهوفن، وفي الواقع منذ مئات السنين قبل ذلك، اعتاد مصنّعو النبيذ والمشروبات الكحوليّة الأخرى إضافة الرصاص إلى المشروبات.
تمّ اكتشاف الرصاص بالفعل في مصر القديمة، وتعلّموا صهره واستخدامه في إنتاج الأصباغ، مستحضرات التجميل والمجوهرات. ربّما بدأ استخدام الرصاص في المشروبات، أو على الأقلّ أصبح أكثر شيوعًا، في فترة الإمبراطوريّة الرومانيّة، عندما اكتشف مصنّعو المشروبات أنَّ غلي عصير العنب بالرصاص ينتج شرابًا حلوًا ولذيذًا، وأطلقوا عليه اسم سابا. كانوا يضيفون السابا إلى النبيذ لتحليته. أصبح الرصاص أكثر شيوعًا عندما اكتشف أنّه يساعد في الحفاظ على النبيذ.
كانت إضافة الرصاص إلى النبيذ وغيره من المنتجات، مثل مستحضرات التجميل، الألعاب وأدوات التخزين، منتشرة على نطاق واسع لدرجة أنَّ استخدامه استمرّ في الازدهار حتّى تسعينيّات القرن الماضي- على الرغم من أنّ الأطبّاء أبلغوا عن مخاطر تعريض الجسم للرصاص في نهاية القرن السابع عشر. في أيّام بيتهوفن، كان الوعي بمخاطرها في بداية ظهوره. ويبدو أنَّ زيادة استهلاك المشروبات الكحوليّة قد عرّض بيتهوفن لكميّات غير طبيعيّة من الرصاص.
ربّما تمّ حلّ اللغز الّذي حيّر الكثير من الباحثين عبر التاريخ. أو ربّما ….؟