كان غُصن إحدى أشجار الزّيتون دليلًا رئيسًا في تحديدِ توقيت أحد أهمّ الانفجارات البركانيّة في التّاريخ، لكنّ دراسةً علميّةً لاحقة وَجدت أنّ ذلك الدليل قد يكون خاطئًا
تُعتبر أشجار الزّيتون إحدى أهمّ مميّزات منطقة حوض البحر الأبيض المتوسّط، وجزءًا لا يتجزّأ من تاريخ الثقافات البشريّة التي تطوّرت فيها. تنتشر بقايا أشجار الزّيتون في مواقع من العصور القديمة، وتُستخدم على نطاقٍ واسعٍ في أبحاث عِلم الآثار، التي تتضمّن التأريخ المطلق وهو تحديد عمر المناطق، والاكتشافات القديمة. وقد كان غصنٌ من شجرةِ زيتونٍ أحد ركائز بحثٍ أثريّ، وهو ما دفعَ باحثين آخرين لاحقًا لطرح الموضوع من جديد. فقد قاموا بإجراء بحث جديد لتحديد مصداقيّة بقايا أشجار الزّيتون باعتبارها "ساعات" قديمة، وقد تكون تبعاتٌ ذاتُ أهمّية للنّتائج التي تمّ الحصول عليها.
كان الثوران البركانيّ في جزيرة سانتوريني في بحر إيجة، الذي حدث في منتصف الألفيّة الثانية قبل الميلاد، أحد أكثر الأحداث البركانيّة تدميرًا منذ اختراع الكتابة. كما أنّه كان أحد أهمّ الأحداث في العصر القديم، التي أثّرت في مصيرِ الحضارات المتقدّمة من حوض البحر الأبيض المتوسّط وحتّى الصين. لذلك، يلعبُ هذا الثّوران دورًا أساسّيًا في الرّبط الزّمنيّ بين الثقافاتِ المختلفة التي كانت سائدة في تلك الحقبة الزمنيّة.
حدث بركانيّ مدمّر. لوحة لثوران الجبل البركانيّ في سانتوريني سنة 1866م | المصدر: Science Photo Library
على الرغمِ من الأدلّةِ الماديّة الكثيرة التي خلّفها الانفجار البركانيّ في سانتوريني، والعديد من المخلّفات الأثريّة والتاريخيّة المتعلّقة به، فإنّ السنة التي حدث فيها هذا الانفجار ما زالت مثارًا للجدل. يشير التأريخ المطلق الذي يعتمد على الصّلةِ بين الاكتشافات الأثريّة من ثقافات مختلفة في شرق البحر الأبيض المتوسّط، إلى أنّ الثوران البركانيّ حدث قبل 1500 سنة من الميلاد، بينما تشير تقنيّة التأريخ المطلق باستخدام الكربون 14 للموادّ العضويّة المدفونة في الرماد البركانيّ أنّ الثوران حدث قبل 1600 سنة من الميلاد.
الاكتشاف الرئيس الذي يعتمد عليه التأريخ الإشعاعيّ المطلق للثوران البركانيّ، يعود إلى غصنِ شجرةِ زيتون متفحّم تم اكتشافه خلال الحفريّات في جزيرة سانتوريني. اعتمد الباحثون على الفرضيّة المتّبعة وهي أنّ حلقة النّمو الخارجيّة في الشجرة تمثّل السنة الأخيرة من حياتها، لذلك فإنّ التأريخ المطلق بالكربون المشعّ 14 للحلقة الخارجيّة في غصن الزّيتون الذي اكتُشِفَ، سَيكشفُ عن السنة التي اقتُلع فيها، وهي على الأرجح قريبةً من زمن الثوران.
تشير النتائج غير العضويّة إلى أنّ الانفجار حدث في وقتٍ لاحق. بقايا في سانتوريني | تصوير: Gretchen Gibbs, University of Arizona
ساعة الزيتون المُزَيِّفَة
للإجابةِ عن السّؤال حول ما إذا كانت حلقة النموّ الخارجيّة في أشجار الزيتون تمثّل السّنة الأخيرة من نموّها، وما إذا كانت أشجار الزّيتون نموذجًا جيّدًا بشكل عامّ للتأريخ المطلق بالكربون المشعّ 14، أخذ الباحثون وعلى رأسهم البروفيسور إليزابيث بورتا وطالبة البحث العلميّ ياعيل إرليخ، قطعتين من أشجار الزّيتون الحديثة من شمال البلاد. قاموا بتأريخ عددٍ كبير من النقاط المختلفة على محيط الحلقة الخارجيّة بواسطة الكربون المشعّ 14، وكانت النّتائج مفاجئة. فقد تمّ الحصول على مجالٍ واسع من تواريخ الحلقة الخارجيّة لنموّ الشّجرة التي تمّ زرعها في سنوات الثلاثين من القرن الماضي. وأشارَ عددٌ قليل منها فقط إلى السنة الحقيقيّة لقطعها، بينما أشارت باقي النقاط على سنواتٍ قديمةٍ أكثر تصل إلى سنوات السبعين. كما أظهرت شجرة الزّيتون الثّانية التي قُطعت ظاهرةً مشابهة، إذ أشارت النّقاط المختلفة التي تمّ أخذ عيّنات منها إلى مجال يزيد على 50 سنة.
تتميّز شجرة الزّيتون بصفاتٍ خاصّة تميّزها عن باقي أنواع الأشجار الأخرى. إنّ نشاط نسيج الكامبيوم الوعائيّ (الّلحاء الخارجيّ)، الذي تنمو منه الحلقات الموسميّة، ليس متجانسًا بالضرورة في كل محيط طبقات الجذع، وقد يكون خاملًا في جزءٍ منه بينما في جزءٍ آخر ستنبت شجيرة أخرى. ولهذا يمكن أن تظهر حلقات تبدو وكأنّها موحّدة، ولكن كلّ مقطع منها نما في سنةٍ مختلفة. بالإضافة إلى ذلك، يتكوّن جذع الزيتون من أنظمةِ نقلٍ مستقلّةٍ ومنفصلة، وفي كل واحدةٍ منها ترتبط مجموعة من الجذور الخاصّة بالجزء الخاصّ لها من الأعلى. عندما تتلف مجموعة من الجذور، فإنّها تؤدي إلى موت الجزء العلويّ لها وإلى الجزء في الجذع الذي يربط بينهما، وكذلك إلى موت نسيج الكامبيوم المجاور لها. أمّا باقي محيط الجذع سيستمرّ في النّمو وإنتاج حلقات جديدة، بينما سيتوقّف الجزء المصاب عن النّمو.
تثيرُ نتائج هذه الدّراسة، الموافِقَة لِخاصيّة نموّ شجرة الزّيتون، علامة استفهام مهمّة فيما يتعلّق بمصداقيّة تأريخ الثوران البركانيّ، المعتمدة على شجرة الزّيتون التي اكتُشِفَت في سانتوريني. كما ستؤثّر هذه النّتائج في استمرارِ استخدام شجرة الزّيتون في المستقبل، عند استخدام فحص الكربون 14 المشعّ في أبحاث عِلم الآثار. من المهمّ مَعرفة أنّ البقايا العضويّة المختلفة التي اكتُشِفَت في حفريّات سانتوريني، غير المكوّنة من شجر الزيتون، ما تزال تشيرُ إلى أنّ فترة ثوران البركان تعود إلى أكثر من مئة عامٍ، مقارنةً بالتأريخ القائم على الاكتشافات الأثريّة الأخرى. لا تُؤثّر هذه الدراسة بشكلٍ مباشرٍ في تأريخ الثوران القديم، لكنّها قد تثير النقاش مجدّدًا حول إيجاد التّاريخ الدقيق، والبحث عن طرقٍ أكثر موثوقيّةً لاكتشافه.