أفادت دراسة حديثة أنّ الدفع بالوسائل الإلكترونيّة يزيد من النّفقات مقارنةً بالدّفع النّقديّ
تُشكِّل وسائل الدّفع الإلكترونيّة، كبطاقات الاعتماد والمحفظات الرّقميّة، في العقود الأخيرة بدائل شائعةً جدًّا للنّقود الملموسة، وتُعدّ حلًّا سهلًا ومريحًا للمستهلك ولتجّار التّجزئة. دفع ما لا يزيد عن 13 بالمائة من المستهلكين في الولايات المتّحدة الأمريكيّة سنة 2022 النقود الملموسةة مقابل مشترياتهم؛ ولم تتعدَّ، في نفس السّنة، نسبة الصّفقات والمعاملات التّجاريّة النّقديّة الملموسة في الحوانيت العاديّة (غير الإلكترونية) في البلاد 25 بالمائة. يقضّ تأثير وسائل الدّفع الالكترونيّة على المصروفات في المجتمع، الّذي يتّجه شيئًا فشيئًا نحو الوسائل الرقميّة، إلى جانب حسناتها، مضجع الباحثين والسّاسة، فإنّها -أي وسائل الدفع الإلكترونية- قد تجعل المستهلكين يصرفون مبالغ تزيد عن قدراتهم الاقتصاديّة، وتجرّهم نحو الغرق بالدّيون.
أظهرت الدّراسات الّتي أُجريت في هذا المجال أنّ استخدام وسائل الدفع الالكترونية، مقرونٌ بزيادة المصاريف والمشتريات وزيادة الجاهزية للدفع مقابلها، ومن هنا صيغَ مصطلح "تأثير الدّفع غير النّقديّ" (cashless effect): زيادة سهولة إنفاق الأموال إذا لم تقترن المعاملة بالدّفع النّقديّ. يعود عامل الدّفع غير النّقديّ، وفقًا للنّظريّة السّائدة، الّتي تُدعى بـ"ألم الدّفع" (pain of paying) - المشاعر السّلبيّة المرافقة لعمليّة الدّفع. تصبح عمليّة الدّفع النّقديّ ملموسة ًأكثر، إذ نمسك القطع النّقديّة بأيدينا ونتحسّسها، وقد نعُدُّها أيضًا قبل أن نعطيَها للبائع. تقلّل وسائل الدّفع الرّقميّة، وفقًا لتلك النّظريّة، من ألم الدفع، بينما يزداد هذا الألم في حالة دفع القطع النّقديّة الملموسة لجهة أخرى. يتساءَل الباحثون في هذا المجال في الآونة الأخيرة فيما إذا كان تأثير هذه الظاهرة آخذًا بالانخفاض، أو أنّه قد اختفى تمامًا، أو انقلب مع مرور الزمن، تزامنًا مع ازدياد رواج الدّفع بالوسائل الإلكترونيّة.
أظهرت الدّراسات الّتي أُجريت في هذا المجال أنّ استخدام وسائل الدفع الالكترونية مقرونٌ بزيادة المصاريف والمشتريات وزيادة الجاهزيّة للدفع مقابلها. الدّفع النّقديّ مقابل الدّفع بواسطة المحفظة الرّقميّة | Stock-Asso, Shutterstock
إذًا، كيف تدفع مقابل مشترياتك؟
أجرى باحثون من أستراليا، ضمن تحليل تلوي (Meta-analysis) نُشر في العام الجاري، تحليلًا لبيانات أُخذت من 71 مقالةً كانت قد نُشرت في أربعة العقود الأخيرة، ووصفت أكثر من 10,000 مشترك من 17 دولة مختلفة. أراد الباحثون أن يفحصوا هل حقًّا هناك علاقة بين وسيلة الدفع وحجم المصروفات، وماهية هذه العلاقة، في حال اقترن حجم المصروفات بوسائل الدّفع الإلكترونيّة، العوامل الإضافيّة الّتي تؤثّر على هذه الظّاهرة، تُعظّمها أو تُضعِفُها. وجد الباحثون أنّ تأثير وسيلة الدّفع على حجم المصروفات قليل، إلّا أنّه ذو دلالة إحصائيّة. كشف الباحثون وجود تفاوت كبير بين الدراسات، ونسبوا هذا التّفاوت إلى الفروق في الظروف الّتي أُجريت فيها.
اكتشف الباحثون، عندما تعمقوا في البحث عن سبب هذا التّفاوت في الأبحاث، خاصَّتيْن زادتا من عامل الدّفع غير النّقديّ: الأولى هي طرق الدّفع الّتي تشمل/لا تشمل وسيلة ملموسة للدفع، أما الثانية فهي وسائل الدفع التي يتم فيها الفصل بين موعد الشراء وبين موعد الدفع. الدفع النقدي مثلًا هو وسيلة دفع ملموسة لا يتم فيها الفصل بين موعد الشراء وبين موعد الدفع. استخدام Apple/Google pay هو وسيلة غير ملموسة للدفع، أما بطاقات الاعتماد فهي وسائل ملموسة يُؤجل فيها موعد الدفع عن موعد الشراء.
فحص الباحثون ايضاً فيما إذا كان هناك تأثير لوضعيّة الاستهلاك على عامل الدّفع غير النّقديّ. يتعاظم العامل، وفق ما اتّضح للباحثين، عند استهلاك منتجات وخدمات مقترنة برموز المكانة الاجتماعيّة - الاقتصاديّة العالية، مثل السّيارات الفارهة والوجبات الغذائيّة في المطاعم الفاخرة. خمّن الباحثون أنّ ذلك يعود إلى أنّ هذا النوع من الاستهلاك هو أشدّ إيلامًا، حيث يؤلمنا شراء حقيبة ذات علامة تجاريّة أكثر من شراء حقيبة عادية نحن بحاجة لها فعلًا. ومن ضمن ما خمّنه الباحثون أنّ الدفع الإلكترونيّ يجعل الشخص يعطي إكراميّة أو يزيد من تبرّعاته، واتّضح أنْ ليس الأمر كما خمّنوا. ما وُجد فعلًا هو أنَّ هناك تأثير للوضع الاقتصادي العامّ في المجتمع: تعاظَم العامل عند ارتفاع وتيرة الازدياد في النّاتج القوميّ.
كان آخر ما فحصه الباحثون هو ما يحصل لهذا العامل مع مرور الزّمن، وتبيّن لهم أنّه آخذ بالتّلاشي. افترض الباحثون أنّ تزايد الدراية بالمعاملات والصّفقات اللّا نقديّة يؤدّي إلى التّكيّف: ازداد استخدام وسائل الدّفع الإلكترونيّة مع مرور الزّمن، وتضاءَلت شدّة إثارتها لردود الفعل الشّديدة لدى المستهلك. يتعاظَم عامل التّكيّف، كما افترض الباحثون، مع التّقدّم نحو مجتمع بلا نقود ملموسة، لكن ما يجدر ذكره هو أنّ غالبية المقالات التي شملها التّحليل كانت من السنوات العشرين الأخيرة، وربّما تسبّب ذلك في انحياز في العامل المؤثّر الّذي وجد على مرّ السنين.
قد تترتّب، وفقًا لما تبيّن من نتائج الدّراسة، عواقب سلبيّة على المستهلك نتيجة التّحّول إلى مجتمع بلا نقود، ما قد يؤدّي إلى ازدياد المصروفات فلا تتناسب مع الموارد الاقتصاديّة للمستهلك. أكّد الباحثون أنّ جزءًا كبيرًا من سكان العالم ما زالوا يستخدمون العملات النّقديّة دون غيرها من وسائل الدّفع، وهم بحاجة إلى دعم من قبل صانعي القرار، عند التّحوّل إلى طرق بديلة للمدفوعات، كي لا يصرفوا مبالغ تفوق قدراتهم وإمكانيّاتهم الماليّة. أشار الباحثون إلى أنّ مجرّد العِلم والدراية بعامل الدّفع اللّا نقديّ من شأنه أن يساعد هؤلاء المستهلكين في اتّخاذ القرار هل يشترون أم لا، وتقلّ بذلك مصروفاتهم. اقترح لكلان شومبرغ (Schomburgk)، وهو رائد الدراسة، أن يشكّل الدفع بالنقود الملموسة أغلبيّة المعاملات الماليّة، لتجنّب المصروف الزّائد عن القدرة. قد يكون النّفع نقدًا، على ضوء استنتاجات الدراسة، بمثابة نوع من التّحكّم الذّاتيّ ويساعدنا في متابعة نفقاتنا.