ما سبب الاضطراب النفسيّ - هل نابعٌ من الوراثة، البيئة أم من كليهما؟ قامت دراسة جديدة بمسح عشرات الآلاف من التوائم وحاولت الوصول إلى إجابة
يعاني الكثير من الأشخاص حول العالم من اضطرابات نفسية. قد تصعّب الاضطرابات النفسيّة الأداء اليوميّ للشخص بحيث تؤثّر على التفكير، الشعور، التصرفات وكذلك الإدراك للواقع. هناك اضطرابات نفسيّة كثيرة ومتنوّعة، التي تختلف عن بعضها البعض في طبيعتها والأعراض المرافقة لها. يتطلّب تشخيص الاضطراب النفسيّ إلى مختصّ في هذا المجال، ويشمل العلاج مجموعةً متنوّعةً من الأساليب، بدءًا من العلاج النفسيّ وتغيير العادات وحتّى تناول الأدوية النفسيّة. رغم أنّ فهم هذه الاضطرابات يتحسّن مع مرور السنين، إلّا أنّ أسباب ظهورها لا تزال غامضة إلى حدّ كبير.
كيف تؤثّر الأحداث الصادمة في مرحلة الطفولة على الصحّة النفسيّة في مرحلة البلوغ؟ فتاة تبكي جالسة على الأرض | HTWE, Shutterstock
الوراثة أم البيئة؟
الدماغ هو العضو المسؤول عن تنظيم أفكارنا ومشاعرنا، وتُعدّ الاختلافات في وظائفه السبب الرئيسيّ للاضطرابات النفسيّة. لكن كيف يعمل الدماغ، وما الذي يؤدّي إلى تغيير طريقة عمله؟ هناك عاملان مهمّان في هذه المسألة: الوراثة والبيئة. تؤثّر المادّة الوراثيّة التي ولدنا بها، أي الحمض النوويّ، على ميلنا إلى الإصابة بالأمراض الجسديّة أو النفسيّة. عندما يعاني العديد من أفراد العائلة من مرض معيّن، قد يكون ذلك مرتبطًا بالحمل الجينيّ المشترك بينهم، ممّا يزيد من خطر الإصابة به منذ الولادة. يبدو أنّ الاضطرابات النفسيّة تتأثّر أيضًا بالوراثة: فقد وجدت الدراسات التي فحصت أزواجًا من التوائم، أنّه إذا كان أحدهم يعاني من اضطراب نفسيّ، فمن المرجّح أن يعاني التوأم الآخر منه أيضًا. تشير هذه الظاهرة إلى تأثير الوراثة المشتركة بينهما.
في الوقت الذي تشير فيه العديد من الدراسات إلى أهمّيّة الوراثة، أظهرت العديد من الدراسات أيضًا أهمّيّة البيئة على تطوّر الأمراض. على سبيل المثال، قد يصاب شخص ما بمرض نتيجة تعرّضه لمادّة خطيرة، وذلك بغضّ النظر عن الحمض النوويّ الذي ورثه من والديْه. وبالمثل، يبدو أنّ البيئة تلعب دورًا مهمًّا في ظهور الاضطرابات النفسيّة؛ إذ وجدت الدراسات أنّ الأشخاص الذين تعرّضوا لأحداث صادمة في مرحلة الطفولة - مثل التعرّض لاعتداء جنسيّ، أو العيش في بيئة غير ملائمة - كانوا أكثر عرضةً للإصابة باضطراب نفسيّ في مرحلة البلوغ.
مع ذلك، على الرغم من النتائج العديدة التي تشير إلى وجود علاقة بين صدمات الطفولة والاضطرابات النفسيّة، فمن الصعب الجزم أنّ هذه علاقة سببيّة - أي أنّ الصدمة تؤثّر بشكل مباشر على الصحة النفسيّة. يعود ذلك إلى صعوبة الفصل بين العوامل الوراثيّة والبيئيّة. على سبيل المثال، إذا نظرنا إلى عائلة ذات وضع اجتماعيّ واقتصاديّ منخفض، ويعاني أفرادها من حالات متعدّدة من الاضطرابات النفسيّة، قد يُعزى تطوّر هذه الاضطرابات إلى تعرّضهم لظروف اقتصاديّة صعبة. مع ذلك، نظرًا لأنّهم يتشاركون الصفات الوراثيّة لكونهم أقارب، من المحتمل أن يكون ميلهم للإصابة بالاضطرابات النفسيّة موروثًا وليست ناتجًا عن الظروف البيئيّة.
يمكن أن تتأثّر الصدمات النفسيّة بالعوامل الوراثيّة والبيئيّة، ومن الصعب تحديد العامل الأكثر تأثيرًا. قد ينقل أحد الوالدين الذي يعاني من الاضطرابات النفسيّة ذلك الميول إلى أطفاله وراثيًّا. مع ذلك، قد تتطوّر الاضطرابات النفسيّة لدى الأطفال نتيجة سوء المعاملة، والإهمال، والظروف المعيشية السيّئة التي يوفّرها الوالدان. كما يمكن أن تؤدّي الظروف المعيشية غير الملائمة أيضًا إلى زيادة احتماليّة التعرّض للأحداث الصادمة، والتي قد تؤدّي إلى تطوّر الاضطرابات النفسيّة.
يمكن لدراسات المتابعة طويلة الأمد للتوائم أن تساعد في التمييز بين التأثيرات البيئيّة والوراثيّة. توأم متطابِق | Nastyaofly, Shutterstock
السبب أم النتيجة؟
تتأثّر احتماليّة الإصابة باضطراب نفسيّ بعدّة عوامل، منها البيئة المعيشيّة والأحداث الصادمة التي تعرض لها الطفل، بالإضافة إلى جيناته الوراثيّة. عندما تكون الصورة معقّدة للغاية، يصعب معرفة مدى مساهمة كلّ منها في ظهور الاضطرابات النفسيّة. للإجابة عن هذا السؤال، يعتمد الباحثون على المتابعة طويلة الأمد للتوائم المتطابقة. ينشأ التوائم المتطابقة من نفس البويضة المخصّبة، وبالتالي لديهم نفس الحمض النوويّ، وبما أنّهم عادةً ما ينشأون في نفس الظروف والبيئة المعيشيّة. لذا، من المرجّح أنّ الاختلافات بينهم تنبع بشكل رئيسيّ من الأحداث الصادمة الفريدة التي عاشها كلّ منهم. بناءً على ذلك، إذا تعرّض توأم واحد فقط لحدث صادم، فمن الممكن التحقّق من مدى تغيّر صحّته النفسيّة مقارنةً بأخيه التوأم. كذلك، يمكن أن نتعلّم الكثير من متابعة التوائم غير المتطابقة، وذلك لأنّهم نشأوا من بويضات مخصّبة مختلفة، وبالتالي فإنّ الاختلافات بينهما تكون ناتجةً عن العوامل الوراثيّة.
في الآونة الأخيرة، قام فريق من الباحثين بدراسة التوائم المتطابقة وغير المتطابقة، للتحقّق ما إذا كانت الأحداث الصادمة في مرحلة الطفولة مرتبطةً بالميول، لتطوير الاضطرابات النفسيّة في مرحلة البلوغ. شارك في الدراسة أكثر من 25 ألف توأم متطابق وغير متطابق من السويد، بمتوسط عمر 29.9 سنة. أجاب التوأم على استبيانات تتعلّق بالأحداث التي مرّوا بها في طفولتهم، وبالتالي تمكّن الباحثون من معرفة عدد الأحداث الصادمة التي تعرّض لها كلّ توأم في طفولتهم. استند الباحثون على السجّلات الطبّيّة، لفحص أيّ من التوائم شخّصوا بالاضطرابات النفسيّة. لتفادي تأثير السببيّة العكسيّة والتي تفحص احتماليّة تأثير الاضطرابات النفسيّة في سنّ مبكّرة، على تعرض التوأم لأحداث صادمة، اعتمد الباحثون على تشخيصات الاضطرابات النفسيّة بدءًا من سنّ 19 عامًا حيث استثنوا من البحث كلّ من هم دون هذا السن.
ينشأ التوائم المتطابقة من نفس البويضة المخصّبة ولهذا لديهم نفس الحمض النوويّ. التوائم المتطابقة والتوائم غير المتطابقة| Designua, Shutterstock
نتائج صادِمة
اكتشف الباحثون وجود علاقة إيجابيّة بين عدد الأحداث الصادمة التي تعرّض لها الأشخاص في مرحلة الطفولة، واحتمال تشخيص إصابتهم باضطرابات نفسيّة في وقت لاحق من حياتهم. هذا يعني أنّه كلّما زادت الأحداث الصادمة التي مرّوا بها، زاد احتمال إصابته باضطراب نفسيّ. من بين الأشخاص الذين شُخّصوا باضطرابات نفسيّة، وجدوا أنّ 6.4% منهم لم يتعرّضوا لأيّ حدث صادم، 10.2% منهم تعرّضوا لحدث صادم واحد، 14.8% منهم تعرّضوا لحدثين صادمين، بينما 24.6% منهم تعرّضوا لثلاثة أعراض صادمة أو أكثر. تشير النتائج إلى أنّ كلّ حدث صادم يزيد من احتمال الإصابة باضطراب نفسيّ بأكثر من مرّة ونصف. تعزّز هذه النتيجة المعرفة السابقة و الفرضيّة القائلة بإن الأحداث الصادمة في مرحلة الطفولة، ترتبط بتطوّر الاضطرابات النفسيّة في مرحلة البلوغ.
قارن الباحثون بين التوائم وتحقّقوا ما إذا كانت احتمالية إصابة أحدهم باضطراب نفسيّ تزداد إذا تعرّض لأحداث صادمة في طفولته - وبالفعل وجدوا أنّ احتمال إصابة التوأم الذي تعرّض لحدث صادم باضطراب نفسيّ، كان أعلى 1.2 مرّة من احتمال إصابة توأمه، الذي لم يتعرّض لمثل هذا الحدث. كان الفرق أكبر بين التوائم غير المتطابقة - 1.72 مرّة. كان الفرق ذا دلالة إحصائيّة ولكنّه ليس كبيرًا جدًّا، ويمكن استنتاج أنّ كلًا من الجينات المشتركة بين التوأم والبيئة المعيشيّة المشتركة وكذلك تجارب الأحداث الصادمة التي ينفرد بها كلّ منهما، تؤثّر على احتماليّة إصابة كلّ منهما باضطراب نفسيّ خلال حياتهم.
قد لا تكون نتائج الدراسة الجديدة مفاجِئة، لكنّ أهمّيّتها تكمن في أنّها استندت على عيّنة كبيرة من المشاركين، شملت العديد من أزواج التوائم المتطابقة وغير المتطابقة. أتاح هذا الأمر، لأوّل مرّة، برؤية تأثير الأحداث الصادمة في مرحلة الطفولة، الّتي تؤثّر على احتماليّة الإصابة باضطرابات نفسيّة، بعيدًا عن العوامل الوراثيّة والجينات. في الوقت نفسه، وبحسب نتائج الدراسة، فإنّ كلًا من الوراثة والبيئة المعيشيّة للشخص في مرحلة الطفولة، أثّرت على احتماليّة إصابته باضطراب نفسيّ.
يبدو أنّ مجموعة من العوامل كلّها تؤثّر على الصحّة النفسيّة. لا يمكننا تغيير الجينات، لذا يجب علينا التأكّد من أن أطفالنا يتمتّعون ببيئةٍ معيشيّة آمنة ومتوازنة، وحمايتهم قدر الإمكان من التعرّض للأحداث الصادمة.