جوائز نوبل للعام المنصرم تعكس ثورة الذّكاء الاصطناعيّ الّتي نشهدها، المرتبطة بشكل مباشر بجوائز نوبل 2024 في مجالي الفيزياء والكيمياء

تمنح جوائز نوبل كلّ عام في تاريخ 10 ديسمبر، وهو تاريخ الذّكرى السّنويّة لوفاة ألفريد نوبل، رجل الصّناعة السّويديّ الّذي جمع ثروةً كبيرةً من تطوير المتفجّرات بالأساس. في نهاية حياته، ندم نوبل على ما سبّبته اختراعاته، أو ما ساعدت على حدوثه من موت ومعاناة، فقرّر التّبرّع بثروته لصالح الإنسانيّة. بعد وفاته عام 1896، اتّضح أنّه ترك معظم ثروته لصندوق تُستخدم فوائده في منح جوائز للاكتشافات والتّطويرات المهمّة في خمس مجالات: الطّبّ أو علم وظائف الأعضاء، الفيزياء، الكيمياء، ومجالين غير علميّين، الأدب والسّلام. لم يكن لدى ألفريد نوبل أبناء، لكنّ أبناء إخوته وأخواته وأقارب آخرين له، حصلوا على مبالغ قليلة جدًّا من ميراثه، لذا قاموا بتحدّي هذه الوصية، وخاضوا معركة قانونيّة طويلة ضدّها. خسروا المعركة، وفي عام 1901، بعد خمس سنوات من وفاته، تمّ منح الجوائز لأوّل مرّة، ثمّ سرعان ما أصبحت هذه الجوائز تعدّ الجائزة العلميّة المرموقة والأكثر أهمّيّةً. في عام 1969، انضمّ البنك المركزيّ السّويديّ أيضًا إلى هذا التّقليد، حيث منح جائزة الاقتصاد الّتي تحمل اسم ألفريد نوبل، والتي أصبحت جزءًا من الحفل والأحداث المصاحبة، على الرّغم من أنّها لا تُمنح من الصندوق نفسه الذي أسّسه نوبل.


لقد أراد أن يُذكر كشخص عمل لصالح البشريّة، وليس كصانع للموت. وصيّة ألفريد نوبل | تصوير: Prolineserver, Wikipedia, Public Domain

على مرّ السنين، كان هناك قدرٌ كبير من الانتقادات على جوائز نوبل، وبعضها كان له ما يبرّره. جزء كبير من الانتقادات كان نابعًا من حرمان العلماء - وفي غالب الأحيان العالمات - من عدم حصولهم على الجائزة رغم أنّهم يستحقّونها. من الانتقادات المهمّة الأخرى كان انتقاد قرار عدم منح الجوائز للمنظّمات أو المؤسّسات. يُسمح فقط لجائزة نوبل للسلام أن تُمنح للمنظّمات، ولكن ليس لجوائز مجال العلوم. إنّ هذا القرار يتجاهل حقيقة أنّ الاكتشافات المهمّة تكون في بعض الأحيان نتاجَ تعاونٍ بين عشرات ومئات بل وآلاف الباحثين، كما يحدث في مشاريع دولية كبيرة مثل CERN أو LIGO على سبيل المثال. من ناحية أخرى، في السّنوات الأولى، تجاوزت لجان الجائزة متطلّبين في الوصيّة - منح الجائزة لشخص واحد فقط في كلّ مجال، وعلى عمل أُنجز في العام السابق. اليوم، في كثير من الأحيان، تُقسم الجائزة بين اثنين أو ثلاثة في كل مجال، وفي أغلب الأحيان تمنح على أعمال صمدت لسنوات أمام اختبار الزمن - ليس لسنوات قليلة فقط، وإنّما لعقود، إلى أن اتّضحت أهمّيّتها بما لا يدع مجالًا للشّكَ.

للجائزة جانب إشكاليّ آخر قد ينبع من تعريف المجالات العلميّة في الوصيّة: الطّبّ أو علم وظائف الأعضاء، الفيزياء والكيمياء. لكن بعد مرور أكثر من 120 عامًا على كتابتها، أصبح على سبيل المثال النّقص الذي تعاني منه الجائزة واضحًا في الرّياضيات، وخاصّةً في علوم الحاسوب، وهو مجال ربّما لم يكن بوسع نوبل أن يتنبّأ بأهمّيّته في أيّامنا هذه. في بعض الأحيان، قرّرت لجان الجائزة جعل التّعريفات أكثر مرونةً، وهكذا تقرّر منح الجائزة في الفيزياء لعام 2024 لاثنين من روّاد الذّكاء الاصطناعيّ، على الرّغم من أنّ ارتباط عملهم بالفيزياء بالكاد يذكر. جون هوبفيلد (Hopfield) من جامعة برينستون في الولايات المتّحدة وجيفري هينتون (Hinton) من جامعة تورنتو في كندا يحصلان على الجائزة على تطويرهما أدوات حسابيّة تحاكي نشاط الجهاز العصبيّ.


وضعا الأساس للذكاء الاصطناعي الحديث بفضل تطوير أنظمة حاسوبية تحاكي نشاط الشبكات العصبية في الدماغ. جيفري هينتون (يمين) وجون هوبفيلد | تصوير: Ramsey Cardy, bhadeshia123, Wikipedia

الحاسوب والدماغ

استندت أجهزة الحاسوب الحديثة الأولى، التي صُنّعت بدءًا من الأربعينيّات من القرن الماضي، من بين أمور أخرى، إلى نموذج مجرّد للدّماغ البشريّ، تمثّل الخلايا العصبيّة فيه بوّابات بعلم المنطق، واتّصالها ببعضها كشبكة يسمح بإجراء عمليّات حسابيّة، بل وحتّى تخزين ذاكرة. في عام 1949، اقترح عالم النّفس دونالد هب (Hebb) نظريّة مفادها أنّ التعلّم الأساسيّ يحدث بفضل تغيير قوّة الرّوابط بين الخلايا العصبيّة. عندما تنشّط خليّة معينة خليّة أخرى باستمرار، بإشارات كهربائيّة أو كيميائيّة، الاتّصال بينهما يصبح أقوى. بالمقابل، فإنّ الاتّصال بين الخلايا يضعف عندما لا تعمل معًا كثيرًا.

دفعت هذه الأفكار الباحثين إلى محاولة تطوير شبكات عصبيّة اصطناعيّة، تحاكي خصائص الدّماغ وعمليّة التّعلّم. في الشّبكات الاصطناعيّة، تتمّ محاكاة عمل الخلايا العصبيّة بواسطة مكوّنات الحاسوب: يمكن للعقد في الشّبكة أن تتلقّى وزنًا معيّنًا يمثّل قوةً الاتّصال بين الخلايا. إنّ تغيير قوّة الاتّصال استجابةً لمحفّز خارجيّ، يسمح للشّبكات العصبيّة الاصطناعيّة بالتّعلّم. وهكذا، بدلًا من استخدام البرمجة "العاديّة"، وهي نوع من "وصفة" ينفّذها الحاسوب حتّى الحصول على نتيجة، بالإمكان تعليم الحاسوب وتعليم الشبكة العصبيّة الاصطناعيّة، أداء المهام الّتي يصعب توصيفها باستخدام تعليمات واضحة لبرامج عاديّة. هذه المهام قد تكون مهمّة تعرُّف على وجه، تشخيص أورام سرطانيّة، أو تمييز القطّ الفارسيّ عن قطّ الأنجورا. على عكس برامج الحاسوب العادية، يمكن للشّبكات العصبيّة الاصطناعيّة أن تتعلّم من خلال الأمثلة كيفيّة أداء مهام معيّنة، حتّى لو لم نعرف كيفيّة تحديد القواعد الخاصة بذلك. مع ذلك، فإنّ المحاولات الأولى لتطوير مثل هذه الشبكات لم تنجح. هُجِر هذا المجال لفترة معينة، ثمّ بدأ يستفيق من جديد في الثّمانينات، بعد عدّة اكتشافات جديدة.


ترتبط كلّ "خلية" بجميع الخلايا الموجودة في الطّبقة التي فوقها والطّبقة الّتي تحتها. رسم تخطيطيّ لشبكةٍ عصبية اصطناعية | رسم: THOM LEACH / SCIENCE PHOTO LIBRARY

جون هوبفيلد، المولود في عام 1933، عمل بصفته دكتور في الفيزياء في مختبرات بيل، ثم عمل فيما بعد باحثًا في جامعة برينستون. في عام 1980، عُيّن أستاذًا للكيمياء والبيولوجيا في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا (Caltech)، حيث سعى هناك إلى الجمع بين الفيزياء والأنظمة البيولوجيّة، والبحث في تطوير شبكة عصبيّة محوسبة. بإيحاء من أنظمة مغناطيسيّة حيث المكوّنات المتجاورة تؤثّر على بعضها البعض، طوّر هوبفيلد شبكة عصبيّة اصطناعيّة، جميع الخلايا فيها مترابطة مع بعضها البعض، على عكس الشبكات المعتادة، حيث تكون فيها طبقات من الخلايا مرتبطة ببعضها البعض في عمود. وقد نسب طاقة معيّنة إلى كلّ اتّصال بين الخلايا، وقام بوزن جميع الاتّصالات لحساب طاقة النّظام بأكمله. إلى هذه الشّبكة، المعروفة باسم "شبكة هوبفيلد"، بالإمكان إدخال صورة ثم تغيير وزن الاتّصالات بين الخلايا، من أجل الحصول على الحدّ الأدنى من الطّاقة. وعند تغذية صورة أخرى للشّبكة، يجرى تغيير في قيم الخلايا للحصول على الحدّ الأدنى من الطاقة في الحالة الجديدة، وهكذا دواليك. بالتّالي، فهي قادرة على "تذكّر" وإعادة تقديم الصورة أو الصور الأصلية التي تمّ تدريبها على تذكّرها، وكذلك تحديد تفاصيل معلوماتيّة أو تفاصيل الصّورة أو النّصّ، وفقًا لتفاصيل مماثلة، على غرار ذاكرتنا الترابطيّة. وكانت الشبكة التي طوّرها في عام 1982 واحدة من أولى النّجاحات المهمّة في هذا المجال.

وعلى أساس شبكة هوبفيلد، طوّر جيفري هينتون تحسين يسمّى "آلة بولتزمان". هينتون، الذي ولد في لندن عام 1947، درس علم النفس ثمّ حصل على الدكتوراه في علم الحاسوب، لكنّه وجد صعوبة في الحصول على تمويل في بريطانيا لإجراء أبحاث حول الشّبكات العصبيّة، فانتقل إلى الولايات المتحدة، وبعدها إلى جامعة تورنتو في كندا. دأب على تطوير مجال الفيزياء الإحصائية، وبالتحديد على توزيع بولتزمان، والذي حين يكون في نظام كبير، مثلًا تريليونات من جزيئات الغاز، فإنّه يسمح بحساب احتمال أن يكون لجزيء معيّن سرعة معينة، بناءً على الحجم ودرجة الحرارة والضّغط في النّظام بأكمله. وفي عام 1986 قدّم شبكته العصبيّة الاصطناعيّة التي يمكن عرض الصّور لها، وتحديث قيم قوّة الاتّصالات بين "الخلايا" وفقًا لذلك. وبعد تكرارات كافية، تصل إلى حالة تظلّ فيها الخصائص العامّة للآلة، والتي تتوافق مع الخصائص العامّة لنظام الغاز، ثابتة حتّى عند تقوية أو إضعاف اتّصالات معيّنة. حينها تُنتج صورة جديدة من حالتها تختلف عن الصّور التي تدرّبت عليها الشّبكة، ولكن بأسلوب مماثل. آلة بولتزمان هي المثال المبكّر للذّكاء الاصطناعيّ الخلّاق. على الرّغم من أنّها غير فعّالة وتتطلّب وقتًا حسابيًّا طويلًا جدًّا، إلّا أنّها أدّت إلى ظهور نماذج إنتاج الصّور والنّصوص التي نعرفها اليوم.


ترتبط كلّ خليّة في الشّبكة العصبيّة الاصطناعيّة بجميع الخلايا الأخرى، بحيث يمكن وزن طاقة جميع الاتّصالات. وصف تخطيطيّ لآلة بولتزمان | رسم: Gossamer, Wikipedia, Public Domain

الذكاء الاصطناعيّ والبروتينات

إذا كانت الجائزة في الفيزياء لسنة 2024 قد منحت لاستخدام المبادئ الفيزيائيّة لتطوير الشبكات العصبيّة الاصطناعيّة، والتي منها طُوّرت أدوات الذكاء الاصطناعي الحديثة، فإنّ الجائزة في الكيمياء تُمنح للباحثين الذين ساهموا بهذه التقنيات نحو إنجازات علميّة جديدة، والإنجاز بهذا الصّدد - فكّ رموز المبنى الفراغي للبروتينات، وتخطيط البروتينات الاصطناعيّة.

البروتينات هي جزيئات تتكوّن من سلاسل طويلة من الأحماض الأمينيّة، وهي تؤدّي مجموعة كبيرة ومتنوّعة من الأدوار داخل الكائنات الحيّة. تتكوّن الخلايا في جسمنا إلى حدّ كبير من البروتينات، وتنتج البروتينات التي تتيح لنا أنشطة الحياة. لن نتمكّن من التنفّس دون بروتين الهيموجلوبين الذي ينقل الأكسجين إلى الخلايا؛ لن يكون بإمكاننا أن نأكل من دون الإنزيمات الهاضمة، وهي البروتينات التي تحلّل الطعام؛ لن نكون قادرين على محاربة العدوى من دون الأجسام المضادّة، والتي هي عبارة عن جزيئات بروتينيّة؛ ولن نكون قادرين على النّموّ والتّكاثر بدون الإنزيمات البروتينيّة التي تنسخ مادّتنا الوراثيّة.

تتكوّن المجموعة الواسعة من البروتينات في الطبيعة من تركيبات مختلفة لـ 20 حمضًا أمينيًّا في الإجمال. كلّ بروتين عبارة عن سلسلة طويلة من مئات أو آلاف الأحماض الأمينيّة بترتيب معيّن تُمليه الجينات. بعد أن ترتبط الأحماض الأمينيّة معًا مثل الخرز، تنطوي السلسلة مشكّلةً بنية ثلاثية-الأبعاد ذات تركيب معقد. داخل هذه البنية، الخرزات التي كانت متباعدة في السلسلة تجد نفسها فجأةً قريبةً من بعضها البعض، وعليها أن تتلاءَم مع بعضها البعض من حيث الشحنة الكهربائيّة، والذوبان، والبنّيّة الفراغيّة وغير ذلك من أمور. لا تؤثّر التفاعلات بين الأحماض الأمينيّة على البنية فحسب، بل تؤثّر أيضًا على وظيفة مناطق معيّنة في البروتين. ولذلك فإنّ البنية ثلاثيّة-الأبعاد الصّحيحة ضرورية لوظيفة البروتين: إذا طُيّ بشكل غير صحيح، فإنّه غالبًا لن يعمل بشكل صحيح، وسيُرسل لإعادة التدوير.

إنّ فهم البنية الفراغيّة ثلاثية-الأبعاد للبروتين هي أمرٌ مهمٌ جدًّا للعلوم والطبّ والصّناعة وغيرها من المجالات. على سبيل المثال، إذا كنّا نرغب في تطوير دواء من شأنه أن يحيد وظيفة إنزيم معيّن، فعلينا أن نعرف كيف هو مبنيّ وكيف يعمل، وذلك من أجل تطوير مادّة تستطيع أن ترتبط به بشكل فعّال، أو ترتبط بطريقة أفضل منه مع مستقبلات معيّنة.

يُعد فكّ رموز بنى البروتينات ثلاثية-الأبعاد مُهمّة معقدة. في الماضي، كانت الطّريقة الوحيدة للقيام بذلك هي مبحث تصوير البلّورات بالأشعّة السينيّة، أي إنتاج بلورات من البروتين، وتشعيعها بالأشعّة السينيّة ودراسة نمط توزيع الأشعّة في البلّورة بمساعدة المجهر الإلكترونيّ. لفهم بنية بروتين معيّن باستخدام هذه الطرق، تطلّب الأمر في بعض الأحيان عدّة سنوات من العمل وأجهزة معقّدة ومُكلفة والكثير من الحظّ - ولم يتمكّن الباحثون من بلورة جميع البروتينات.

اليوم، يمكننا بسهولة نسبيًّا تحديد تسلسل الأحماض الأمينيّة لكلّ بروتين، لكن مُهمّة استنتاج البنية ثلاثيّة-الأبعاد بناءً على التّسلسل وحده هي مهمّة صعبة للغاية، نظرًا للعدد الهائل من مجموعات التسلسل والطيّات المُحتملة. مع مرور الوقت، تطوّر ما يشبه السّباق بين المختبرات الأكاديميّة، وكذلك الشركات التجاريّة، في محاولة لتطوير طرق لتحديد البنية ثلاثيّة-الأبعاد للبروتين وفقًا لتسلسل الأحماض الأمينية، بمساعدة البرامج التي طُوّرت لهذه الغاية خصّيصًا. في التسعينيّات، بادرت شركة جوجل إلى إقامة مسابقة لمدّة عامين، بين المجموعات التي تنافست فيما بينها في التنبّؤ ببنية البروتينات التي لم يفكّ تركيبها الفراغيّ بعد. وفي الوقت ذاته، حُلّت رموز بنية البروتينات باستخدام طرق تجريبيّة، وفحصوا إلى أيّ مدى كانت تنبّؤات البرامج قريبة من البنية الصحيحة.

في المسابقات الأولى، تمكّنت البرامج من الوصول إلى دقّة تبلغ حوالي 40 بالمئة في التنبّؤ بالبنية، ولكن مع نهاية العقد الماضي، فإنّ منافسًا جديدًا من السوق الخاصّة رفع نسبة الدقة. برنامج ألفافولد (AlphaFold) التابع لشركة Deepmind شارك لأوّل مرّة في المسابقة في عام 2018، ووصل إلى دقّة 60 بالمئة في بنية البروتين، ثمّ في عام 2020 ارتفعت الدقّة إلى أكثر من 90 بالمائة.

تأسّست الشركة في عام 2010 على يد ديميس هاسابيس (Hassabis)، المولود في عام 1976، وهو عالم حاسوب بريطاني حاصل على درجة الدكتوراه في علم الأعصاب. كان هدف الشركة في الأساس تطوير ذكاء اصطناعي يمكّنها من المنافسة في الألعاب المعقّدة مثل الشطرنج، لكنّها دخلت عميقًا في مجال التنبّؤ ببنية البروتينات، والفضل في ذلك يعود جزئيًّا إلى جون جامبر (Jumper)، المولود عام 1985، والذي حصل على درجة الدكتوراه في علوم الحاسوب قبل انضمامه إلى الشركة وقيادة فريق ألفافولد.

يستخدم البرنامج قاعدة البيانات الكبيرة لبِنيات (هياكل) البروتين التي تجمّعت على مدار ما يقارب المئة عام، ويستخدمها للتنبّؤ بكيف يُطوى البروتين في شكله ثلاثي-الأبعاد. في المرحلة الأولى، تقوم خوارزميّتها بمقارنة تسلسل البروتين المستهدف مع تسلسل البروتينات الأخرى، وفي المرحلة الثانية، يتحقّق البرنامج من مؤشّرات إضافيّة، مثل المناطق المحفوظة في التسلسل، التي لم تتغيّر تقريبًا طوال التطوّر، وبالتالي فهي موجودة في بروتينات أخرى مماثلة. تساعد هذه المعلومات في تركيب صورة ثنائيّة-الأبعاد للبروتين، ويقارنها البرنامج بقاعدة بيانات تحوي بِنيات لأكثر من 180 ألف بروتين معروفة للعلم. بمساعدة المقارنة مع البنيات المماثلة، يتعلم البرنامج كيفيّة التحسين للوصول إلى أقصى مستوى من الدّقة. على هذا التّطوير، الذي دفع بالتّنبّؤ ببنية البروتينات إلى الأمام، تقاسم هيسبيس وجمبر نصف الجائزة في الكيمياء.


نجاح كبير في حلّ رموز البنية ثلاثية-الأبعاد للبروتينات وفقًا لتسلسل الأحماض الأمينيّة الخاصّة بها. رسم توضيحيّ للبنية ثلاثيّة-الأبعاد وطريقة حلّ الرموز لـ AlphaFold | من الورقة البحثيّة التي أعدها جمبر وزملاؤه، Wikipedia, CC BY 4.0

أما النصف الثاني من الجائزة فكان من نصيب ديفيد بيكر (Baker) من جامعة واشنطن. قام بيكر، المولود في عام 1962، بتطوير برنامج أوّليّ في التسعينيات يسمّى روزيتا للتنبّؤ بالبنية ثلاثيّة-الأبعاد للبروتينات. أدرك هو وزملاؤه أنّه يمكن أيضًا تسخير البرنامج للقيام بالغرض العكسيّ: منحه البنية ثلاثيّة-الأبعاد للبروتين المطلوب، والحصول على تسلسل الأحماض الأمينية المحتمل اللازم لإنتاجه. وبالفعل، في عام 2003، أتاح البرنامج التنبّؤ بتركيبة لبروتين ذي مبنى ابتكره الباحثون بأنفسهم، والذي هو بروتين غير موجود في الطبيعة، ثم في الخطوة التالية أنتجوا البروتين الاصطناعي، وبمساعدة القياسات البلّوريّة وجدوا أنّ بنيته تطابقت مع تلك التي أُدخلت في البرنامج.

وهكذا وُلد مجال بحثيّ جديد لتطوير البروتينات الصناعيّة. فهو يتيح إنشاء بروتينات جديدة تمامًا ذات خصائص محدّدة مسبقًا، مثل البروتين الذي يربط جُزيء أفيوني، أو بروتينات المحركات الجزيئيّة، أو بروتينات اللقاحات، أو الإنزيمات الخاصّة التي يمكنها إنتاج جزيئات جديدة.

بعد نجاح ألفافولد (AlphaFold)، أدرك بيكر أهمّيّة الذكاء الاصطناعيّ وإمكانيّاته. وأضاف هو وزملاؤه لروزيتا نموذج ذكاء اصطناعيّ مشابه لألفافولد، ممّا أدّى إلى تحسين قدرتها بشكل كبير على تصميم بروتينات جديدة. وفي عام 2008، حصل بيكر على جائزة ساكلر من جامعة تل أبيب على عمله في هذا المجال.


من حلّ رموز بنية البروتينات الطبيعية إلى تصميم البروتينات الصناعية: جون جمبر (من اليمين)، ديميس هيسبيس، وديفيد بيكر | الصور: TWIS, National Academies - Earth and Life Studies, Duncan.Hull , Wikipedia  TWIS

جزيء صغير ذو تأثير كبير

جائزة نوبل في الطب هي الجائزة العلميّة الوحيدة من جوائز نوبل للعام المنصرم والتي لا تتعلّق بالذكاء الاصطناعيّ، ولكنها مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بإنتاج البروتينات. مُنِحت إلى غاري روفكون (Ruvkun) وفيكتور أمبروس (Ambros) لاكتشافهما الميكروRNA (microRNA) ودوره في الرّقابة على التّعبير الجينيّ.

البروتينات، كما ذكرنا، تُنتج من سلسلة من الأحماض الأمينيّة. كيف يعرف الريبوسوم، الآلة التي تركّب البروتينات، ما هو التّسلسل الصّحيح؟ وفقًا لتسلسل الحمض النوويّ في نواة الخليّة. جزء كبير من الموادّ الوراثيّة لدينا هي مجرّد تعليمات لصنع البروتينات. عندما تحتاج الخليّة إلى إنتاج بروتين معيّن، فإنّها تخلق "نسخة عمل" من الحمض النوويّ، من مادّة مماثلة، RNA. تسمّى هذه النّسخة messenger RNA، أو mRNA (الحمض النوويّ الريبوزي المرسال)، لأنّها تترك نواة الخلية، وتلتصق بالريبوسوم، وتعمل كقالب يُنتج من خلاله البروتين.

تحتوي كلّ خلية في الجسم تقريبًا على نسخة كاملة من الحمض النوويّ الخاصّ بنا، والتي تتضمّن تعليمات لبناء جميع البروتينات. ولكن لا تصنع كلّ خلية جميع البروتينات، ففي الخليّة العضليّة، تُنتج البروتينات الّتي تشكّل الألياف القادرة على الانقباض، وفي شبكيّة العين تُصنع البروتينات الّتي تغيّر شكلها استجابةً للضّوء، وفي الخلايا العصبيّة تُصنع البروتينات التي تُمكّن من نقل الإشارات الكهربائيّة، وهكذا دواليك في جميع أنواع الخلايا العديدة في أجسامنا. كيف تعرف الخليّة أنّها يجب أن تكون خليّة عضليّة، على سبيل المثال، وتنتج البروتينات وفقًا لذلك؟ اكتشف أمبروز وروبكون إحدى الآليّات الّتي تضمن أن تنتج كلّ خلية البروتينات التي تحتاجها فقط.

منذ سنوات الستينيات، اكتشف الباحثون أنّ هناك بروتينات خاصّة قادرة على تنظيم حجم إنتاج بروتينات إضافية في خلية معينة. سُميّت هذه البروتينات بعوامل النسخ (transcription factors)، لأنها تلتصق بأماكن معينة في الحمض النووي وتؤثر على فرصة نسخ جين معيّن إلى الحمض النوويّ الريبوزي المرسال (messenger RNA)، وفي النهاية فإنّ الخليّة تُنتج البروتين وفقًا لذلك. لسنوات عديدة، كان الافتراض السّائد أنّ هذا هو العامل الرئيسيّ الذي ينظّم إنتاج البروتينات في الخلايا.

في أواخر الثمانينيّات، كان أمبروز وروبكون معًا في تدريب ما بعد الدكتوراه في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT)، في مختبر روبرت هورفيتز (Horvitz)، الحائز لاحقًا على جائزة نوبل في الطب. روبكون، المولود في كاليفورنيا عام 1952، جاء إلى هناك بعد حصوله على الدكتوراه من جامعة هارفارد، بينما أمبروز، المولود عام 1953 في نيو هامبشاير، بقي في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا بعد حصوله على الدكتوراه هناك في عام 1979. درس الاثنان التطوّر الجنينيّ، بحثًا عن الجينات المتخصّصة في إنتاج أنواع جديدة من الخلايا. أجريا البحث على ديدان مستديرة صغيرة من نوع C. elegans، والتي تستخدم كحيوانات نموذجية للعديد من الدراسات في علم الوراثة. قام كلّ منهما بدراسة جين مختلف أثّر على توقيت العمليّات التطوّرية في الدودة، وفي النهاية اكتشفا أن الجينين lin-4 وlin-14 هما المسؤولان عن إنتاج جزيئات الحمض النوويّ الريبوزي التكميلية - أيّ، يمكنهما أن يقترنا ببعضهما البعض. يمنع الاقتران الريبوسوم من قراءة الحمض النوويّ الريبوزي (RNA) لـ lin-14 وإنتاج بروتين بحسبه، وبإمكانه أيضًا تسريع تفكيك الحمض النووي الريبوزي المرسال لهذا الجين.


عملا معًا وبالتوازي، واكتشفا جزيئات الحمض النووي الريبوزي (RNA) الصغيرة، التي يتمثل دورها في تنظيم إنتاج البروتينات. غاري روبكون (من اليمين) وفيكتور أمبروز | الصور من: Rosalindclee, Adam Fagen, Wikipedia

وهكذا اكتشف الباحثون نوعًا جديدًا من الحمض النوويّ الريبوزيّ - micro-RNA وهي جزيئات صغيرة لا تحتوي على تعليمات لإنتاج البروتين، ودورها هو تنظيم إنتاج البروتينات الأخرى. على عكس عوامل النسخ البروتينيّة، تعمل جزيئات الـ microRNA بعد أن يكون الحمض النوويّ الريبوزيّ المرسال للجينات الأخرى قد كُوِّن، وتمنع إنتاج البروتين بناءً عليه. بهذه الطريقة يمكن للخلية أن تقوم بردّ فعل سريع عند الحاجة، وتوقّف إنتاج البروتينات بعد أن يكون الحمض النوويّ الريبوزي المرسال الخاصّ بها قد نُسِخ. على سبيل المثال: إذا ارتفعت درجة حرارة الجسم فإن الخلايا قد تُنتج بروتينات تحمي الحمض النووي من الاحترار، ولكن عندما تنخفض درجة الحرارة، عليها أن تتوقّف عن القيام بذلك بسرعة حتّى لا تهدر الموارد على حمايةٍ غير ضروريّة. نشر أمبروز وروبكون النتائج التي توصّلا إليها في ورقتي بحث متجاورتين، الأولى والثانية، في عام 1993.

في البداية، اعتقد الكثيرون أنّ الآليّة الجديدة كانت خاصّة بالديدان التي درساها، ولكن وفي عام 2000، اكتشف روبكون وزملاؤه micro-RNA جديدًا، let-7، وهو موجود في جينومات العديد من الحيوانات. كان ذلك عمليًّا إشارة إلى أن الـ microRNA هو عبارة عن آليّة شائعة؛ وفي غضون سنوات قليلة، اكشتفت المئات من جينات الـ microRNA. من المعروف اليوم أنّ هذه الآليّة موجودة في جميع الكائنات متعددة الخلايا، ولا يقتصر وجودها داخل الحيوانات فقط، بل أيضًا في النباتات والفطريّات، ويبدو أنّها ضروريّة لتطوّرها.

لقد علّمتنا دراسة الـ micro-RNA الكثير عن رقابة إنتاج البروتينات في الخلايا، وهي تسمح لنا بالتحقّق ممّا يحدث عندما لا تعمل هذه الآلية بشكل صحيح. إنّ عملًا غير صحيح للـ micro-RNA بإمكانه أن يسبّب العديد من الأمراض، بما في ذلك السرطان، وأن يسبّب مشاكل في بنية الهيكل العظميّ والأعضاء المختلفة، وأكثر من ذلك. وإن كان نقصان في الـ micro-RNA أو فائض منه يؤدّيان إلى حدوث أمراض، فقد يكون من الممكن تطوير علاجات تعتمد على تلك الجزيئات الصغيرة.

من بين الجوائز العديدة التي مُنحت لهما، حصل روبكون وأمبروز في عام 2014 على جائزة وولف، مع الباحث الإسرائيليّ السابق ناحوم زونينبرغ. قبلها بثلاث سنوات، حصل روبكون في إسرائيل أيضًا على جائزة دان ديفيد الممنوحة في جامعة تل أبيب، مع عالمة الأحياء سينثيا كينيون (Kenyon).

تجدر الإشارة، ولشدّة الأسف، إلى أنّه وفي هذا العام لم تكن هناك امرأة بين الفائزين بجوائز العلوم، وذلك بعد عامين متتاليين حصلت فيهما نساءٌ على هذه الجائزة المرموقة.


الجزيء الذي يوضّح مدى شيوع الحمض النوويّ الريبوزي الدقيق (micro RNA) في جميع الكائنات متعدّدة الخلايا. تم اكتشاف microRNA يسمى Let-7 عام 2000 | رسم: CAROL AND MIKE WERNER / SCIENCE PHOTO LIBRARY |

الفجوات والصدمات

منحت جائزة ألفريد نوبل في الاقتصاد لثلاثة باحثين من الولايات المتحدة، هم دارون عجم أوغلي (Acemoglu)، وسيمون جونسون (Johnson)، وجيمس روبنسون (Robinson)، وذلك عن سلسلة دراسات تناولت أسباب التفاوت الاقتصاديّ بين الدول، وأظهرت أهمّيّة المؤسّسات الاجتماعيّة للتنمية الاقتصاديّة وازدهار الدول.

أما جائزة نوبل في الأدب للعام 2024 فقد منحت لهان كانغ (Han) كاتبة وروائية وشاعرة كورية جنوبية. أصدرت 13 كتابًا نثريًا وشعريًا، تتناول من بين العديد من الأمور كيفية التعامل مع الأزمات والصدمات، على المستوى الشخصي وعلى المستوى القومي. كتابها الوحيد المترجم إلى العبرية "النباتية"، يتناول حياة زوجة مطيعة تقرّر التوقف عن أكل اللحوم، بل وحتى طهي اللحوم لزوجها. وجاء في أسباب منح الجائزة من قبل اللجنة أنّ الكاتبة المولودة في عام 1970، تحصل على الجائزة عن "نثرها الشعري المكثف، الذي يواجه الصدمات التاريخية، ويكشف عن هشاشة الحياة الإنسانية".


 "هيباكوشا" - لقب ياباني للناجين من القصف النووي، يروي للشباب ما حدث، ضمن نشاط منظمة "نيهون هيدانكيو" عام 2007 | تصوير: Buroll، ويكيبديا، ملكية عامة

كذلك كانت جائزة نوبل للسلام للعام 2024 مرتبطة بالتعامل مع الصدمات، وكانت من نصيب منظمة نيهون هيدانكيو اليابانية (Nihon Hidankyō)، وهو اختصار يابانيّ لاسمها الكامل "الاتّحاد اليابانيّ لمنظّمات ضحايا القنبلة الذرية والهيدروجينية". وتمثّل المنظمة، التي تأسست عام 1956، الناجين من إلقاء القنابل النووية على مدينتي هيروشيما وناكازاكي اليابانيتين في أغسطس 1945، وهي القنابل التي أنهت الحرب العالميّة الثانية. كما أنه يضمّ ضحايا التجارب النوويّة التي أجرتها الولايات المتّحدة في الخمسينيّات من القرن الماضي في جزر بيكيني في المحيط الهادئ. أعلنت لجنة الجائزة أنّ المنظمة تحصل على الجائزة "لجهودها الرامية إلى تحقيق عالم خالٍ من الأسلحة النووية وإثباتها من خلال إفادات الشهود أنّه لا ينبغي استخدام الأسلحة النوويّة مرّة أخرى أبدًا".

0 تعليقات