أعمال تنقيب بعمق خليج المكسيك تحاول الكشف عمّا إذا كان ارتطام نيزك قد تسبّب فعلًا بالانقراض الواسع للأجناس قبل 65 مليون سنة
في السّادس عشر من شهر آذار الجاري (آذار 2016), ستبدأ مجدّدًا أعمال تنقيب في خليج المكسيك، غير أنّ في هذه المرّة الهدف من ذلك هو ليس الكشف عن مصادر نفطيّة جديدة. سيقوم علماء من المؤسّسة الدّوليّة لبحث المحيطات (IODP) بالإشراف على أعمال التّنقيب باتّجاه فوّهة تشيكشولوف (Chicxulub crater) - وهي فوّهة دائريّة يبلغ قطرها حوالي الـ 180 كيلومترًا، ويقع معظمها تحت البحر.
تشكَّلت الفوّهات الّتي نعرفها في النّقب من تحرّكات جيولوجيّة، لكن فوّهة تشيكشولوف مختلفة تمامًا، فقد تشكّلت قبل ما يقارب الـ 65 مليون سنة نتيجة ارتطام نيزك بالكرة الأرضيّة. وقد اشتهرت الفوّهة في تسعينات القرن الماضي بعد فرضيّة أنّ ارتطام النّيزك الّذي أدّى إلى تكوينها؛ قد تسبّب بانقراض أجناس عديدة، فيما بينها الدّيناصورات. على الرّغم من تثبيت الفرضيّة على مرّ السّنين، إلّا أنّها ما تزال تثير الكثير من النّقاش في الأوساط العلميّة، حيث أنّ أحد أهداف البحث الحاليّ هو اختبار مدى صحّتها. بالإضافة إلى ذلك، يسعى الباحثون لفهم العمليّة الّتي تؤدّي إلى تكوين الفوّهات في أعقاب اصطدام النّيازك.
ستُجرى عمليات التّنقيب في أعماق البحر حيث يقع مركز إصابة النّيزك. كشفت الحسابات أنّ صخرة من الفضاء ذات قطر يساوي حوالي عشرة كيلومترات تقبع في مركز الإصابة، الّتي كان تأثيرها أقوى بنحو بليون مرّة من القنبلتين الذّريّتين اللّتين أُلقيتا على هيروشيما وناغازاكي عام 1945. وقد أدّى سقوطها في البحر إلى تكوين موجات تسونامي عظمى، وسحابة من الرّماد والغازات الّتي انتشرت بأجزاء كبيرة من الكرة الأرضيّة.
أحد الأدلة الرئيسيّة على إصابة النيّزك هو تواجد طبقة رقيقة من العنصر المعدنيّ إيريديوم، والّتي تقع بين طبقات يعود تاريخها إلى فترة تشكيل الفوّهة. وبسبب ندرة وجود عنصر الإيريديوم على الكرة الأرضية وشيوعه في النّيازك، يربط العلماء بين الانفجار الهائل النّاجم عن ارتطام النّيزك وانتشار غبار الإيريديوم في أنحاء الكوكب.
في عام 1980، وقبل اكتشاف الفوّهة في خليج المكسيك، نشر الفيزيائي الأمريكيّ لويس ألفاريز (Alvarez) وابنه العالم الجيولوجيّ والتر ألفاريز مقالًا يزعمان فيه أنّ ارتطام نيزك قد تسبّب في انقراض واسع للأجناس منذ حوالي 65 مليون سنة. وفقًا لهم، دمّرت الكارثة 85 بالمائة من الحياة على الكرة الأرضيّة، بما في ذلك معظم أنواع الدّيناصورات. استندت ادّعاءاتهم على العلاقة بين وجود طبقة الإيريديوم واختفاء معظم أنواع المتحجّرات في الطّبقات الأرضيّة، إلى جانب اكتشافات أخرى كالتّغييرات في مبنى صخور المرو (الكوارتز)، على الأرجح بسبب الحرارة الشّديدة الّتي ولّدها ارتطام النّيزك.
على مرّ السّنين، تراكمت أدلّة تدعم هذه الإدعاءات. يعتقد العلماء أنّ سحابة الرّماد والغازات كانت مدمّرة للحياة على الكرة الأرضيّة، لأنّها أدّت إلى حجب الشّمس وتكوين غيوم المطر الحمضيّ، كما رفعت تركيز ثاني أكسيد الكربون وغيرها. وأدّت هذه الظّروف إلى الإضرار بالقدرة الإنتاجيّة للنّظم البيئيّة وإلى ركودها تدريجيًّا.
مع انتشار الفرضيّة القائلة بأنّ انقراض الأجناس يعود إلى ارتطام نيزك، نشأت نظريّات معارضة. هذه النّظريّات ترجّح أنّ التّأثير المباشر للارتطام لم يدم سوى عقدًا من الزّمن -والّذي يعتبر مدّة زمنيّة قصيرة جدًّا في معيار الزّمن الجيولوجيّ- وأنّه من الصّعب تحديد تأثير هذه الفترة القصيرة على طبقات تنشأ خلال ملايين السّنين.
إذا ما كانت التّغيّرات البيئيّة الجذريّة النّاجمة عن تأثير الارتطام قد تسبّبت بانقراض الأجناس بالفعل، فكنّا لنتوقّع أن نرى اختفاءً سريعًا لجميع الأجناس الرّئيسيّة -كما حدث للدّيناصورات- لأنّها عادةً أوّل ضحايا التّغيّرات البيئيّة في الموطن. ومع ذلك، فإنّ التّغيّرات الّتي نراها في طبقات المتحجّرات أكثر اعتدالًا، وتمتدّ على عشرات الآلاف بل ربّما مئات الآلاف من السّنين. كما وأظهر الباحثون أنّ الانفجارات البركانيّة الكبيرة في المنطقة الّتي تقع بها الهند اليوم، والّتي استمرّت على مدار عشرات الآلاف من السنين، كان من الممكن أن تسبب ضررًا ليس أقلّ خطورةً للحياة على الكرة الأرضيّة.
كالحجر في الماء
ستمكِّننا أعمال التّنقيب الّتي ستبدأ هذا الشّهر من اختبار الفرضيّة باستخدام عيّنة من الصّخور المتواجدة في مركز الفوّهة. حتّى الآن، جميع العيّنات أخذت من مناطق بعيدة عن مركز الفوّهة، لكن مركز الفوهّة يوفّر فرصة نادرة للحصول على أدلّة مباشرة من مكان ارتطام النّيزك.
سيبدأ التّنقيب بعمق 17 مترًا تحت مستوى سطح البحر، وسيتعيّن مروره عبر حوالي 500 مترًا من الصّخور الطّباشيريّة حديثة التّكوين، قبل أن تبلغ أعمال الحفر الفوّهة نفسها. ثمّ سيقوم الباحثون بجمع عيّنات متباعدة مقدار ثلاثة أمتار عن بعضها البعض، حيث يأملون في الوصول إلى عمق كيلومتر آخر تحت الطّبقة الطّباشيريّة. بالإضافة إلى محاولتهم باستخلاص متحجّرات وعينّات حمض نوويّ من الصّخور، والّتي من الممكن أن تشير إلى الكائنات الحيّة الدّقيقة الّتي تمكّنت من العيش في فترات ما بعد الارتطام، وأن تساهم في فهم تكوين المجموعات السّكنيّة في تلك الفترات.
من المتوقّع أن تستمرّ أعمال التّنقيب إلى شهرين، وتقدّر تكلفة العمليّة بعشرة ملايين دولار، بتمويل من ال IODP والمؤسّسة الدّوليّة للتّنقيب العلميّ. إلى جانب مسألة الانقراض، يحاول الباحثون معرفة الطّبيعة الجيولوجيّة للفوّهة الّتي نشأت. يدور الحديث عن مبنى مميّز للفوّهة والّذي يؤدّي إلى تصرّف الصّخور كالسّوائل نتيجة لقوّة الارتطام. فعلى سبيل المثال، عند رمي حجر في الماء، تنتج شاهقة مائّية (عمودًا من الماء) في مكان إصابة الحجر، فيما تتكوّن حوله دوّامات دائريّة . لكن في فوّهة تشيكشولوف، يعتقد أنّ الارتطام أدّى إلى إنتاج دعامة من صخر الجرانيت الّتي انهارت إلى داخل نفسها خلال وقت قصير جدًّا، مكوّنة مبنى يُسمى بحلقة الذّروة أو Peak ring. خلال عمليّات الحفر، سيقوم الباحثون بفحص دقيق لتكوين الصّخور لإيجاد أدلّة تؤكّد إنتاج مبنى كهذا.