بحث جديد: التواصل بين حيتان العنبر أكثر تعقيدًا ممّا كنّا نعتقد، ويشمل ما يكفي من الأصوات المختلفة لتكون أساسًا للّغة
تعتبر حيتان العنبر (Physeter macrocephalus- باللاتينيّة: الحيتان ذوات الرأس الكبير) أكبر الحيوانات المفترسة في العالم، بحيث يمكن أن يصل طولها إلى حوالي 16 مترًا، وتغوص إلى عمق أكثر من كيلومترين بحثًا عن فرائسها، الأخطبوطات والحبار. كما يشير اسمها، فإنّها تتميّز برأس كبير- يشكّل حوالي ثلث طول جسمها.
في الأعماق ما تحت سطح البحر، تعيش هذه المخلوقات العملاقة حياة اجتماعيّة متطوّرة، ولا نعرف عنها سوى القليل. تعيش هذه الحيتان في "قبائل" كبيرة تضمّ أحيانًا آلاف الأفراد، وعادة ما يبقى كلّ حوت في القبيلة الّتي وُلد فيها. تسبح الحيتان من نفس القبيلة معًا، وتصطاد معًا، ويبدو أنّها تتعاون في تربية نسلها.
عندما يلتقي حوت مع آخر من قبيلته، يتواصل الاثنان مع بعضهما باستخدام لغة تتكوّن من تسلسلات من النقرات السريعة، والّتي تُسمَّى "كودا" (Coda). تتكوّن كلّ كودا من تسلسل يتراوح بين ثلاث إلى أربعين نقرة، مع وجود مسافات مختلفة بينها. تستمرّ معظم الكودات لأقلّ من ثانيتين، بينما قد تستمرّ المحادثات الّتي تجريها الحيتان لأكثر من ساعة. في بعض الأحيان، يصدر أحدهما أصواتًا بينما يستمع الآخر، وفي كثير من الأحيان يقومون بذلك معًا. أوضح الباحث الأمريكيّ شين جيرو (Shane Gero) المتخصّص في مجال الحيتان، في مقابلة مع الإذاعة العامّة الأمريكيّة، NPR أنّه "في مجتمع الحيتان، لا يعتبر التحدّث في نفس الوقت أمرًا وقحًا".
تتميّز كلّ قبيلة بلهجتها الخاصّة، مع استخدام كودات مختلفة. في المجموع، حدّد الباحثون حوالي 150 كودا في جميع القبائل الّتي تمّت دراستها، وفي القبيلة الّتي تعيش في البحر الكاريبيّ- 21 كودا فقط. إذا قارنّا تواصل الحيتان مع لغة الإنسان، فإنّ هذه القبيلة تمتلك لغة مكوّنة من 21 كلمة، ما يبدو غير كافٍ للتواصل الحقيقيّ.
أضافت الباحثة بارتيوش شارما (Paritosh Sharma)، والمتخصّصة في الحيتان من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في الولايات المتّحدة، في مقابلة مع "ناشيونال جيوغرافيك": "إذا استمعت إلى أصوات حيتان العنبر، أو حتّى قمت بإنشاء رسوم بيانيّة للموجات الصوتيّة كما تمّ إنشاؤها في دراسات سابقة، فسيبدو لك أنّ الحيتان تصدر نفس الأصوات مرارًا وتكرارًا". هل يمكن أن يكون هناك تعقيد آخر في لغة الحيتان، لم نلاحظه حتّى اليوم؟
هذا ما نُشر في بحث جديد أجراه الباحثان شارما وجارو وزملاؤهما في البحث، حيث أظهروا أنّ للكودات خصائص لم يلاحظها الباحثون السابقون، وعند أخذها في عين الاعتبار، يتبيّن أنّ مجموع الأصوات المختلفة الّتي تصدرها الحيتان أكبر بكثير ممّا كنّا نعتقد، ما يتيح اتّصالًا أكثر تعقيدًا.
مقطع فيديو حيث يتمّ سماع نقر حيتان العنبر:
التواصل المعقَّد والمتناسق
قام الباحثون بفحص الرسوم البيانيّة لـ 8719 كودا تنطق بها الحيتان في البحر الكاريبيّ، والّتي تمّ جمعها باستخدام طرق مختلفة، بما في ذلك أجهزة التسجيل الّتي تمّ تثبيتها بـ 25 حوتًا من الحيتان. وفقًا لتقديراتهم، تشمل هذه القاعدة من البيانات أصوات ما لا يقلّ عن 60 حوتًا.
عندما قاموا بتحليل الكودات بمساعدة خوارزميّات التعلّم الآليّ، وجد الباحثون أنّ الحيتان تغيّر معدّل ومدّة النقرات داخل الكودات، وفي بعض الأحيان تضيف أيضًا نقرة إضافيّة، وهي ميزة أطلقوا عليها اسم "الزخرفة" (ornamentation). بهذه الطريقة يقومون بالفعل بإنشاء عدّة أصوات محتملة من كلّ مقطع، ما يزيد بشكل كبير من تنوّع الأصوات المختلفة.
كما أضافت دانييلا راس (Daniella Rus)، من نفس المجموعة البحثيّة : "تظهر النتائج الّتي توصّلنا إليها أنّ هناك تعقيدًا في التواصل بين حيتان العنبر أكثر بكثير ممّا كان يُعتقد سابقًا. يمثّل هذا تحدّيًا لمعرفتنا الحاليّة بالتواصل في عالم الحيوانات".
وجد الباحثون أنّ استخدام هذه الأصوات المختلفة لم يكن عشوائيًّا. أضافت راس: "بمساعدة التعلّم الآليّ، يمكن التنبّؤ بترتيب الكودات، تمامًا كما يمكن التنبّؤ بتسلسل المقاطع أو الكلمات في الجملة. اتّضح أنّ تواصل الحيتان ليس عشوائيًّا أو بسيطًا، بل هو متناسق إلى حدٍّ ما".
تظهر النتائج أنّ التواصل بينهما أكثر تعقيدًا ممّا كنّا نعتقد. حيتان العنبر| Martin Prochazkacz, Shutterstock
مخلوق ذكيّ ومختلف
هل تقوم الحيتان بتوصيل المعلومات بهذه الأصوات، على غرار ما نفعله عندما نتحدّث مع بعضنا البعض؟ يعتقد العديد من الباحثين أنّ هذا احتمال حقيقيّ. قال جارو إنّه عند النظر في التواصل بين الحيتان، "من الصعب ألّا ترى أبناء العمّ يتحدّثون أثناء اللعب، أو أمّهات يسلّمن أطفالهنّ إلى جليسة الأطفال ويتبادلن بضع كلمات قبل أن يخرجن لتناول شيء ما في أعماق البحر".
مع ذلك، يشكّك بعض الباحثين في هذا الأمر. حذّر الباحث لوك ريندل (Lock Rendell)، والّذي لم يكن ضمن مجموعة البحث، في مقابلة مع مجلّة "ساينس" العلميّة Science، من المقارنة بين أصوات الحيتان ولغة بني البشر. يُظهر البحث أنّ تغيير إيقاع الكودا يتعلّق غالبًا بالأشخاص الأوائل الّذين "يتحدّثون" مع بعضهم- إذا أصدر أحدهم صوتًا بوتيرة أقلّ، فإنّ الآخر يبطئ الوتيرة كذلك. قال ريندل: "شعوري هو أنّ التزامن هو الجزء المهمّ". يدّعي ريندل أنّ الحيتان قد تصدر أصواتًا بنفس الوتيرة الّتي يغنّي بها الناس أو يلعبون معًا بنفس الوتيرة- ليس لنقل المعلومات، ولكن لتقوية الروابط بينهم.
بطبيعة الحال، حتّى لو كانت حيتان العنبر تتحدّث مع بعضها بطريقة مشابهة للبشر، فما زلنا لا نملك أيّة فكرة عمّا يقولونه. قال ديفيد جروبر (David Gruber)، وهو باحث آخر من ضمن المجموعة البحثيّة، لمجلّة "ناشيونال جيوغرافيك" :"لن نتحدّث فجأة بطلاقة بلغة حيتان العنبر، لكنّنا نتعلّم. تكشف حيتان العنبر أسرارها لنا خطوة بخطوة".
يرأس جروبر مشروع CETI، والّذي يهدف إلى فكّ شفرة اتّصالات الحيتان. ليس من قبيل الصدفة، أنّ الأحرف الأولى من اسم المشروع تشبه تمامًا مشروعًا آخر- SETI، والّذي يبحث عن حياة ذكيّة في الفضاء الخارجيّ. بعد كلّ شيء، يحاول كلا المشروعين إجراء اتّصالات مع كائنات ذكيّة مختلفة تمامًا عنّا. طرح جروبر تساؤلًا في مقابلة مع مجلّة "ساينس" : "تخيّل أنّك قابلت كائنًا غريبًا ليس من البشر، ويستخدم نظام اتّصال مختلفًا تمامًا عن نظامنا. كيف ستحاول التّواصل معه؟ هذا إلى حدّ كبير ما نحاول القيام به مع الحيتان".