للقرود لغة إشارات معقّدة تشمل عشرات الإيماءات والحركات المختلفة. يبدو الآن أنّ جزءا من هذه اللّغة مشترك بين الأجناس المختلفة، وربما أدّى أيضًا إلى تطوّر لغتنا نحن البشر
عندما يقف أحد قرود البونوبو (bonobo) أمام صديقه ويحكّ ذراعه بشدّة، فإنّ هدفه واضح: إنه يطلب من قرد البونوبو الآخر أن ينظّف كل منهما فرو زميله. أمّا إذا لمس فم صديقه بلطف، فهو يطلب أن يناوله ما يمسكه بيديه او أن يعطيه بعضًا من الطّعام الّذي يأكله. إذا مرّ شمبانزي من هناك ورآهما بالصّدفة، فلن يواجه مشكلة في فهم الرّسائل، بما أنّ العديد من إيماءات الجسد الّتي تستخدمها قرود البونوبو للتّواصل معًا يستخدمها أيضًا أقرباؤها من جنس الشمبانزي لتلبية احتياجات مشابهة.
هذا هو الاستنتاج الّذي توصّل إليه باحثون من بريطانيا في مقال جديد لهم، درس معنى العشرات من إيماءات البونوبو وقارنها بإيماءات الشمبانزي الّتي دُرست سابقًا.
تستخدم جميع القرود الإيماءات الجسديّة، وخاصّة حركات الذّراع، للتّواصل مع بعضها. وليست هذه "حركات لا إراديّة" تميّز حالات معيّنة مثل الخوف أو الانفعال، بل تتحكّم القرود في الإيماءات الّتي تقوم بها، وذلك للحصول على ردّ معيّن من أفراد المجموعة الّتي ينتمون إليها.
الكثير من الإيماءات التي يقوم بها الشمبانزي والبونوبو مشتركة. فحوالي 90% من الإيماءات التي يستعملها الشمبانزي تستعملها أيضًا قرود البونوبو. كما تستخدم أجناس أخرى من القرود إيماءات مشابهة. تتطابق إيماءات الشمبانزي والغوريلا بنسبة 60% تقريبا، فيما تبلغ نسبة تطابق إيماءات الشمبانزي وإنسان الغاب (أورانغوتان) نحو 80%. إلّا أنّ التّشابه في الحركات نفسها لا يعني بالضّرورة أنّ معنى الإيماءات مشابه - فيمكن أن تحمل الحركة نفسها رسالة مختلفة لدى أنواع قرود مختلفة.
لغة مكوّنة من عشرات الإيماءات، معظمها تعتمد على حركات اليدين. في الصّورة يتواصل قردا شمبانزي واحدهما مع الآخر. في الأعلى: بونوبو | تصوير: Shutterstock
التّواصل باليدين
درس الباحثون أكثر من 2,300 حالة تواصل باستخدام الإيماءات بين قرود بونوبو في محميّة في الكونغو. وقد قاموا بتحليل معنى الإيماءات كما فعلوا مع الشمبانزي. فقد تابعوا أيّ ردّ فعل من جانب البونوبو الذي وُجّهت إليه الحركة أرضى الّذي قام بالحركة وجعله يوقفها. مثلًا، إذا حكّ البونوبو ذراعه وأعطاه صديقه ما كان يمسك به، فهذا لن يُرضي البونوبو الأول وسيستمرّ في حكّ ذراعه إلى أن يفهم القرد الثّاني مقصده ويبدأ القردان بتنظيف فرو واحدهما الآخر. وهكذا تعلّم الباحثون معنى هذه الحركة.
من "مخزن المعلومات" هذا ميّز الباحثون 33 نوعًا من إيماءات الجسد ومعانيها. حوالي نصف الإيماءات واضحة جدًّا وكان لها معنى واحد فقط. فإذا مدّت أنثى البونوبو ذراعها ودفعت ابنها أو ابنتها باتّجاه جسدها، تكون الرّسالة دائمًا: "تسلّق على ظهري". أمّا بعض الإيماءات فيُفسّر بأكثر من معنى واحد. وجد الباحثون، على سبيل المثال، أنه إذا قام قرد البونوبو برفع ذراعه إلى الأعلى، فهو إمّا يطلب التّسلّق على ظهر بونوبو آخر (في ثلث الحالات)، أو قد تكون رسالته: "لننظّف فرو واحدنا الآخر" أو "لنمارس الجنس" (في حالات أخرى). لا يعرف الباحثون بعد كيف يميّز البونوبو بين المعاني المختلفة للإيماءة نفسها. فربما تكون تعابير الوجه، أو حركات أخرى مرافقة للحركة المركزيّة، هي الّتي تساهم في فهم نوايا الآخر.
في أحيان كثيرة، يمكن أن تنقل عدّة إيماءات نفس الرّسالة أو رسالة مشابهة. وانسجامًا مع تلقيب البونوبو "قردًا هيبيًّا" يفضّل الحبّ على الحرب، وجد الباحثون ما لا يقلّ عن ستّ إشارات كانت إحدى رسائل كل منها دعوة لممارسة الجنس. وقد ميّزوا 14 معنى مختلفًا بالمجمل، من بينها "اتبعني" و"اقترب إليّ"، ولكن أيضًا "توقّف عماّ تفعله" و"اذهب من هنا".
الخطوة التّالية هي مقارنة إيماءات البونوبو بإيماءات الشمبانزي. نقل العديد من الإيماءات رسائل متشابهة، ولكن بعضها كان له معانٍ مختلفة لدى الشمبانزي والبونوبو. مثلًا، عندما يهزّ الشمبانزي غصنًا أو غرضًا آخر، يقصد عادةً "اتبعني" (كان هذا هو المعنى في 73% من الحالات)، وفي حالات نادرة فقط يهدف هذا الإيماء إلى الدعوة لممارسة الجنس أو لتنظيف الفرو. أمّا عند البونوبو، فتعني الحركة نفسها في جميع الحالات تقريبًا إما دعوة للتّزاوج أو لتنظيف الفرو.
اللّغة المحكيّة
لفحص التّشابه في معاني إيماءات الجنسين من ناحية علميّة، استخدم الباحثون طريقة تمّ تطويرها للدّراسات البيئيّة. فقد قاموا بفحص احتمال الحصول على توزيع عشوائيّ للإيماءات ومعانيها يؤدّي إلى تشابه أكبر ممّا هو في الواقع بين الجنسين. لهذه الغاية، أنشأوا عشرة آلاف توزيع عشوائيّ، وكان التّشابه بين معاني الإيماءات الذي ظهر من الدّراسات أعلى من ذلك الذي لوحظ في كلّ واحد من تلك التّوزيعات. يعني ذلك أنّ الاحتمال ضئيل جدًّا أن يكون التّشابه بين إيماءات الشمبانزي وإيماءات البونوبو مجرّد صدفة.
استنتج الباحثون أنّ لقرود البونوبو والشمبانزي العديد من الإيماءات الجسديّة المشتركة في معانيها. ويبدو أنّ السّلف المشترك للجنسين، الّذي عاش قبل حوالي مليون - مليونَي سنة، استخدم أيضًا مثل هذه الإيماءات. لكن من الممكن أيضًا أن يكون كلّ جنس قد طوّر بعض الإيماءات بشكل منفرد.
يأمل الباحثون أن تدرس أبحاثٌ لاحقةٌ إيماءاتِ القرود الأخرى، وكذلك إيماءات أقرب الحيوانات تطوريًّا للشمبانزي والبونوبو: نحن البشر. فوفقًا لأقوال هؤلاء الباحثين، كلّما عرفنا المزيد عن الإيماءات الّتي يستخدمها القرود، أدركنا أكثر مدى اختلافنا عنها، ما قد يتيح لنا أن نخمّن كيف تطوّر التّواصل، ولاحقًا اللّغة المحكيّة، لدى أسلافنا.
شاهد فيديو من إنتاج BBC عن لغة إشارات الشمبانزي (بالإنجليزية):
الترجمة للعربيّة: ريتّا جبران
التدقيق اللغوي: موسى جبران
الإشراف العلمي والتحرير: رقيّة صبّاح أبو دعابس