الأخضر بالنسبة لي، هو ليس الأخضر بالنسبة لك. ينظر الأشخاص المختلفون إلى نفس الألوان، لكنّهم يدركونها كألوان مختلفة. ما الّذي يحدّد كيفيّة إدراكنا للألوان وتسميتها- الثقافة أم البيولوجيا؟

ما بدأ كنقاش روتينيّ حول لون بطانيّة، بين عالِم الأعصاب، الدكتور باتريك مينولت (Mineault) وزوجته، طبيبة العيون الدكتورة ماريسا ماسيس سولانو(Masis-Solano)، تحوّل إلى تجربة متداولة حول إدراك الألوان. كان مينولت مقتنعًا أنّ البطانيّة خضراء، بينما ادّعت زوجته أنّها زرقاء. أدّى هذا الجدل إلى دفع مينولت لتطوير تطبيق يبحث في كيفيّة تعريف الناس للألوان.

يعرض التطبيق للمستخدم ظلًّا محدّدًا على طيفٍ موجود بين لونين، ويجب عليه التحديد في كلّ مرّة ما إذا كان يرى اللّون الأزرق أو الأخضر. بمرور الوقت، تصبح الألوان المعروضة متشابهة أكثر فأكثر مع بعضها البعض، وفي النهاية سوف يكتشف المستخدم كيفيّة إدراكه للون الأزرق والأخضر مقارنة بالمستخدمين الآخرين. ظاهريًّا، يبدو تصنيف لون معيّن إلى فئة لونيّة بمثابة عمليّة موضوعيّة، لكن يتّضح أنّ كلّ شخص لديه عتبة مختلفة، يبدأ عندها بإدراك الألوان في منتصف الطيف على أنّها زرقاء أو خضراء. كيف يمكن لأشخاص مختلفين أن يروا نفس الشيء– ولكنّ إدراكهم للألوان يكون مختلفًا؟


هل الأخضر عند شخصٍ ما هو لونٌ أزرق بالنسبة لشخصٍ آخر؟ مشهد طبيعيّ لجزيرة وبحر باللّونين الأزرق والأخضر في تايلاند | Patagape, Shutterstock

اللّون: ليس ما اعتقدته ورأيته

يلعب اللون دورًا مهمًّا في تجربتنا للواقع. فهو يساعدنا في التعرّف على الأشياء وتفسير المواقف، ويوفّر معلومات مفيدة، مثلًا، هل الفاكهة ناضجة، أو ما هو الوقت في النهار، أو ما هي الحالة النفسيّة والجسديّة لشخص آخر. على سبيل المثال، إذا كان شخص ما يحمرّ خجلًا، فسنعرف أنّه متحمّس أو مُحرَج، وإذا كان شاحبًا، فقد يكون مريضًا. نحن غالبًا ما نربط اللون بالعواطف والمفاهيم المجرّدة، وهذا هو السبب في توظيفه في الاتّصال البصريّ، التسويق والتصميم. على سبيل المثال، يرتبط اللون الأحمر بالتوقّف، والأخضر بالحركة. ويؤثّر اللون أيضًا في التجربة الّتي ندركها بمساعدة الحواسّ الأخرى. على سبيل المثال، أظهرت العديد من الدراسات أنّ نكهة الطعام تتأثّر بلونه. يحافظ نظامنا البصريّ أيضًا على المداومة على  إدراك الألوان، حتّى لو أدّت التغييرات في الإضاءة إلى تغيير كبير في ألوان الصورة الّتي ننظر إليها. تساعدنا هذه الميزة في التعرّف على الأشياء بمجموعة متنوّعة من المواقف.

تبدأ رؤية الألوان في شبكيّة العين، وهي منطقة مكوّنة من خلايا تستقبل الضوء- مُستقبِلات ضوئيّة (photoreceptors)- والّتي تحوّله إلى إشارات عصبيّة. تنقسم المُستقبِلات المسؤولة عن رؤية الألوان، الخلايا المخروطيّة (Cone cells)، إلى ثلاثة أنواع فرعيّة وفقًا لحساسيّتها للضوء في ثلاثة أطوال موجيّة مختلفة، والّتي تتوافق مع ما نستطيع إدراكه باللون: الأحمر، الأزرق والأخضر. يقوم الدماغ بمعالجة نمط نشاط الخلايا العصبيّة النَشِطة- نوعها، عددها وكثافة نشاطها- وبالتالي يحدّد اللّون الّذي يتعرّف عليه الدماغ من بين حوالي 10 ملايين درجة لون يستطيع البشر التمييز بينها.


تنقسم الخلايا المخروطيّة إلى ثلاثة أنواع فرعيّة وفقًا لحساسيّتها للضوء في ثلاثة أطوال موجيّة مختلفة، والّتي تتوافق مع ما نستطيع إدراكه باللون: الأحمر، الأزرق والأخضر. قضبان ومخاريط في شبكيّة العين | Ralph C. Eagle Jr. / Science Photo Library

من الأطفال وحتّى البالغين النرويجيّين

إنّ الأطفال حديثي الولادة لديهم قدرة محدودة على تمييز الألوان، ولا يرون إلّا الألوان القويّة جدًّا. تتطوّر رؤية الألوان في الأسابيع الأولى من الحياة: أوّلًا، تتطوّر الآليّة البصريّة لِطَيف الألوان بين الأحمر والأخضر، وبعد أربعة إلى ثمانية أسابيع، تتطوّر الآليّة البصريّة لِطَيف الألوان بين الأزرق والأصفر. حتّى في عمر الشهرين والثلاثة أشهر، عندما يكون لدى الأطفال بالفعل رؤية ثلاثيّة الألوان (trichromatic)، فإنّهم أقلّ نجاحًا من البالغين في تحديد الألوان الأقلّ كثافة. تستمرّ حساسيّة الألوان في التحسّن طوال مرحلة الطفولة وحتّى أواخر مرحلة المراهقة.

قد تؤثّر العوامل البيئيّة في إدراك الألوان. على سبيل المثال، إذا تعرّضنا لأشعّة الشمس لمدّة ساعة، فإنّ نتائجنا في اختبارات مطابقة الألوان ستتغيّر لعدّة ساعات. من المؤكّد أنّ هذا التغيير قابل للعكس، ولكن من الممكن أن يكون للتعرّض المبكر لأشعة الشمس تأثير مدى الحياة في إدراك الألوان. وجدت دراسة قارنت بين رؤية الألوان لدى أشخاص بالغين من النرويج أنّ المولودين شمال الدائرة القطبيّة الشماليّة، حيث يتعرّضون لأشعّة الشمس الخافتة والّتي لا تشرق حتّى لعدّة أشهر من العام، هم أفضل في التمييز بين أطياف اللون الأرجوانيّ ولكن ليس الألوان التالية: الأصفر- الأخضر، الأخضر، والأخضر- الأزرق، مقارنة بنظرائهم الجنوبيّين. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ الأطفال الّذين يولدون في الخريف في القطب الشماليّ وبالتالي يتعرّضون للقليل من ضوء الشمس في وقت مبكّر من حياتهم، لا يدركون الألوان بشكل جيّد مقارنة بمن يولدون في نفس المكان في الصيف.


إنّ الأطفال حديثي الولادة لديهم قدرة محدودة على تمييز الألوان، ولا يرون إلّا الألوان القويّة جدًّا. طفل بين أحضان والدته | Ground Picture, Shutterstock

اللون الخادع

إذا كان الأمر كذلك، فإنّ تمييز الألوان هو تفسير دماغنا للأطوال الموجيّة الّتي تمتصّها العين. وعلى الرغم من وجود عدد لا يحصى من الألوان الموجودة في طيف الضوء المرئيّ، وملايين الألوان الّتي يستطيع البشر التمييز بينها، فإنّنا نقوم بتبسيط عالم الألوان من خلال تجميعها في عدد محدود من الفئات، بما في ذلك الأحمر، الأخضر والأزرق. وبالمقارنة مع رؤية الألوان، فإنّ ربط اللون بفئة محدّدة هو عمليّة إدراكيّة منفصلة وأعلى مستوى وأكثر تعقيدًا، وهي أقلّ وضوحًا للعلم. إنّ سبب الخلاف بين الدكتور مينولت  وزوجته يكمن في هذه النقطة. ولكن كيف نشأت هذه التصنيفات اللّونيّة؟ هل هي متأصّلة في بيولوجيا البشر أم أنّها نِتاج ثقافتهم؟

لقد استمرّ النقاش الأكاديميّ حول هذا الموضوع لعقود من الزمن، وقد هيمن عليه منهجان: النظريّة العالميّة لإدراك الألوان والّتي تطوّرت من دراسات اللّغة الّتي حدّدت أوجه التشابه في الطريقة الّتي ترتبط بها جميع اللّغات بالألوان، حتّى في الثقافات البعيدة عن بعضها البعض. وفقًا للنظريّة، فإنّ إدراك الألوان هو آليّة موجودة لدى جميع البشر، وبسبب القيود الفيزيولوجيّة العالميّة، تصنّف جميع الثقافات عددًا محدودًا من الألوان الأساسيّة- الأسود، الأبيض، الأحمر، الأخضر، الأصفر والأزرق- وفقًا لقواعد موحّدة. على سبيل المثال، ستحوي جميع اللغات كلمات للّونين الأبيض والأسود؛ إذا كانت لغة معيّنة تحوي ثلاث كلمات للألوان، فإنّ واحدة منها ستكون اللّون الأحمر؛ إذا كانت تحوي أربع كلمات للألوان، فسوف تكون هناك كلمة للّون الأصفر أو الأخضر- ولكن ليس لكلتيهما، وهكذا. ومن ناحية أخرى، فإنّ نظريّة النسبيّة اللغويّة تدّعي بأنّ اللّغة تؤثّر في  الطريقة الّتي نفكّر بها ونختبر بها الواقع. لذلك، فإنّ المتحدّث باللّغة العبريّة سوف يفكّر ويختبر الواقع بشكل مختلف عن المتحدّث باللّغة الإيطاليّة. هذه النظريّة واسعة جدًّا وتتطرّق إلى العديد من المجالات، وفيما يتعلّق بالألوان، تزعم أنّ إدراك اللّون هو نِتاج الثقافة واللّغة، وكذلك المصطلحات المستخدمة للألوان المختلفة.

في الواقع، هناك تشابه كبير بين أنواع الألوان الّتي تميل اللغات المختلفة إلى وصفها، كما يقرّر النهج العالميّ، ولكن في الوقت نفسه، تشير اللّغات المختلفة إلى الألوان بطرق مختلفة وتستخدم عددًا مختلفًا من الفئات لوصفها. تحوي بعض اللغات عددًا أحاديًّا من مصطلحات الألوان الأساسيّة، مثل لغة البرينمو (Berinmo) الّتي تتحدّثها قبيلة صغيرة في بابوا غينيا الجديدة، والّتي تتضمّن خمس فئات فقط من الألوان الأساسيّة، في الوقت الّذي تحوي فيه لغات العديد من الفئات الأخرى. اللّغة الإنجليزيّة، على سبيل المثال، تحوي 11 فئة، وبعض اللّغات تحوي فئات أكثر. بعض اللّغات ليس لديها فئات ألوان على الإطلاق فحسب، بل ليس لديها أيضًا كلمة لمفهوم اللّون.

لقد اخترعت العديد من الثقافات حول العالم كلمات للألوان المختلفة بنفس الترتيب:

الثقافة، البيولوجيا والألوان

لقد حاولت نظريّة النجاعة التواصليّة، والّتي تطوّرت بعد النظريّتين السابقتين، الجمع بين المنهجين وتفسير ظاهرة اختلاف عدد الفئات. وتزعم أنّ هناك بالفعل بؤرات  لونيّة عالميّة تميل الثقافات إلى تصنيفها، ولكنّ تطورّها وعددها في كلّ مجتمع مرتبط بالاحتياجات الثقافيّة والاتّصالية الفريدة لهذا المجتمع. كلّما أصبح المجتمع مركّبًا أكثر، كلّما احتاج أعضاؤه إلى التمييز بين المزيد من الأشياء أو الألوان في اللّغة المنطوقة، وبالتالي يتمّ إنشاء المزيد من فئات الألوان. تشرح هذه النظرية سبب تضمين بعض اللغات المزيد من المصطلحات الخاصة بالألوان، وتؤكّد على تأثير الثقافة واللّغة في إدراك الألوان.

وبالعودة إلى الجدل حول لون البطانيّة: فبعض اللّغات لا تفرّق بين الأخضر والأزرق، ولديها كلمة واحدة فقط لوصف طيف الألوان بينهما. بالنسبة لهذه الفئة اللّونيّة، صاغ اللّغويّون مصطلح Grue في اللغة الإنجليزيّة، وهو مزيج من الكلمتين Green وBlue. ومن الأمثلة على ذلك لغة الهيمبا في شمال ناميبيا، والّتي تحوي خمس فئات لونيّة فقط- واحدة منها هي "بورو" للون Grue- ولكن هناك فئات إضافيّة لوصف الظلال الفاتحة والداكنة، والّتي لا تتوفّر في اللغات الأخرى. توصّلت دراسة تبحث في إدراك الألوان لدى متحدّثي لغة الهيمبا إلى أنّه عندما عُرض عليهم 11 مربّعًا أخضر ومربّع واحد أزرق، واجهوا صعوبة أكبر في العثور على اللّون غير المعتاد، مقارنة بمتحدّثي اللغات الغربيّة. وعلى النقيض من ذلك، عندما قُدِّمَت لهم سلسلة من المربّعات الخضراء، مع مربّع أخضر بلون مختلف قليلًا، تمكّنوا من التعرّف بسهولة على الاستثناء، بينما بالنسبة لمعظمنا ستبدو المربّعات متطابقة تقريبًا. قد يكون من الصعب التمييز بين الألوان المختلفة دون وجود كلمة محدّدة للون معيّن.

يبدو أنّ الحقيقة تكمن بين النهج العالميّ والنهج اللغويّ: يتأثّر إدراك الألوان بعناصر بيولوجيّة مشتركة بين جميع البشر، ولكنّ اللّغة والثقافة تؤثّران أيضًا في الطريقة الّتي ندرك بها الألوان ونفهمها.


إدراك الألوان لدى متحدّثي لغة الهيمبا. من اليمين: يواجهون صعوبة في العثور على دائرة زرقاء بجوار 11 دائرة خضراء؛ من اليسار: يمكن التعرّف بسهولة على الدائرة الخضراء غير العاديّة إلى جانب 11 دائرة خضراء متطابقة | تصميم: ليات بيلي

أيضًا أخضر، وأيضًا أزرق

وبالعودة إلى تطبيق الدكتور مينولت: هل اللّون المعروض على الشاشة أخضر أم أزرق؟ هناك عوامل إضافيّة بخلاف الثقافة واللّغة تؤثّر في التحديد: الألوان في البيئة، ظروف الإضاءة، نوع الشاشة، وبالطبع الاختلافات الشخصيّة في إدراك الألوان. حتّى اللّون المعروض أوّلًا في التطبيق قد يؤثّر في قرارنا. لذلك، فإنّ الشخص الّذي يكرّر التجربة عدّة مرّات في نفس الظروف قد يحصل على نتيجة مختلفة قليلًا في كلّ مرّة. إذا أردنا مقارنة النتائج لأشخاص مختلفين، فمن المستحسن القيام بذلك بنفس الجهاز وفي نفس ظروف الإضاءة، لتقليل عدد العوامل البيئيّة الّتي قد تؤثّر في النتيجة.

0 تعليقات