يُمكن أن تُستخدم مغارة أفقيّة، اكتشف علماء إيطاليّون علامات لوجودها على القمر في قاع بئر عموديّة، ملجأً لرجال الفضاء هروبًا من الظروف القاسية على سطحه
يبحث العلماء منذ عشرات السنين عن مغارات عميقة ومحميّة بما يكفي، لتُستخدم مكانًا سكنيًّا آمنًا لمن يصعد إلى القمر من بني البشر، في مهام طويلة الأمد. أفاد تقرير أصدره علماء إيطاليّون باكتشاف علامات على وجود مغارة أفقيّة، في قاع بئر في منطقة "بحر السّكون" على القمر، قد تلبّي هذه المتطلّبات. هناك حاجة للتحقّق من وجود المغارة فعليًّا، إذ تمّ اكتشافها بالاعتماد على تحليلات مسوحات الرادار، وذلك لاختبار إمكانيّة الوصول إليها ومدى ملاءَمتها للسكنى، كما يأمل الباحثون. سيشكّل التحقّق الفعليّ من وجود المغارة أيضًا تأكيدًا لطريقة البحث المستخدمة ويفتح الطريق، بطبيعة الحال، لمزيد من الاكتشافات لمواقع مغارات أخرى.
مؤشّرات أوّليّة لوجود مغارة أفقيّة لها فتحة خروج إلى سطح القمر | محاكاة: A. Romeo، بدمج مكوِّنات من صور لـِ NASA
النظر داخل "أرض القمر"
كانت ستّ الزيارات التي قام بها الإنسان إلى القمر قصيرة جدًّا، إذ لم يتعدَّ مكوث الأشخاص على سطح القمر ثلاثة أيام، وذلك في رحلات مشروع أبولو الأخيرة. تُخطّطُ وكالة الفضاء الأمريكيّة، ناسا، إهباط أناس من جديد على القمر، وذلك ضمن مشروع أرطميس، بعد إعداد البنية التحتيّة على سطح القمر، وتهيئة الظروف لمكوث الأشخاص مدّة طويلة هناك. إلّا أنّ سطح القمر هو مكان بالغ الخطورة، فقد يتعرّض رجال الفضاء على سطحه لدرجات حرارة متطرّفة، وإصابة النيازك الدقيقة، والأشعة الشديدة وغيرها من المخاطر. من الطبيعيّ أن يلجأ الأشخاص المتواجدون على سطح القمر للاحتماء تحت السطح، والمكوث هناك غالبية زمن وجودهم على القمر، بحيث يقتصر الخروج إلى السطح الفقير بالهواء على الأوقات، التي تقلّ فيها خطورة الظروف في الخارج.
يعتقد الخبراء بأنّ السبيل الأمثل للقيام بذلك، هو الاعتماد على المُغُر والكهوف الموجودة على القمر. سوف يغني ذلك عن الحاجة لإرسال عتاد حفريات ثقيل إلى القمر، ويقلل الزمن اللازم لترسيخ التواجد تحت السطح من لحظة الهبوط، ويقلّل من تكاليف المهمّة الفضائيّة، إذ تبلغ تكلفة إهباط كيلوغرام واحد من العتاد على سطح القمر حوالي مليون دولار.
تبدو الثقوب الكثيرة المنتشرة على سطح القمر، من خلال صور الأقمار الصناعيّة، آبارًا عموديّة يزيد عمقها عن عشرات الأمتار. يعتقد الباحثون وجود الكثير من "أنابيب اللاڤا"، وهي عبارة عن بقايا للنشاط البركانيّ الذي حدث على سطح القمر في مستهلّ نشأته، على هيئة مغارات أفقيّة، ويمكن أن تكون ملائمة جدًّا لاتّخاذها قاعدةً مأهولةً. يبدو جزءٌ من هذه المغارات، من خلال صور الأقمار الصناعيّة، بارزًا فوق السطح، مثل نبتة جذورها قريبة من السطح. قد تجعلنا بعضٌ من تضاريس السطح نستنتج أنّ تلك هي مسالك مغارات أفقيّة قد انهارت سقوفها نحو جوفها. إلّا أنّ هذه أدلّة غير مباشرة لوجود مثل هذه المُغُر.
اقتصرت دراسة فُوهات الآبار العموديّة حتّى الآن على الجسّ عن بعد، بواسطة الأقمار الصناعيّة التي تدور حول القمر: يتيح التحليل المتعمّق للصور الضوئيّة (الفوتوغرافيّة)، وقياسات الأجهزة الأخرى تقدير عمق تلك الفوّهات وشكلها الهندسيّ، كما تتيح تحليل مدى تواصل واستمرارية الحيّزات الفراغيّة تحت السطح، وحتّى بحث التذبذبات في درجات الحرارة داخل الفوّهات. لم يجد الباحثون حتّى الآن شهادات على وجود ما يصبون إليه: مغارة أفقيّة لها فتحة خروج إلى السطح عن طريق إحدى الآبار. سيتيح التحقق من وجود مثل هذه المغارة للعلماء التركيز على موقع فعليِّ على سطح القمر، تمكن دراسته بالاستعانة بمَرْكبات روبوتية أوّلًا، ثمّ إرسال الأشخاص لاحقًا.
تمّت دراستها حاليًّا بالمجسات عن بعد. فوّهة بئر يُسمّى MTP في "بحر السّكون"، قد توجد فتحة مغارة أفقيّة في قاعه | تصوير قمر اصطناعي: NASA
الأفق في قاع البئر
أُعلن في تقرير نشره طاقم من الباحثين وعلى رأسهم علماء من جامعة ترينتو الايطالية في مجلة Nature ،Astronomy عن اكتشاف مغارة لها المواصفات المذكورة، وذلك استعانة بتحاليل أُجريت بأساليب حديثة من قياسات الرادار. استخدم الباحثون القياسات التي أجراها القمر الصناعي الأمريكي LRO، الذي يدور حول القمر منذ سنة 2009. حلّل الباحثون قياسات أجراها هذا القمر الصناعيّ، الذي يحمل رادارًا اسمه mini - RF من ضمن أجهزته، خلال السنين الأولى من عمله حتّى سنة 2011. فتّش الباحثون عن قياسات أُرسلت إشاراتُها عندما تواجد القمر الصناعي بزاوية قُطرية مائلة فوق الآبار، وليس رأسيًّا فوقها. أمِلَ الباحثون ألّا تنعكس الإشارة التي تصل بهذه الوضعيّة إلى قاع البئر مباشرةً، وبشكلٍ رأسيٍّ إلى أعلى، وإنّما تخترق المغارة الأفقيّة المنبثقة من القاع - فيما إذا وُجدت مثل هذه المغارة - ويمكن عندها أن يتحقّق وجودها بمسح الرادار.
كشف تحليل القياسات عن علامات تشير إلى وجود مثل هذه المغارة فعلًا في قاع بئر معروفةٍ جيّدًا، تقع في "بحر السّكون" - المنطقة التي هبطت في أطرافها أوّل سفينة فضائيّة مأهولة بالبشر، أبولو 11، في تموز/ يوليو سنة 1969. لقد تمّت دراسة هذه البئر، المسمّاة MTP، كثيرًا من خلال صور الأقمار الصناعيّة. يتّخذ الجزء العلويّ من هذه البئر شكل المحقن، من تحته جدران شديدة الانحدار، تنحدر إلى عمق يبلغ، في أعمق نقطة، حوالي 135 مترًا تحت السطح. يتراوح قطر البئر ما بين ثمانين ومئة متر.
يعتقد الباحثون، بالاعتماد على تحليل القياسات ومقارنتها مع المحاكاة المحوسبة، أنّ مغارةً عرضها حوالي 45 مترًا موجودة في أسفل بئر MTP. تُناسب هذه النتائج، وفقًا للباحثين، نموذجيْن محتملَيْن: أحدهما لمغارة أفقيّة تقريبًا، لا يتعدّى ميلها ثلاث درجات، وطولها 25 مترًا، أمّا النموذج الثاني فهو لمغارة أشدّ انحدارًا، بميل مقداره حوالي 45 درجة، وطولها حوالي 77 مترًا. تحدّث لورنزو بارزون (Bruzzone)، رئيس طاقم البحث، إلى جريدة الجارديان قائلًا: "إنّ المغارة الأفقية كانت، على ما يبدو، أنبوب لاڤا فارغًا، مضيفًا أنّه "يمكن أن تأوي مثل هذه المُغر الفضائيين، فهي تُشكّل ملجأ طبيعيًّا يحميهم من الظروف القاسية السائدة على سطح القمر".
تبدأ المغارة من الأسفل. محاكاة ثلاثيّة الأبعاد للبئر العموديّة MTP، بالاعتماد على صور وقياسات أخذت بالأقمار الصناعيّة | المصدر: مقال البحث Lunar Pit Morphology: Implications for Exploration מאת R. V. Wagner, M. S. Robinson
الإمكانيّات العلميّة
بئر MTP هي البئر الوحيدة، من بين أكثر من مئة من فوّهات الآبار التي ظهرت في صور الأقمار الصناعيّة لسطح القمر، التى اكتُشفت مغارة أفقيّة - على ما يبدو - في أسفلها. قد يتطلّب اكتشاف المزيد من مثل هذه المُغُر، كما يأمل الباحثون، استخدام قمر صناعي جديد مجهز بالآليات المناسبة. يَصلح رادار LRO، من حيث قدرة الفصل التي يتمتّع بها، لدراسة الآبار التي يزيد قطرها عن ثمانين متر فقط، ولم تتمّ برمجته لمثل تلك المهام.
يقول البروفسور عوديد أرونسون، من قسم علوم الكرة الأرضية وعلوم الكواكب والنجوم في معهد وايزمان للعلوم، والذي لم يشارك في الدراسة، مُوضّحًا: "توجد آبار تبدو كفُوّهات أنابيب لاڨا، على سطح القمر وعلى سطح كوكب المريخ أيضًا. الجديد في الأمر هو التحقّق، على ما يبدو، من وجود مغارة أفقيّة في أسفل البئر". "تبدو النتائج التي توصل إليها الباحثون منطقية، إذ طوّروا نموذجًا للتضاريس تحت السطحيّة، بالاستعانة بمعطيات الرادار الفريدة".
أضاف أرونسون، الذي يشارك هو بنفسه بدراسات تتناول مثل هذه المُغُر: "تُشكّل مغارات اللاڤا مكانًا مثاليًّا لحماية الأشخاص والعتاد ليس على القمر فحسب، إنما على المريخ أيضًا، وهي تتيح لنا إقامة المستوطنات. يمكن أن تزوّد هذه المغارات وقايةً من العواصف الشمسيّة الشديدة، كتلك التي أصابت الأرض في الأشهر الأخيرة. قد تكون الإشعاعات الناجمة عن العواصف الشمسية شديدةً وخطرةً على سطح القمر والمريخ، اللذين يفتقران لحقل مغناطيسيّ عالميّ واقٍ، كالذي تتمتّع به الكرة الأرضيّة".
قد تكمن في مثل هذه المغر أهمّيّة علميّة كبيرة. يقول أرونسون: "المناطق تحت السطحيّة في هذه المغر محميّة، على ما يبدو، من التغيّرات في درجات الحرارة أكثر ممّا على السطح. تُشكّل مثل هذه المغر مكانًا فريدًا للبحث عن إمكانيّة وجود حياة ميكروبيّة، ويمكن الافتراض بازدياد احتمال وجود حياة ميكروبيّة ما زالت قائمةًً على سطح كوكب المريخ مثلًا، حيث درجات الحرارة أكثر استقرارًا وأقلّ برودةً، كما هو الحال داخل المغارات".