يبتعد القمر عن الأرض، وبالتّالي يبدو أصغر فأصغر. متى سيظهر صغيرًا لدرجة أنّه لا يحجب الشّمس، وبالتّالي لن يكون هناك كسوف؟
كسوف الشّمس هو ظاهرة فلكيّة مذهلة: يحجب القمر الشّمس في منتصف النّهار ويمنع وصول ضوئها إلى الأرض، فيتحوّل النّهار إلى ليل لبضع دقائق. هذه الظّاهرة معروفة منذ القدم، وقد ورد ذكرها في العديد من المصادر التّاريخيّة. يفتتن البشر بها حتّى اليوم، لكن من المحتمل أن تفقد هذه الظّاهرة الفضائيّة المثيرة للإعجاب سحرها في المستقبل، أو تتوقّف عن الوجود كما نعرفها.
يحدث كسوف الشّمس عندما يمرّ القمر بين الشّمس والأرض ويحجب ضوء الشّمس. قد يرى بعض النّاظرين على الأرض أنّ القمر يحجب الشّمس بأكملها، وهي ظاهرة تُعرف باسم كسوف الشّمس الكلّيّ، وبالنّسبة لآخرين سيخفي أجزاء منها فقط - كسوف جزئيّ للشّمس. نعلم جميعًا أنّ الشّمس أكبر بكثير من القمر، ولكنّها أيضًا أبعد عنّا بنفس النّسبة، ولذلك بالنّسبة للمراقبين من الأرض، يظهر القمر والشّمس بنفس الحجم.
يدور القمر حول الأرض في مدار ليس دائريًّا تمامًا بل بيضاويًّا، لذلك يُظهِر كسوف الشّمس القمر أحيانًا أصغر من الشّمس ويخفي مركزه فقط. وتسمّى هذه الظاهرة بكسوف الشّمس الحلقيّ، لأنّ الجزء الّذي يحيط بالقمر من الشّمس يبدو كحلقة من الضّوء في السّماء.
في منتصف النّهار، يحجب القمر الشّمس بشكل شبه كامل. رسم تخطيطيّ لموقع الشّمس، القمر والأرض أثناء كسوف الشّمس الكلّيّ | Gary Hincks / Science Photo Library
داروين وتطوّر القمر
منذ تكوين قمر الأرض، أثّرت جاذبيّته على مستوى محيطات كوكبنا. إنّ الحركة الصّاعدة والهابطة لمياه المحيطات، المعروفة باسم المدّ والجزر، تخلق احتكاكًا يؤدّي إلى إبطاء دوران الأرض. ونظرًا لمبدأ حفظ الزّخم الزّاويّ (Angular momentum) - وهو الزّخم الّذي يمتلكه جسم في حالة حركة دورانيّة - تصبح الطاّقة الحركيّة طاقة كامنة تتسبّب في ابتعاد القمر.
تنبّأ جورج داروين، اِبن تشارلز داروين، بالظّاهرة عام 1879 - وكان من أوائل من تنبّأ بها - ولكن تمّ تأكيد الظّاهرة بدقّة بعد هبوط أوّل مركبة فضائيّة على سطح القمر عندما أبقت عاكسًا ثابتًا عليه. باستخدام عاكس الضّوء، يمكنك إرسال شعاع ليزر نحو القمر، وكشفه عائدًا، وحساب مقدار الوقت المنقضي من لحظة إطلاق شعاع الليزر حتّى عودته إلى الأرض، وبالتّالي قياس المسافة إلى القمر. وباستخدام طرق القياس الدّقيقة هذه نعلم أنّ القمر يتحرّك بعيدًا عن الأرض بحوالي أربعة سنتيمترات في السّنة.
وإذا ابتعد القمر عنّا فمن المتوقّع في المستقبل أن يتوقّف عن إخفاء الشّمس بأكملها، وبالتّالي سوف نتوقّف عن الاستمتاع بكسوف كلّيّ للشّمس. متى سيحدث آخر كسوف كلّيّ للشّمس؟ الجواب عن هذا السّؤال ليس بسيطًا. ولا يمكننا أن نعرف قطعًا هل سيبقى معدّل تراجع القمر كما هو اليوم. هناك تغيّرات أخرى يمكن أن تتسبّب في توقّف كسوف الشّمس عن الوجود، على سبيل المثال تغيّر في زاوية حركة القمر حول الأرض.
اِستخدمت مارغريت لانتينك (Lantink)، عالمة الجيولوجيا من جامعة ويسكونسن - ماديسون نماذج، ووجدت أنّ القمر يتحرّك بعيدًا عن الأرض بوتيرة متغيّرة، تزداد وتقلّ بالتّناوب. قام الباحثون، ومن بينهم روبرت تايلر (Tyler)، عالم الكواكب من مركز غودارد لرحلات الفضاء التّابع لناسا، بإنشاء نماذج حاولت التّنبّؤ بوتيرة ابتعاد القمر في السّنوات القادمة.
وفقًا لهذه النّماذج، إنّ معدّل ابتعاد القمر خلال المليار سنة القادمة سوف يكون في المعدّل حوالي ثمانية سنتيمترات سنويًّا، وسوف يكون هذا المعدّل منتظمًا ودون تغيّرات كبيرة، ممّا يعني أنّ الكسوف الكلّيّ للشّمس سوف يستمرّ في الظّهور على الأرض للثّلاثة مليارات سنة القادمة. ترى نماذج أخرى أنّ آخر كسوف كلّيّ للشّمس سوف يحدث خلال مئات الملايين من السّنين.
سواء كان ذلك لمليارات السّنين أو مئات الملايين من السّنين، يمكننا أن نطمئنّ، فالكسوف الكلّيّ للشّمس سوف يبقى معنا لفترة طويلة. لذلك، في المرّة القادمة الّتي ترى فيها كسوفًا شمسيًّا، كلّيًّا أو جزئيًّا، من المهمّ تقدير هذه اللّحظة: إنّها ظاهرة في النّظام الشّمسيّ لا يمكن رؤيتها إلّا من الأرض، ولن تدوم إلى الأبد أيضًا.