وجد مشروع بحثيّ رائد أنّ التغييرات الفسيولوجيّة تبدأ بالحدوث في أجسام روّاد الفضاء بالفعل في بداية إقامتهم في الفضاء، كما يثير احتمال أن تكون النساء أكثر ملاءَمة من الرجال لرحلات الفضاء
شارك جون جلين (John Glenn)، أوّل أمريكيّ يدور حول الأرض، عن الفحوصات الطبّيّة الشاملة التي خضع لها روّاد الفضاء الأوائل لوكالة الفضاء الأمريكيّة "ناسا": "كانت بعض الفحوصات التي مررنا بها هناك صعبة بشكل خاصّ، حيث كان من الصعب جدًّا تحديد أيّ منها هو الأصعب. فقط إذا فهمت عدد فتحات الموجودة في جسم الإنسان ومدى عمق كلّ منها، يمكنك اختيار الفحص الأصعب بالنسبة لك". بما أنّه لم يكن أحد يعرف حينذاك ما هي التحدّيات الجسديّة المتوقّعة لروّاد الفضاء، قام الفريق الطبّيّ بالقيام بكل فحص ممكن لاختيار الطيارين الأكثر صحّة. على مرّ السنين، تراكمت الكثير من المعرفة حول الآثار الطبّيّة لرحلات الفضاء على جسم الإنسان، لكن الإنسان كان دائمًا تقريبًا رائد فضاء محترفًا - أشخاص أصحاء بشكل استثنائيّ يتم اختيارهم بعد فحوصات طبّيّة شاملة للغاية.
على مرّ السنين، حَظِيَ بعض السيّاح أيضًا بالطيران إلى الفضاء، والذين لم يكونوا روّاد فضاء محترفين ولم يخضعوا لنفس الفحص الطبّيّ المكثّف، وكانت المعلومات الصحّيّة التي قدّموها قليلة نسبيًّا. في السنوات الأخيرة، تمّ إنشاء فئة جديدة، تعرف باسم "روّاد الفضاء الخاصّين" - أشخاص غير مؤهّلين كروّاد فضاء من حيث التدريب أو الصحّة، ولكنّهم يقومون برحلات فضائيّة قصيرة، تشمل بعضها العمل في الفضاء، بما في ذلك تجارب علميّة. كانت أوّل مهمّة خاصّة لرحلة حول الأرض هي "انسبيريشن 4" (Inspiration 4)، حيث اشترك فيها أربعة أشخاص على متن المركبة الفضائية "دراغون" (Dragon) التابعة لشركة "سبيس اكس" (SpaceX) لمدّة ثلاثة أيّام حول الأرض. تلاها عدّة رحلات جوّيّة لروّاد فضاء خاصّين من شركة "اكسيوم" إلى محطة الفضاء الدولية، كان أوّلها مهمّة "أي أكس-1" (AX-1)، والتي شملت أيضًا الإسرائيليّ إيتان ستيفا.
تحاول سلسلة من الدراسات التي نُشرت مؤخّرًا فحص التغيّرات التي تحدث في الجسم أثناء رحلة فضائيّة، بناءً على البيانات الطبّيّة لِأعضاء الفريق الأربعة في مهمّة "انسبيريشن 4". قارن الباحثون هذه البيانات بالتي تم جمعها من عشرات روّاد الفضاء المحترفين في الرحلات الفضائيّة، بما في ذلك الدراسة الأمريكيّة التي أُجريت على رائدي الفضاء التوأم سكوت ومارك كيلي (Mark Kelly)، الذين قورنت بياناتهما عندما كان أحدهما في المحطة الفضائيّة والآخر على الأرض. كما أنشأ الباحثون قاعدة بيانات للمؤشّرات البيولوجيّة، تهدف إلى أن تكون أساسًا للمعلومات لدراسة تأثير رحلات الفضاء على الأشخاص "العاديّين"، ذوي التاريخ الطبّيّ البعيد جدًّا عن الصحّة شبه المثاليّة لروّاد الفضاء المحترفين. أشار عالم الوراثة كريستوفر ماسون (Christopher Mason) من كلّيّة الطبّ في جامعة كورنيل في مدينة نيويورك، وهو أحد قادة المشروع الذي شارك في كتابة أكثر من 44 دراسة:"هذه بداية طبّ الفضاء الدقيق. نحن نسخّر مجموعة أدوات البيولوجيا الجزيئيّة الحديثة بالكامل لصالح الفرق التي تتألّف من أفراد عاديّين".
معظم البيانات حتّى الآن مأخوذة من روّاد فضاء محترفين، اجتازوا فحوصات طبّيّة مكثّفة. رائد الفضاء أندريه كويبرز (André Kuipers) يجري فحص الدم من دان بوربانك (Daniel Christopher Burbank) في محطة الفضاء الدولية | تصوير: NASA
تغييرات سريعة
ضمّ فريق مهمّة "انسبيريشن 4" جاريد آيزكمان (Jared Isaacman)، الذي كان يبلغ من العمر 48 عامًا آنذاك، وهو ملياردير اشترى المهمة من سبيس إكس؛ سيان بروكتور (Sian Proctor)، عالمة جيولوجيا تبلغ من العمر 51 عامًا؛ كريستوفر سيمبروسكي (Christopher Sembroski) ، يبلغ من العمر 42 عامًا، وهو مهندس سابق في نظام الصواريخ بالقوات الجوية الأمريكية؛ هيلي أرسينو (Hayley Arceneaux) البالغة من العمر 29 عامًا، والتي تعافت من سرطان العظام عندما كانت طفلة، وتمّ استبدال إحدى العظام في ساقيها بطرف صناعيّ معدنيّ. أرسينو هي أصغر أمريكيّة تدور حول الأرض، ربّما أيضًا أوّل ناجية من مرض السرطان تسافر إلى الفضاء. بفضل تركيب هذه المجموعة، كانت المهمّة مختلفة تمامًا عن معظم المهمّات الفضائيّة التي سبقتها، من حيث تنوّع الأعمار، التاريخ الطبّيّ، وحتّى توازن عدد الرجال والنساء. خلال الأيام الثلاثة للمهمّة أخذوا عيّنات من الدم، البول واللعاب، وأجروا لأنفسهم اختبارات الموجات فوق الصوتيّة والاختبارات الإدراكيّة، وارتدّوا أجهزة استشعار تقيس النبض وضغط الدم وغيرها.
بشكل مدهش، أظهرت نتائج تحليل الفحوصات والعيّنات، أنّ التغيّرات تبدأ بالحدوث في جسم الإنسان مباشرةً بعد الوصول إلى المدار حول الأرض. وجد الباحثون، من بين أمور أخرى، تغييرات في وظائف خلايا الجهاز المناعيّ لدى أفراد الطاقم الذين قضوا ثلاثة أيّام فقط في الفضاء، بما في ذلك تغيير في مستوى 18 سيتوكين (Cytokines) على الأقلّ، وهي مواد تُفرَز أثناء عمليّة ردّ فعل التهابيّ. كذلك، حدّد الباحثون تغييرات في جينات إضافيّة؛ تغييرات في مستوى البروتينات في الدم، بما في ذلك التي قد تشير إلى انخفاض في عمل حاجز الدم في الدماغ (Blood brain barrier - BBB)، والذي يحدّ من تغلغل موادّ معيّنة إلى الدماغ؛ تغييرات في الميكروبيوم؛ إطالة التيلوميرات، وهي الهياكل الموجودة في نهاية جزيئات الحمض النووي والتي يرتبط تقصيرها عادة بشيخوخة الخلايا. من ناحية أخرى، لم يجد الباحثون في عيّنات الدم لطاقم "انسبيريشن 4" زيادة في كمية الحمض النوويّ للميتوكوندريا، وهو ما لوحظ لدى روّاد الفضاء في مهمّات أطول في الفضاء. مع ذلك، لاحظ الباحثون أنّ حوالي 95% من التغييرات عادت بعد وقت قصير من عودة الطاقم إلى الأرض، وفقط عدد قليل من التغييرات كانت ما تزال واضحة في الفحوصات التي أُجريت على الفريق بعد ثلاثة أشهر من المهمّة.
مع ذلك، فإنّ البحث الذي أُجري على فريق "انسبيريشن 4" له عدّة قيود، أوّلًا - تعتبر هذه الدراسة صغيرة جدًّا بحيث تحتوي على أربعة أشخاص فقط. يتطلّب التحقّق من النتائج إجراء دراسات متابعة على رواد الفضاء الخاصين، سياح الفضاء وروّاد الفضاء المحترفين. كذلك، معظم الاختبارات تعتمد على المؤشّرات الحيويّة: أي تغييرات في مستوى البروتينات والموادّ الأخرى في الدم. تعتبر هذه المؤشّرات الحيويّة أداة بحثيّة مهمّة، ولكن في كثير من الحالات، إنّ التغيير في مستوى البروتين، أو حتّى في مستوى نشاط معين، لا يعتبر كافيًا لاعتباره تغيّرًا سريريًّا، أو ظاهرة طبّيّة / صحّيّة ذات عواقب حقيقية. مع ذلك، قد تشير هذه التغييرات إلى بداية عمليّات التي من شأنها أن تؤدّي إلى تغييرات سريريّة - فنحن نعلم جيّدًا أنّ الإقامة لفترة طويلة في ظروف جاذبيّة صُغرى يصاحبها تغيرات فسيولوجيّة كبيرة، مثل فقدان الكتلة العظمية والعضلية. أضاف ماسون : "إنّ جمع البيانات الطبية لروّاد الفضاء من خلال قاعدة البيانات والعيّنات، ستساعد الباحثين على تحسين فهمنا للتغيّرات التي تحدث في الجسم، ممّا قد يساعد في تطوير طرق التعامل معها".
نتائج مثيرة للاهتمام، ولكن هناك حاجة إلى التحقّق من عواقبها. فريق مهمّة انسبيريشن 4 في مركبة دراغون الفضائية | تصوير: Inspiration4 crew
نساء من المريخ
إحدى النتائج المثيرة للاهتمام لمجموعة الدراسات، هي الاختلافات في ردود الفعل الفسيولوجية بين الرجال والنساء الذين سافروا للفضاء. وفقًا للباحثين، فإنّ العديد من التغييرات في مستوى الجينات والبروتينات كانت أوضح لدى الرجال. مع ذلك، فإنّ هذه النتائج تعتمد بشكل أساسيّ على عيّنة صغيرة من الأفراد من مهمّة "انسبيريشن 4"، بالإضافة إلى أنّه لم تجرى دراسات أخرى حول مقارنة الفروقات الفسيولوجيّة، بين الرجال والنساء الذين سافروا للفضاء. شارك الباحثون في المقال :"تشير البيانات المتراكمة حتّى الآن إلى أنّ التغيّرات في التحكّم في مستوى الجينات والاستجابة المناعيّة أكثر حساسيّةً لدى الرجال منها لدى النساء. هناك حاجة إلى المزيد من الدراسات للتحقّق من هذه التغيّرات، لكن قد يكون لنتائج كهذه آثار على الفترات الزمنيّة، اللازمة للتعافي بعد مهمّة فضائيّة واختيار الأفراد في طاقم المهام".
أكثر ملاءَمةً لرحلات الفضاء من الرجال؟ هايلي أرسينوي (يمين) وسيان بروكتور أثناء مهمّة انسبيريشن 4 | تصوير: Inspiration4 crew
كما ذكرنا - حتّى لو تبيّن أنّ النتائج صحيحة، فإنّها لا تشير بالضرورة إلى اختلافات طبّيّة قد تؤثّر على أداء المرأة مقارنةً بالرجال في الفضاء. لكن هذا لم يمنع ماسون وزملاءَه من الإسراع في التصريح بأنّه قد تكون قدرة النساء على التحمّل أعلى من الرجال في البعثات الفضائيّة، وحتى وضع افتراضات حول سبب ذلك. قال ماسون لصحيفة الغارديان : "إنّ القدرة على التعامل مع التغيّرات الفسيولوجيّة والتغيرات في ديناميكيات السوائل، قد تكون وسيلة ممتازة للتعامل مع التغيّرات التي تحدث في الجسم أثناء الحمل، ولكن أيضًا للتعامل مع تحدّيات رحلات الفضاء على المستوى الفسيولوجيّ".
مع ذلك، إذا تبيّن فسيولوجيًّا أنّ النساء أكثر ملاءَمةً لرحلات الفضاء من الرجال، فسيكون ذلك بمثابة خاتمة لطيفة لإرث الطبيب الأمريكيّ راندي لوفليس (William Randolph Lovelace). في أواخر الخمسينيّات من القرن الماضي، قاد لوفليس عمليّات الفحوصات الطبّيّة الانتقائيّة لروّاد فضاء رحلات ناسا، لكنّه اعتقد أيضًا أنّ النساء يمكن أن يكنّ مناسبات مثل الرجال تمامًا، بل وربّما أفضل، ويعود ذلك جزئيًّا إلى أنّ أحجام أجسامهنّ أصغر، وتستهلك كمّيّة أقلّ من الأوكسجين، وهو أمر مهم. بدأ لوفليس خطّة لتجنيد النساء في برنامج الفضاء الأمريكي، ولكن انتهى الأمر بالإلغاء لأسباب سياسية. استغرق الأمر أكثر من عشرين عامًا قبل أن تطير أوّل امرأة أمريكية إلى الفضاء، والعديد من السنوات للنضال من أجل المساواة بين الجنسين في الفضاء، والذي ربما لم ينته حتّى اليوم. لربّما في النهاية سوف ينجح العلم في تحقيقه.