يدعم بحث جديد النّظريّة الّتي تنصّ على أنّ آليّة تآكل الكروموسومات في خلايانا تهدف إلى منع تطوّر الأورام السّرطانيّة
يُرزَم الـ DNA - المادّة الوراثيّة الّتي تحتوي على جميع التّعليمات اللّازمة لبناء الجسم وأداء عمله - في خلايا جسمنا داخل 23 زوجًا من الكروموسومات. عندما تنقسم الخليّة، عليها أن تنسَخ ال DNA بها لكي تحصل الخليّتان الجديدتان على نسخة كاملة من تعليمات العمل هذه. إحدى مشاكل هذه العمليّة هي أنّه عند انقسام الخليّة، تقصر/تتآكل أطراف الكروموسومات قليلًا، وبالتّالي تُفقد معلومات وراثيّة مهمّة. يستطيع الجسم التّغلّب على هذه الظّاهرة، إلّا أنّ أبحاثًا جديدة تشير إلى أنّه بدون رقابة شديدة، قد تؤدّي هذه الآليّة إلى الكثير من الانقسامات الخلويّة، ممّا يزيد من احتمال تحوّلها إلى خلايا سرطانيّة.
لتجنّب فقدان المعلومات الوراثيّة، هناك تيلوميرات في أطراف جميع الكروموسومات - هي سلاسل DNA فارغة المضمون من حيث المعلومات الوراثيّة، وتتمثّل وظيفتها في حماية المعلومات الوراثيّة عند انقسام الخلايا. نظرًا لأنّ مضمونها ليس مهمًّا، فلا توجد أيّة مشكلة في تآكلها. ولكن بعد عدد معيّن من الانقسامات، تقصر التيلوميرات بشكل كبير جدًّا ولا تتمكّن بعد من حماية المادّة الوراثيّة الفعّالة - أي الجينات، فتفقد الخليّة قدرتها على الانقسام ويُحكم عليها بالموت أو التّحوّل إلى خليّة "عجوز" تالفة.
هذا لا يحدث في جميع خلايانا، إذ توجد في أجسامنا، أيضًا، خلايا جذعيّة قادرة على الانقسام عدّة مرّات والتّمايز إلى أحد أنواع الخلايا من مختلف التّخصّصات. يوجد في الخلايا الجذعيّة إنزيم يدعى تيلوميراز، الّذي يجدّد التيلوميرات فيها في كلّ انقسام للخليّة وبالتّالي يحافظ على طولها. هذا الإنزيم غير فعّال في الخلايا الأخرى، ولذلك عدد الانقسامات الخلويّة محدود.
يؤدّي تقصير التيلومير إلى تسارع الشّيخوخة. عندما لا تقدر الخلايا بعد على الانقسام، لا تتجدّد الأنسجة ويضعف أداء عملها السّليم. ومن هنا يُطرح السّؤال: لماذا لا تملك كلّ الخلايا القدرة غير المحدودة على تجديد التيلوميرات الخاصّة بها؟ إذ بهذه الطّريقة يمكن تجنّب بلوغ الشّيخوخة.
لتجنّب فقدان المعلومات، هناك تيلوميرات في أطراف جميع الكروموسومات - هي تسلسلات من الـ DNA فارغة المضمون من حيث المعلومات الوراثيّة. الكروموسومات البشريّة | رسم توضيحيّ: Alfred Pasieka / Science Photo Library
التّيلوميرات تقي من السّرطان
مع الوقت، تطرأ تغييرات صغيرة، تسمّى طفرات، في ال DNA في خلايانا. هي تحدث جرّاء التّعرّض لموادّ ضارّة أو أشعّة أو نتيجة لأخطاء تحدث خلال انقسام الخلايا. يمكن أن تكون بعض هذه الطّفرات خطيرة، وتؤدّي إلى تحويل الخلايا الطّبيعيّة إلى سرطانيّة، ممّا يعني أنّها تنقسم تكرارًا دون رقابة وتسبّب في تطوّر ورم سرطانيّ. لذلك، يعتقد بعض العلماء أنّ الحدّ من عدد انقسامات الخليّة يهدف إلى تقليل احتمال تراكم الطّفرات السّرطانيّة.
من المعروف أنّه في جميع أنواع السّرطان تقريبًا، تتجدّد فعاليّة إنزيم التيلوميراز، وليس من الواضح بعد ما هو السّبب وما هي النّتيجة: هل التيلوميراز هو الّذي أتاح المزيد من الانقسامات، ممّا أدّى إلى تراكم الطّفرات، أم حدثت الطّفرات قبل تفعيل التيلوميراز؟ والتيلوميراز ما هو إلّا آليّة أخرى تمكّن الخلايا من الانقسام بدون حدود.
تُظهر دراسة جديدة نشرها باحثون من جامعة روكفلر في نيويورك، في المجلّة العلميّة eLife، دلائل جديدة على أنّ هدف تآكل التيلوميرات هو الوقاية من السّرطان. ركّزت الدّراسة على عائلتين هولنديّتين ذات تاريخ حافل بالحالات السّرطانيّة. في إحداها، أصيب أربعة أفراد من العائلة بالسّرطان من ثلاثة أجيال مختلفة، وفي العائلة الثّانية مرض ستّة أفراد على مدى ثلاثة أجيال، وقد أُصيبت إحدى المرضى بما لا يقلّ عن خمسة أنواع مختلفة من السّرطان.
عندما فُحص تسلسل الـ DNA في الأورام، كُشف عن طفرات مميِّزة للخلايا السّرطانيّة الّتي لا تظهر في الخلايا الطّبيعيّة. عندما فحص الباحثون ال DNA في خلايا الدّم البيضاء لأفراد الأسرة، وُجدت عند البعض، حتّى الّذي لم يُصَبْ بالسّرطان، طفرات فطريّة في الجين المسؤول عن إنتاج بروتين TIN2. يلعب هذا البروتين دورًا في حماية التيلوميرات ومراقبة طولها. كشف فحصٌ آخر أنّ طول التيلومير في خلايا الدّم البيضاء في هذه العائلات كان عاليًا جدًّا- أطول من %99 من تيلوميرات باقي السّكّان. عندما قاموا بتنمية الخلايا في المختبر لإنتاج هذا البروتين الّذي يحتوي على طفرة، وجد الباحثون أنّه لم يتمكّن البروتين من الارتباط بالبروتينات الأخرى المشارِكة في عمليّة تنظيم طول التيلوميرات، ولا بالتيلوميرات نفسها.
قام الباحثون، فيما بعد، بإحداث الطّفرات نفسها، بشكل مصطنع في المختبر، في الخلايا الّتي كان إنزيم التيلوميراز فعّالًا فيها، وفحصوا كيف تؤثّر على طول التيلومير. وفقًا للقياسات، بعد بضعة انقسامات، كانت تيلوميرات الخلايا المهندَسة أطول بكثير من تيلوميرات الخلايا الطّبيعيّة. من هنا يمكن أن نستنتج أنّ التّغيير الّذي حدث في الشّيفرة الجينيّة يمنع الإنزيم من تنظيم طول الكروموسومات بشكل سليم. لاحظ الباحثون، أيضًا، أنّه في الخلايا الّتي لا تحتوي على الإنزيم تيلوميراز، لم يتأثّر طول التيلوميرات بالطّفرات، أي أنّ ظاهرة وجود التيلوميرات الطّويلة تحدث فقط بوجود الإنزيم.
تدعم نتائج الدّراسة النّظريّة النّاصّة على أنّ هدف تآكل التيلوميرات هو الوقاية من السّرطان. يبدو أنّه يتحدّد طول التيلوميرات عندما تنقسم الخلايا الجذعيّة، تحصل على تخصّصها النّهائيّ وتتوقّف عن إنتاج التيلوميراز. تيلوميرات الأشخاص المصابين بالطّفرة هي أطول من العادة منذ البداية، ويبدو أنّ هذا ما يزيد من احتمال إصابتهم بالسّرطان عند تراكم الطّفرات. نأمل أن يساهم تشخيص طول التيلومير في الخلايا وتمييز الطّفرات في البروتينات المرتبطة بالحفاظ عليهم، في التوقّع بشكل أفضل بمن سوف يصاب بالسّرطان.