استخدام جديد لمنظومة كريسبر، يعطّل إنتاج البروتين بدلًا من مقطع الجين، ينجح في تحسين الحالة الصّحّيّة لفئران بالغة تعاني من فرط الدّهون في أجسامها

السّمنة المَرَضيّة هي مشكلة صحّيّة خطيرة تؤثّر في حوالي نصف مليار شخص في الدّول المتقدّمة، وهي نابعة من أسباب جينيّة وأسباب سلوكيّة مثل عدم اتّزان النّظام الغذائيّ وقلّة النّشاط البدنيّ. هناك العديد من المخاطر الصّحّيّة الناتجة عن السّمنة، بما في ذلك أمراض القلب والأوعية الدّمويّة، السكتة الدماغيّة، السكّري من النّوع 2، والسّرطان.

تنتج السّمنة عن تناول سعرات حراريّة أكثر من التي يتمّ حرقها. يحتفظ الجسم بفائض السّعرات على شكل دهون - جزيئات غنيّة بالطّاقة تُخزَن في الأنسجة الدّهنيّة في كلّ الجسم، في خلايا تُدعى الخلايا الشّحميّة (Adipocytes). تفرِز هذه الخلايا هرمونات وبروتينات تحفّز عمليّة تكوين الالتهابات (cytokines)، ويبدو أنّها بهذه الطريقة تزيد من خطر الإصابة بأمراض معيّنة.

تشمل أساليبُ علاج السّمنة الالتزامَ بنظام غذائيّ متّزن وممارسة الرياضة، استخدام أدوية قاطعة للشّهيّة، وحتّى عمليّات جراحيّة مثل تصغير المعدة. ولكن يبدو أن طريقة جديدة ستنضمّ إلى اللائحة في السنوات القادمة. فوفقًا لدراسة نُشرت مؤخّرًا، يمكن علاج السّمنة بواسطة عمليّة تعديل جينيّ.

أُجريت هذه الدّراسة في كوريا الجنوبية، وكان تركيزها على بروتين فعّال في الخلايا الشّحميّة يدعى Fabp4.  تشارك بروتينات هذه العائلة في نقل الأحماض الدّهنيّة إلى الخلايا الشّحميّة وامتصاصها. Fabp4 هو البروتين الأكثر شيوعًا في الخلايا الشّحميّة، وعلى الرّغم من عدم وضوح وظيفته البيولوجيّة الدّقيقة حتّى الآن، وُجدت علاقة بينه وبين تطوّر مرض السّكّري من النّوع 2، تكوّن الالتهابات، وعمليّات الأيض (التّمثيل الغذائيّ) المرتبطة بالدّهون لدى الفئران. تؤدي عمليّة محو الجين المسؤول عن إنتاج هذا البروتين في الفئران إلى تعطيل قدرة الخلايا الشّحميّة على تخزين الدّهون، وتقي بالتالي من تطوّر الداء السكّري من النّوع 2 وتصلّب الشّرايين.

حتّى الآن، ركّزت الدّراسات الّتي أُجريت على Fabp4 على نماذج حيوانيّة، مثل الفئران الّتي هُندست وراثيًّا لتولد دون الجين المسؤول عن هذا البروتين. أمّا الآن فكان الهدف مختلفًا: تعديل جينات الفئران البالغة الّتي تعاني من السمنة باستخدام منظومة كريسبر (CRISPR)، وذلك لتقليل كميّة هذا البروتين في خلاياها الشّحميّة.

كريسبر هي منظومة تتيح تعديل الجينات بصورة سهلة وناجعة، وقد أصبحت في السّنوات الأخيرة رائدة في الأبحاث الّتي تتناول العلاج الجينيّ لمجموعة متنوّعة من الأمراض. تشتمل المنظومة على بروتين يدعى Cas9 يقطع تسلسلًا معيّنًا من الـ DNA، وبالتّالي يمنع تكوين البروتين الذي يحتوي هذا التّسلسل على تعليمات تكوينه. هذه المرّة، استخدم الباحثون نظامًا فريدًا من نوعه يدعى dCas9، يعتمد على بروتين Cas9 غير فعّال، وبالتّالي لا يمكنه قطع التّسلسل الذي يتمّ توجيه البروتين إليه. بدلاً من ذلك، يعطّل dCas9 نسخ الجين للبروتين الّذي يترجم إليه، وبذلك يقلّل من كميّة البروتين الناتجة في الخليّة.

 

خفض الوزن دون "تقطيع الجين" 

يتمتع هذا التوجّه بالعديد من الإيجابيّات، مقارنةً باستخدام كريسبر بالشكل المألوف. مثلًا، بسبب عدم قطع الجين المستهدف، ثمة احتمال ضئيل أن تحدث آثار جانبيّة ناتجة عن القطع في أماكن خاطئة، وهي ظاهرة قد وُثّقت سابقًا في منظومات كريسبر العاديّة. قرّر الباحثون محاولة استخدام dCas9 ضدّ الجين المسؤول عن تكوين Fabp4.

تحتاج منظومة كريسبر إلى آليّة تُدخِلها إلى الخلايا المستهدفة، حيث يمكنها أداء عملها. في هذه الحالة، ربَط الباحثون بالمنظومة ببتيدًا قصيرًا - سلسلة من الأحماض الأمينيّة، الّتي هي حجر الأساس للبروتينات. ولتوجيه منظومة كريسبر إلى الخلايا الشّحميّة فقط، استخدموا الببتيد الذي يقوم بتمييز مُستقبِل موجود على الأوعية الدّمويّة للأنسجة الدّهنيّة.

أوّلاً، وجد الباحثون أنّ منظومة كريسبر الجديدة قد أكملت مهمّتها، حيث قلّلت من كميّة البروتين بحوالي 60% في الخلايا الشّحميّة التي تنمو في مستنبت الخلايا، مقارنةً بالخلايا غير المعالَجة. وعندما فحصوا بعد ذلك قدرة المنظومة على بلوغ الخلايا المستهدفة في أجسام الفئران الحيّة، وجدوا أنّ البروتين تراكم بشكل خاصّ في الأنسجة الدّهنيّة. مع ذلك، يمكن إيجاده في أعضاء أخرى أيضًا، وخاصّةً في الكبد.

أخيرًا، فحص الباحثون قدرة المنظومة على تعطيل إنتاج البروتين Fabp4 في أجسام الفئران والحدّ من السّمنة المرضيّة لديها. أعطى الباحثون الفئرانَ في البداية نظامًا غذائيًّا غنيًّا بالدّهون، وفي غضون 14 أسبوعًا أصبح لدى الفئران وزن زائد وتطوّرت لديها أعراض شبيهة بالسّكّري من النوع 2 لدى الإنسان. بعد ذلك، قاموا بحقنها بالمنظومة مرّتين في الأسبوع لمدّة ستّة أسابيع.

راقب الباحثون وزن الفئران ومقاييس أخرى أيضًا، ووجدوا أنّ العلاج الجينيّ أدّى إلى انخفاض بنسبة 20% في وزن الفئران المعالَجة، دون تغيير كميّة الطّعام المستهلكة. بالإضافة إلى ذلك، انخفض مستوى السكّر في الدم بشكل ملحوظ، تحسّن مستوى مقاومة الإنسولين، الذي يشير إلى الداء السّكّري من النّوع 2، وطرأ انخفاض كبير في مستوى الأحماض الدّهنيّة والسيتوكينات التي تحفز عمليّة تكوين الالتهاب في دم الفئران المُعالَجة.

تجسّد الدّراسة القدرة الكامنة في عمليّة تعطيل الجينات من خلال منظومة كريسبر لعلاج الأمراض، والقدرة على استخدام الببتيدات لتوجيه المنظومة إلى الهدف الصحيح. مع ذلك، ما زالت الطّريق طويلةً لتطبيق هذا التّوجّه على الإنسان. فبادئ ذي بدء، يجب التأكّد من عدم تأثير العلاج على خلايا أخرى وعدم تسبّبه بآثار جانبيّة، إذ إنّ Fabp4 يعمل أيضًا في خلايا أخرى، مثل الخلايا البلعمية الكبيرة (macrophages) في جهاز المناعة.

بالإضافة إلى ذلك، يجب فحص مدّة تأثير عمليّة تعطيل البروتين Fabp4 على الخلايا الشّحميّة بعد العلاج، وكذلك التّأكد من عدم التسبّب بتأثيرات طويلة الأمد في أداء الخلايا الشّحميّة. من المهمّ أيضًا التاكّد من عدم حدوث استجابة مناعيّة ضدّ الببتيد، يمكنها أن تمنع تكرار الحقن. وإلى أن يتمّ إثبات نجاعة العلاج وسلامته لدى الإنسان، يبدو أنّ أفضل طريقة لمكافحة أضرار السّمنة المرضيّة لا تزال الحفاظ على نمط حياة صحّيّ ونظام غذائيّ متّزن.

 

 

الترجمة للعربيّة: د. ريتّا جبران
التدقيق اللغوي: أ. موسى جبران
الإشراف العلمي والتحرير: رقيّة صبّاح أبو دعابس

 

0 تعليقات