أظهرت دراسة حديثة أنّ استنشاق دموع الآخرين قد يؤدّي إلى تقليل السّلوك العدوانيّ لدى الأفراد.

البكاء هو استجابة جسديّة طبيعيّة لدى البشر ترتبط بانفعالات شعوريّة حادّة ويُعدّ وسيلة مهمّة للتّعبير عن العواطف والتّنفيس عنها. قد يكون البكاء االمصحوب  بتدفّق الدّموع، استجابةٍ لأحداث محزِنة، ضغوطات نفسيّة، أو حتّى لحظات فرح أو حماس انفعاليّ. كما ويُعتبر إشارةً تساعدنا على فهم مشاعر الآخرين المحيطين بنا، وإدراك  فيما إذا كانوا يمرّون بضائقة عاطفيّة أو محنةٍ ما.

قد تبدو أهمّية التّعبير عن المشاعر هذه ا بديهيّة بالنّسبة للعديد من النّاس، ومع ذلك، فإنّ البكاء يُعدّ سلوكًا معقّدًا لا يقتصر على البشر فحسب، بل يظهر أيضًا عند بعض الحيوانات الأخرى. ورغم ذلك، لا نفهم تمامًا دوره وأهمّيّته. قد أظهرت الأبحاث الحديثة أنّ الدّموع تحمل إشارات كيميائيّة تمكّن البشر من إرسال رسائل عاطفيّة إلى من حولهم والتّأثير على سلوكهم. في دراسة حديثة أجراها مختبر نعوم سوبل في معهد وايزمان للعلوم، اكتشف الباحثون أنّ استنشاق الرّجال لدموع النّساء يقلّل من ميلهم للتّصرّف بعدوانيّة.
 

السّير في أعقاب العبير

ينتِج جسم الإنسان باستمرار إفرازات متنوّعة، تؤدّي أدوارًا حيويّة مختلفة. العرق على سبيل المثال، هو إفراز يتكوّن في معظمه من الماء، الّذي يتبخّر من على سطح الجلد، ليساعد في تبريد الجسم عند ارتفاع درجات الحرارة. أمّا الدّموع، فهي نوعٌ آخر من الإفرازات الّتي تساهم في ترطيب العينيْن وحمايتهما من الجفاف، كما تلعب دورًا في الوقاية من العدوى بفضل البروتينات الخاصّة المكافحة  للجراثيم. وإلى جانب هذه الوظائف المعروفة، يتميّز كلٌّ من العرق والدّموع بخاصيّة أخرى هي أقلّ شهرة: القدرة على نقل إشارات كيميائيّة.

يحمل الهواء من حولنا عددًا هائلًا من الرّوائح الّتي تحمل معلومات حيويّة، مثل: رائحة الطّعام الفاسد الّتي تحذّرنا من تناوله، أو رائحة الدّخان الّتي تنبّهنا عند نشوب حريق. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ للرّائحة قدرة على الإفصاح عن معلومات عن حالة الأشخاص القريبين منّا. ورغم أنّنا غالبًا ما نتجاهل حاسّة الشّمّ، إلّا أنّها تؤثّر بشكلٍ كبيرٍ على حياتنا. فالرّوائح الّتي تدخل أنوفنا باستمرار قد تؤثّر على توازن الهرمونات في الجسم ونشاط الجهاز العصبيّ، لينعكس هذا التّأثير على سلوكنا في نهاية المطاف. لنأخذ العرق مثالًا على ذلك، فإنّه يحتوي على مجموعة متنوّعة من الموادّ الّتي تتغيّر تركيبتها بناءً على حالة الشّخص المتعرّق، وعندما نشمّ الإشارات الكيميائيّة الّتي يفرزها شخص آخر عبر العرق، فقد تختلف استجابتنا وفقًا لتركيبة تلك الإشارات الفريدة.

لا تزال التّأثيرات المحتملة للإشارات الكيميائيّة الموجودة في الدّموع على السّلوك البشريّ غير مفهومة تمامًا، رغم أنّ هناك العديد من الأدلّة الّتي تشير إلى وجود علاقة كهذه في عالم الحيوانات. على سبيل المثال، وجدوا  أنّ دموع ذكور الفئران تحتوي على بروتين يزيد من النّشاط الجنسيّ لدى الإناث. كما تفرز صغار الفئران بروتينًا آخر في دموعها يشير للذّكور البالغين بعدم ممارسة سلوكيّات جنسيّة تجاههم قبل وصولهم إلى مرحلة النّضج الجنسيّ.

رغم أن الدّراسات حول تأثير الدّموع على السّلوك البشريّ لا تزال في بداياتها، إلّا أنّ هناك بالفعل أدلّة تشير إلى أنّ الإشارات الكيميائيّة في الدّموع تؤثّر على جسم الإنسان. سابقًا، اكتشف الباحثون في مختبر نوعام سوبل أنّ رائحة دموع النّساء تقلّل من مستويات هرمون التّستوستيرون لدى الرّجال، وهو ردّ فعل جسديّ مرتبط بانخفاض السّلوك العدوانيّ. وفي آخر أبحاثهم، استخدم الباحثون أدوات إضافيّة لفحص مدى تأثير استنشاق الدّموع على نشاط الدّماغ لدى المشاركين وسلوكهم.


اكتشف الباحثون في تجربة سابقة أنّ رائحة دموع النّساء تقلّل من مستوى هرمون التّستوستيرون لدى الرّجال. يظهر في الصّورة رجل يشمّ محتويات زجاجة |  Studio Romantic, Shutterstock

البكاء من أجلك

جنّد الباحثون ستّ متطوّعات في العشرينيّات من أعمارهنّ، والّلاتي يتمتّعن بقدرة على البكاء بسهولة. عُرضت على المتطوّعات مقاطع فيديو مؤثّرة أدّت إلى بكائهنّ، وتمّ جمع دموعهنّ في أوعية خاصّة. في المرحلة التّالية، طُلب من المشاركين الذّكور في التّجربة شمّ عيّنات تحتوي إمّا على دموع المتطوّعات أو محلول ملحيّ وُضع على خدود النّساء. كلتا العيّنتيْن كانتا، على ما يبدو، عديمتي الرائحة. ومن ثمّ، طُلب من الذّكور المشاركة في لعبة فيديو مصمّمة لكسب المال، وقيل لهم بأنّهم يلعبون ضدّ خصم آخر. ما لم يعرفه المشاركون هو أنّ الخصم لم يكن شخصًا حقيقيًّا، بل كان مجرد برنامج كمبيوتر يتعمّد استفزازهم وسرقة أموالهم الافتراضيّة أثناء اللّعبة. كما  أُتيح لهم خيار الانتقام من الخصم بدون مكافأة ماليّة، أو تجاهل المضايقات ومواصلة اللّعب لكسب المال.

أظهرت النّتائج أنّ استنشاق دموع النّساء كان له أثر واضح على سلوك المشاركين الذّكور، لدرجة أنّ الباحثين فوجئوا بحجم هذا التّأثير، حيث انخفضت السّلوكيّات الانتقاميّة الّتي تعكس نوعًا من العدوانيّة بنسبة 40% بعد استنشاق الدّموع، مقارنةً مع استنشاق المحلول الملحيّ. من المرجح أنّ هذا التّغيّر في السّلوك يعكس انخفاض مستويات هرمون التّستوستيرون لدى الرّجال الّذين شمّوا الدّموع.

من ثمّ، تابع الباحثون نشاط أدمغة المشاركين باستخدام تقنيّة التّصوير بالرّنين المغناطيسيّ الوظيفيّ (fMRI) أثناء اللعب لفهم العمليّات العصبيّة وراء هذا التّغيّر السّلوكيّ، فأظهرت الفحوصات انخفاضًا في نشاط مناطق الدّماغ المرتبطة بالسّلوك العدوانيّ بعد استنشاق الدّموع، تماشيًا مع المستجدّات السّابقة.


قام الباحثون بفحص ما إذا كان الأنف البشريّ يحتوي على مستقبلات شمّ تستجيب للدّموع، ووجدوا أربعة أنواع من المستقبلات الّتي تفاعلت معها. مستقبلات الشّمّ في الأنف | رسم توضيحيّ: Nemes Laszlo / Science Photo Library.

رائحة الدّموع وعمليّة الشّمّ

يُعدّ عضو جاكوبسون (العضو الميكعيّ الأنفيّ; Vomeronasal organ) العضو الأساسيّ لالتقاط الإشارات الكيميائيّة الاجتماعيّة عند العديد من الحيوانات. ويُعتقَد أنّ هذا العضو قد تضاءل أو حتّى اختفى عند البشر، ممّا قد يفسر استجابتنا المحدودة لهذه الإشارات.

للتّحقّق من كيفيّة استجابة البشر للإشارات الكيميائيّة في الدّموع، قام الباحثون بفحص ما إذا كان الأنف البشريّ يحتوي على مستقبلات تستجيب لهذه الإشارات. تعمل هذه المستقبلات كمجسّات صغيرة، تلتقط الجزيئات الموجودة في الهواء، ممّا يسمح للأنف بإرسال الإشارات الكيميائيّة إلى الدّماغ. في المختبر، نجح العلماء في زراعة خلايا عصبيّة تحتوي على 62 نوعًا من المستقبلات، من بين 350 نوعًا موجودة في الأنف البشريّ. ووجدوا أنّ أربعة من هذه المستقبلات تستجيب للدّموع، لكنّها لا تستجيب للمحلول الملحيّ.

خلاصة

بيئتنا مليئة بالإشارات الّتي يلتقطها جسمنا ويحلّلها دون وعي منّا. تحتوي الدّموع الّتي نذرفها على إشارات كيميائيّة تلتقطها حاسّة الشّمّ، وقد تؤثّر هذه الإشارات على سلوكنا، كما هو الحال في تقليل العدوانيّة لدى الرّجال.

رغم تراكم المعرفة الجديدة على مرّ السنين، لا يزال هناك الكثير ممّا نجهله بعد حول تأثير الإشارات الكيميائيّة في الدّموع على سلوكنا. لقد تمّ في هذه الدّراسة فحص تأثير دموع النّساء على سلوك الرّجال فحسب، ولا بدّ أن يتمّ في المستقبل دراسة تأثير دموع الرّجال على كلا الجنسيْن. لكن ما أصبح واضحًا الآن أكثر من أيّ وقت مضى هو أنّ للدّموع دورًا مهمًّا في التّواصل بين البشر، وأنّ بعض العوامل المؤثّرة على سلوكيّاتنا قد تكون أقرب ممّا نتصوّر– وربما تحت أنوفنا مباشرة.

 

0 تعليقات