لماذا يكون الجليد زلِقًا؟ يتّضح أنّ الإجابة على هذا السؤال معقّدة ومثيرة للاهتمام
يصف كورت فونيجت (Kurt Vonnegut) في كتابه "مهد القطة" (Cat's Cradle) مادّةً جديدةً ومثيرةً للاهتمام تُسمّى "الجليد تسعة" (ice-nine)، وهي حالة صلبة من الماء، تبلغ نقطة ذوبانها عند الضغط الجوّيّ للأرض 45.8 درجة مئويّة، بدلًا من صفر درجة مئويّة. عندما يتلامس الجليد تسعة مع الماء عند درجة حرارة أقلّ من نقطة ذوبانه - فإنّه يتجمّد على الفور.
كان برنارد، شقيق فونجيت، عالمًا متخصّصًا في دراسة بلورات الجليد في الغلاف الجويّ، وكان يُعتقد لعدّة سنوات أنّه صاحب الفكرة. لكن فيما بعد تبيّن أنّ فونجيت كان قد تعرّف على الفكرة قبل ذلك بسنوات، عن طريق الكيميائيّ الحائز على جائزة نوبل إيرفينغ لانجميور (Irving Langmuir). في ذلك الوقت، كان لانجميور يأمل في إثارة اهتمام كاتب الخيال العلميّ الشهير، هربرت جورج ويلز (Herbert George Wells) ليكتب كتابًا يعتمد على أبحاثه العلميّة. في السنوات الأخيرة، اكتسب "الجليد تسعة" الخياليّ اهتمامًا متجدّدًا، حيث حاول بعض الباحثين استكشاف إمكانيّة وجوده في الكون. هذا مثال آخر على كيفيّة تداخل العلم مع الخيال العلميّ، لكن هذه ليست سوى مقدّمة لأخبار من مملكة الجليد.
بعد مرور 60 عامًا على إصدار كتاب "مهد القطة"، نجح فريق من الفيزيائيّين الصينيّين في العثور على إجابة للغز التجمّد الذي حيّر العلماء لفترة طويلة: لماذا يكون الجليد زلِقًا؟ قد يبدو السؤال بسيطًا للغاية، بل وربّما سخيفًا، لكن غالبًا ما يسعى الفيزيائيّون لإيجاد إجابات للأسئلة التي تبدو واضحة، لكنّها تكشف عن تعقيدات عند البحث عنها بعمق. قد نُشرت النتائج التي توصّلوا إليها مؤخّرًا في أبحاثهم في مجلة "نيتشر" Nature.
كيف يمكن تفسير أنّ الجليد زلِق حتّى عند درجات حرارة أقلّ من درجة حرارة ذوبانه؟ فتاة تنزلق وتتعثّر على الجليد | New Africa, Shutterstock
على وجه السطح
بالفعل في القرن التاسع عشر، تساءَلَ مايكل فاراداي (Michael Faraday)، أحد مؤسّسي النظريّة الكهرومغناطيسيّة الكلاسيكيّة، عن السبب وراءَ الطبيعة الزلِقة لسطحِ الجليد. لو كانت هذه الظاهرة تصف الجليد عند وصوله إلى درجة حرارة ذوبانه - صفر درجة مئويّة عند مستوى سطح البحر- لكان التفسير واضحًا: فعند درجة الحرارة هذه، تتشكّل طبقة رقيقة من الماء السائل على سطح الجليد، ممّا يسهّل الانزلاق عليه. مع ذلك، فإنّ الجليد زلِقًا وخطيرًا للمشي عليه حتّى في درجات الحرارة المنخفضة. أطلق فاراداي على هذا الأمر اسم "الذوبان المسبق"، وربطها أيضًا بالظاهرة المصاحبة لالتصاق قطعتيْن من الجليد معًا. على مرّ السنين، طوّرت العديد من النماذج النظريّة التي سعت إلى تفسير هذه الظاهرة.
إذا وضعنا هذه النماذج جانبًا للحظة، فحتّى الآن جميع الدراسات التي فحصت بنية مكعّب الجليد وجدت أنّه موحد، أي أنّهم لم يجدوا أيّ اختلافات بنيويّة بين قشرة ولبّ المكعب في المختبر. وفقًا للباحثين، يعود هذا لأسباب تقنيّة بحتة: شبكة الروابط الكيميائيّة التي تربط جزيئات الماء في القشرة - روابط الهيدروجين التي تتشكّل بين ذرّات الهيدروجين والجزيْئات المجاورة - هي شبكة ضعيفة للغاية وعرضة للتفكّك. كما أنّ الذوبان المسبق عمليّة معقّدة للغاية بحيث لا يمكن مراقبتها بشكل مباشر.
من أجل كشف سرّ الجليد، احتاج الباحثون إلى تقنية جديدة. فحص الباحثون قشرة الجليد ولبّه بواسطة مجهر القوّة الذرّيّة (Atomic force microscopy وباختصار، AFM)، الذي سهّل دراسة سطح المواد. رغم أنّه لا يمكن استخدامه لتحديد المادّة التي يتكوّن منها السطح، إلّا أنّه يسمح بمحاكاة شكل سطح المادة بدقّة ملحوظة. يعتمد المجهر على جهاز استشعار حسّاس لأيّ قوّة تعمل بينه وبين السطح - القوى الكهربائيّة والمغناطيسيّة، والقوى الميكانيكيّة وحتّى التقلّبات الكموميّة. تمارس كلّ منطقة في الفضاء مقدارًا مختلفًا من القوى، وبالتالي من الممكن إعادة إنتاج البُنية الطبوغرافيّة للمادّة بالتفصيل.
أُستخدم المجهر عند درجة حرارة 150 درجة مئويّة تحت الصفر، حيث تحدث ظاهرة الذوبان المسبق. لدهشة الباحثين، اكتشفوا أنّ بنية قشرة مكعّب الجليد تختلف عن تلك الموجودة في لُبّه. تترتّب الجزيئات في هياكل سداسيّة كثيفة في لبّ مكعّب الجليد، في حين في القشرة، فقط بعضها مرتّبة بهياكل سداسيّة بينما يكون للبعض الآخر بُنية مكعّبة.
في أعماق بلورة الجليد، تترتّب الجزيئات في هياكل سداسيّة. الروابط الهيدروجينيّة بين جزيئات الماء في الحالة الصلبة | udaix, Shutterstock
واجهة زلِقة
إنّ البنية السداسيّة للجليد معروفة منذ سنوات عديدة، حيث اكتشفها الكيميائيّ الحائز على جائزة نوبل لينوس بولينج (Linus Pauling) في عام 1935. أمّا البنية المكعّبة فهي أقلّ شهرة بكثير، وأنتِجت لأوّل مرّة في المختبر فقط عام 2020. هاتان البنيتان جزء من 21 مرحلة مختلفة للجليد معروفة للعلم الحديث وتمّت ملاحظتها علميًا. كما ذكرنا، فإنّ "جليد تسعة" ليس من بينها.
بعد تحديد الاختلافات البنيويّة بين قشرة الجليد ولبّه، فحص الباحثون الوسط الذي يفصل بينها، ووجدوا أنّه عند نقطة التقائها تتشكّل عيوب في التركيب البلّوريّ. عندما رفع الباحثون درجة الحرارة في المختبر، ازداد عدم انتظام البُنية البلوريّة، بسبب ازدياد العيوب. وفقًا للباحثين، هذه هي بالضبط ظاهرة الذوبان المسبق: تتشكّل العيوب في نقطة الاتّصال بين قشرة الجليد ولبّه وتخلق اضطرابًا محلّيًّا، والذي نختبره عمليًّا كشعور بأنّ الجليد زلِق. لتأكيد هذه الملاحظات، أجرى الباحثون عمليّات محاكاة حاسوبيّة من مجال كيمياء الكمّ، والتي أظهرت بالفعل أنّ عدم الانتظام المحلّيّ الناتج ينتشر إلى كامل سطح الجليد.
نظرًا للدقّة المطلوبة لتشغيل المجهر، أٌجرِيَت التجربة بأكملها في بيئة خالية من الهواء. وفقًا للباحثين، فإنّ درجات الحرارة المنخفضة جدًّا كانت مصمّمة لمنع الجليد من التسامي - تحوّله الفوريّ من حالته الصلبة إلى الغازيّة دون المرور بالحالة السائلة. يعتزم الباحثون في الخطوة التالية فحص كيفيّة تأثّر بنية الجليد من ومضات الليزر القصيرة، التي تعمل على تسخين سطح الجليد.
فكما قال محتال العلم الخياليّ أوستاب بندر (Ostap Bender)، بطل كتب الكاتبين الروس إيلف وبيتروف، و"اثنا عشر كرسيًّا" و"العجل الذهبيّ"، في تصريحه الشهير: "لقد تشقّق الجليد، أيّها السادة المحلفون" ؛ "The ice has broken, ladies and gentlemen of the jury!" - وهي العبارة التي تُستخدم الآن للإشارة إلى التقدّم بعد فترة من الجمود أو عدم اليقين. في الواقع، تقدّم الدراسة الجديدة إجابةً مقنعةً لسؤال استمرّ لسنوات طويلة، ويكشف الستار عن أسرار الطبيعة تحت طبقة الجليد.