في ظروفٍ خاصّة، تتدفّق الإلكترونات مثل السّائل - وتؤدّي إلى حدوث دوّامات

تمّ اكتشاف الظّواهر الأساسيّة المتعلّقة بالكهرباء من قِبَل الحضارات القديمة قبل نحو 3000 سنة قبل الميلاد، لكنّ الفيزيائيّين بدأوا في البحث بتعمّق عن هذه الظّواهر الطبيعيّة المذهلة والعظيمة في القرون الثلاثة الماضية فقط. وما زال العلم يوسّع معرفتنا بما يخصّ هذه الظّواهر، حيث اكتشف باحثون مؤخّرًا أنّه في ظلّ ظروفٍ معيّنة تُنتِج الإلكترونات دوّامات، في التيّار الكهربائيّ، شبيهةً بالدوّامات الّتي تحدث في التيّارات المائيّة. 

عندما يتمّ تفعيل جهد كهربائيّ على طول مادّة موصلة، مثل المعدن، داخل سلك كهربائيّ، يتولّد تيّار كهربائيّ يتحرّك عبر المادّة. اكتشف الفيزيائيّون في القرن الماضي، أنّ التيّار الكهربائيّ ناتج عن حركة جسيمات ذات شحنة كهربائيّة سالبة تُدعى إلكترونات. ويمكن وصف خصائص التيّار الكهربائيّ من خلال تحليل فيزيائيّ للإلكترونات والموادّ الّتي تتحرّك من خلالها. من بين الأمور الّتي أدّت لها هذه الاكتشافات، الفرضيّة القائلة إنّ حركة الإلكترونات في ظروف معيّنة في المادّة ستكون شبيهة بحركة السّوائل أكثر منها بحركة الجسيمات - وهي ظاهرة قد تتجلّى بتدفّق الإلكترونات في المادّة على شكل دوّامة. في دراسة جديدة، استخدم باحثون من معهد وايزمان ومعهد MIT جهاز استشعارٍ خاصّ، ونجحوا لأوّل مرّة في قياس هذا النّوع من تدفّق الإلكترونات في المادّة.

מעגל חשמלי בטור עם שתי נורות | DK Images, Science Photo Library
 شرح أوم وماكسويل كيفيّة إنشاء التيّار في الدّائرة الكهربائيّة. دائرة كهربائيّة موصولة بمصباحَيْن | DK Images, Science Photo Library 

 

القرن الثّامن عشر والتّاسع عشر: تحليل ظاهرة التيّار الكهربائيّ

حاول العديد من الفيزيائيّين في القرنين الثّامن عشر والتّاسع عشر للميلاد فَهم قوانين الطّبيعة الّتي تصف الظّواهر الكهربائيّة. وضع الفيزيائيّ الألمانيّ جورج أوم (Ohm) قانونًا علميًّا يربط بين الجهد والتيّار في الدّائرة الكهربائيّة، أطلق عليه قانون أوم. في وقت لاحق، وضع الباحث وعالِم الرّياضيّات الاسكتلنديّ جيمس كليرك ماكسويل (MAXWELL) قوانين ماكسويل، الّتي تصف تحرّكات المجالات الكهربائيّة والمغناطيسيّة.

قدّمت هذه القوانين تفسيرًا عميقًا لمجموعة متنوّعة من الظّواهر، بما في ذلك الطّريقة الّتي يتمّ فيها إنتاج التيّار في الدّوائر الكهربائيّة. ومع ذلك، فإنّ العديد من الأسئلة المتعلّقة بطبيعة التيّار الكهربائيّ في المادّة ما زالت بدون إجابة: كيف يمكن الرّبط بين الصفات الميكروسكوبيّة للجسم الموصل وبين تأثيره في التيّار الكهربائيّ الّذي يمرّ من خلاله؟

اكتشف عالم الفيزياء الإنجليزيّ جوزيف جون طومسون (Thomson) الإلكترون في سنة 1897م، وهو جُسَيْم أساسيّ في المادّة يحمل شحنة كهربائيّة سالبة. بعد ذلك بثلاث سنوات فقط، نشر عالِم الفيزياء الألمانيّ بول درود (Drude) نموذجًا يشرح التّفاصيل المجهريّة للتيّار الكهربائيّ في المادّة، بناءً على معرفة أنّ التيّار الكهربائيّ في المادّة ليس سوى حركة الإلكترونات بداخله. يفترض نموذج درود أنّ الإلكترونات بالكاد تؤثّر في بعضها، وأنّ العامل الرئيس الّذي يؤثّر فيها هو الشّحنات الموجبة في الجسم الموصل. تتحرّك الإلكترونات عبر المادّة تحت تأثير الجهد الكهربائيّ الواقع عليها، وفي بعض الأحيان تواجِهُها بعض العقبات - ذرّة تركتها بعض إلكتروناتها لكي تتحرّك في الجسم الموصل، ونتيجة لذلك أصبحت جسيمًا ذا شحنة كهربائيّة موجبة، أو أيونًا موجبًا. نظرًا لكون الجسيم الموجب أكبر وأثقل من الإلكترون، فإنّ الذرّة المشحونة ستبقى مكانها، بينما سيتوقّف الإلكترون أو يغيّر اتّجاه حركته. 

يُعتبر نموذج درود نموذجًا بسيطًا نسبيًّا، وتمّت صياغته قبل اكتشاف الطّبيعة الكموميّة للجسيمات دون الذريّة. لكن على الرّغم من محدوديّته، إلّا أنّه ناجح جدًّا، فقد تمكّن من شرح عدّة ظواهر كانت معروفة في وقتها، مثل مقاومة الموصلات، والطريقة الّتي يولّد بها التيّار الكهربائيّ الحرارة، وكيف ينتشر فيها، بل إنه تطابق مع نتائج بحثيّة معروفة في هذا المجال. 

הדמיה של גילוי האלקטרון | Frances Evelegh, Science Photo Library
اكتشف طومسون أنّ الإلكترون عبارة عن جُسَيْم دون ذريّ يحمل شحنة سالبة. تصوير اكتشاف الإلكترون | Frances Evelegh, Science Photo Library

القرن العشرون: دخول الكموميّة إلى الساحة

أدّى ظهور نظريّة الكموميّة في القرن العشرين إلى استبدال نموذج درود بنظريّة تأخذ بعين الاعتبار الطّبيعة الكموميّة للإلكترونات. وفقًا للنّماذج الحديثة، تتكوّن المادّة الموصلة من شبكة ذرّات تتحرّك بينها الإلكترونات. 

يرتبط أحد التغيّرات المهمّة في النّظريّة بالمعرفة أنّه وفقًا لنظريّة الكموميّة فإنّ الإلكترونات يجب أن تطبّق مبدأ استبعاد باولي، الّذي وفقًا له لا يمكن للإلكترون أن يكون في نفس الحالة الكموميّة لإلكترون آخر. يوضّح هذا المبدأ أنّ الإلكترونات في المادّة تؤثّر في بعضها بطرقٍ لا يمكن تفسيرها بالنظريّات الكلاسيكيّة، لأنّ كلّ إلكترون له حالات "ممنوعة" و"مسموحة". بالإضافة إلى ذلك، اتّضح أنّ صفات الذرّات وترتيبها في المادّة له تأثيرٌ كبير في قدرة الإلكترونات على التّحرّك في المادّة وتوليد تيّار كهربائيّ. عمليًّا، في معظم الموادّ الّتي نعرفها في حياتنا اليوميّة، تتأثّر الإلكترونات الّتي تتحرّك في المادّة بدرجةٍ أكبر بسبب الذرّات الموجودة في المادّة مقارنةً بالإلكترونات الأخرى الموجودة حولها. بناءً على ذلك، فإنّ نّموذج الكموميّة المقبول يشبه نموذج درود لأنّه يهمّش تأثير الإلكترونات في بعضها، لكنّه يختلف في أنّه يأخذ بالاعتبار الطبيعيّة الكموميّة للمادّة، وبالتالي تنتج عنه نتائج مختلفة وأكثر دقّة.

אלקטרונים זורמים בתוך מוליך | Equinox Graphics, Science Photo Library
قام الباحثون ببناء جسم موصل دقيق وطويل، له شكل مميّز بحيث تمرّ الإلكترونات في كلا الجانبين على شكل دوران وتؤدّي إلى ظهور دوّامة. تتدفّق الإلكترونات داخل الموصل | Equinox Graphics, Science Photo Library

وادٍ من الإلكترونات

في السّنوات الأخيرة، توقّع الفيزيائيّون أنّه في ظروفٍ خاصّة، كما هو الحال في موادّ معيّنة ذات مبنى بلّوريّ خاصّ ودرجات شديدة البرودة، سيكون تأثير الإلكترونات في بعضها أكبر، بنفس حجم تأثير الذرّات فيها. وفي هذه الحالات يمكن التوقّع أنّ حركة الإلكترونات في المادّة ستصبح شبيهة بتدفّق السّائل. وفي واقع الأمر، يمكن القول إنّ المعادلات الّتي تصف حركة الإلكترونات في هذه الحالة شبيهة بالمعادلات الّتي تصف تدفّق السّوائل. والسّبب في ذلك هو أنّ القوى الّتي تفعّلها الإلكترونات على بعضها تُستخدم كآليّة نقل الطّاقة من إلكترون إلى آخر. وفي الظروف الخاصّة للتجربة، تسمح للإلكترونات بالتّصرّف بشكل جماعيّ كسائِل، وليس كعناصر فرديّة كما يصف درود في نموذجه. في دراسة جديدة نُشِرت في المجلّة العلميّة Nature، تمكّن الباحثون في معهد وايزمان بالتّعاون مع معهد ماساتشوستس (MIT) وجامعة كولورادو في دنفر من قياس تدفّق يشبه السّائل للإلكترونات في المادّة.

أعدّ الباحثون مكوّنًا مُوصلًا دقيقًا ممدودًا ذا دائريّة على كلا جانبيه. لنتخيّل ماذا سيحدث إذا سكبنا الماء في وعاء بهذا الشّكل؟ سيتدفّق معظم الماء على طول الجزء المركزيّ الضيّق، لكنّ بعضه منه سيدخل إلى الفراغات الجانبيّة ويتدفّق على طول الجدار الدائريّ، ما يؤدّي إلى حدوث دوّامة. 

توقّع الباحثون أنّهم عندما يُفَعّلِون على المكوّن جهدًا كهربائيًّا في ظروفٍ مناسبة، سيتمكّنون من رؤية تدفّق كهربائيّ يحمل نفس الصّفات لتدفّق الماء الّذي وصفناه. لكن كيف يُمكنهم قياسه؟ استخدم الباحثون جهازًا يُدعى SQUID on Tip: دائرة كهربائيّة صغيرة مصنوعة من مادّة فائقة التّوصيل، وتوضَع في الطّرف إبرة سُمكها ميكرون (جزء من مليون من المتر). تُعتبَر الدّائرة فائقة التّوصيل حسّاسة جدًّا للمجالات المغناطيسيّة، ويمكنها قياس المجالات المغناطيسيّة الضّعيفة للغاية بدقّة كبيرة بفضل حَرَكة الإبرة الصغيرة على طول العيّنة. نظرًا لِكون كلّ تيّار كهربائيّ يُنتج مجالًا مغناطيسيًّا يعتمد اتّجاهه على اتّجاه التيّار، فإنّ قياس المجالات المغناطيسيّة في المادّة يوفّر مخطّطًا كاملًا لاتّجاه التيّار وقوّته في كلّ نقطة في الموصل. 

باستخدام هذا الجهاز القياسي، يمكن للباحثين محاولة قياس الظّاهرة الخاصّة. وبالفعل، عندما أنشأ الباحثون تيّارًا كهربائيًّا على طول الموصل الّذي قاموا ببنائه، فقد استطاعوا قياس تيّار كهربائيّ على شكل دوّامة في الأجزاء الدائريّة. بينما عندما كرّر الباحثون التّجربة مع موصل مشابه مصنوع من معدن أقلّ "نظافة"، أي أنّ الإلكترونات الموجودة فيه تتأثّر بشدّة من شبكة الذرّات فِي المادّة، لَم يَتمّ قياس التيّار على شكل دوّامة. أكّدت هذه النّتيجة الفرضيّة الّتي تقول إنّ التدفّق الدّواميّ مرتبط بتأثير أقلّ للذرّات في المادّة في الإلكترونات مقارنةً بالقوى الأخرى المؤثّرة فيها. 

أظهرت القياسات الأخرى أنّ مظهر وقوّة تدفّق الدوّامة أيضًا لهما علاقة قويّة بشكل المكوّن الموصل، وأنّ استخدام موصل دقيق بشكل خاصّ يزيد من تدفّق الدوّامة.

كانت هذه التّجربة أوّل عرض لتدفّق دوّامة الإلكترونات في المادّة، وهي تفتح المجال لمزيد من البحث العلميّ في هذا المجال الجديد والرّائع. إلى جانب الناحية العلميّة الخالصة، فإنّ هنالك إمكانيّات تكنولوجيّة هائلة للتدفّق الشبيه بالسّائل للإلكترونات في المادّة. إنّها مفيدة أكثر وتنتج حرارة أقلّ، وقد تكون لها قيمة في تطوير مكوّنات إلكترونيّة دقيقة وفعّالة. 

 

0 تعليقات