يبدو أنّ لاختلال التوازن البكتيريّ والفيروسات في الأمعاء، وبالتالي المركّبات الّتي تنتجها، تأثيرًا في تطوّر اضطرابات الأكل
تمّ تسجيل المقال من قبل المكتبة المركزية للمكفوفين وذوي العسر القرائي
للقائمة الكاملة للمقالات الصوتيّة في الموقع
يعمل الجهاز الهضميّ، وخاصّة الأمعاء، كمنزل لتريليونات البكتيريا، الفيروسات والفطريّات، الّتي يُشار إليها مجتمعة باسم ميكروبيوم الأمعاء. يؤثّر المكيروبيوم في العديد من العمليّات في الجسم، بما في ذلك تطوّر الدماغ، نشاط الجهاز المناعيّ والهضميّ، ومعالجة الأدوية وتحليلها. لذلك، عند اختلال التوازن في تركيب الميكروبيوم، قد تنشأ العديد من الأمراض، بما في ذلك التهابات الأمعاء، التصلّب المتعدّد (Multiple sclerosis)، والسكّريّ من النوع 2. أفادت دراسة جديدة أنّ تركيب الميكروبيوم يرتبط أيضًا بالصحّة النفسيّة- واضطراب الأكل الّذي يتجلّى في تجويع النفس.
فقدان الشهيّة العُصابيّ (Anorexia nervosa) هو اضطراب أكل خطير، يتميّز بالانشغال بصورة الجسم والأكل بشكل قهريّ. الأعراض الّتي تشمل اضطراب التشوّه الجسميّ كأفكار هوسيّة عن الطعام، أنماط سلوكيّة طقوسيّة، وتناول طعام لا يشبع احتياجات الجسم، وغالبًا ما يكون مصحوبًا بنشاط بدنيّ قويّ كلّها تؤدّي إلى فقدان الوزن بشكل كبير وفي الحالات القصوى تؤدّي إلى الوفاة.
قد يصيب الاضطراب الأفراد من كلا الجنسين ومختلف الأصول العرقيّة، في أيّة مرحلة من مراحل حياتهم، ولكن يتّضح أنّ معظم الضحايا هنّ من الفتيات أو الشابات. تعتبر هذه الظاهرة شائعة، وتسبّب معاناة وضررًا صحّيًّا للمصابين بها، ولكن حتّى اليوم لا يوجد علاج طبيّ فعّال لها.
على غرار العديد من الاضطرابات النفسيّة، فإنّ أسباب فقدان الشهيّة العُصابيّ ليست واضحة تمامًا. يبدو أنّه ناتج عن مجموعة من العوامل البيئيّة، العاطفيّة والوراثيّة. بالإضافة إلى ذلك، أظهرت الدراسات أنّ اختلالًا في تركيب المكيروبيوم قد يلعب أيضًا دورًا في تطوّر الاضطراب.
من الممكن أن يؤثّر تركيب الميكروبيوم في تطوّر فقدان الشهيّة العُصابيّ. تجمّعات بكتيريّة معويّة | New Africa, Shutterstock
البكتيريا الضارّة
في دراسة جديدة نُشرت في مجلّة "نيتشر مايكربيولوجي" Nature Microbiology، قام فريق البحث بقيادة الباحث في علم الوراثة الاستقلابيّة- الأيضيّة (Metabolic genetics)، أولاف بيدرسن (Oluf Pedersen)، من جامعة كوبنهاغن- الدنمارك بجمع عيّنات من البراز والدم من 77 مريضةً بفقدان الشهيّة العصابيّ و 70 امرأة تتمتّع بصحّة جيّدة وأزانهنّ طبيعيّة، ثمّ قاموا بمقارنة تركيب الميكروبيوم، الفيروسات و النواتج الأيضيّة- الموادّ الّتي تفرزها البكتيريا في عمليّات الأيض- في كلا المجموعتَين.
أظهرت المقارنة أنّ تركيب الميكروبيوم مختلف في المجموعتَين. كان الميكروبيوم لدى الأشخاص المصابين بمرض فقدان الشهيّة العُصابيّ غنيًّا بالبكتيريا الّتي لها دور في تركيب وتحليل الناقلات العصبيّة مثل السيروتونين، الدوبامين والتربتوفان، والّتي قد تؤثّر في العمليّات الفيزيولوجيّة في وظائف الجسم والدماغ، تنظيم الشهيّة، السلوك والمزاج. علاوة على ذلك، لوحظ أنّ لدى هؤلاء المرضى يوجد تركيزات أعلى من النواتج الأيضيّة الّتي قد تضعف الشهيّة، من بينها أيضًا موادّ تبطِئ مرور الطعام في الأمعاء، وتقلّل الشعور بالجوع وتحفّز الشعور بالشبع. بالإضافة إلى ذلك، تُنتج البكتيريا المعويّة لديهم كميّة أقلّ من فيتامين بي 1، والّذي قد يؤدّي نقصانه إلى ظهور أعراض متعلّقة بوظائف الدماغ، مثل قلّة الشهيّة، صعوبات بالذاكرة، القلق، الاكتئاب، التهيّج، الأرق، والمزيد.
بالإضافة إلى ذلك، وجدوا أنّ الميكروبيوم غنيٌّّ جدًّا بالفيروسات لدى الأشخاص المصابين بفقدان الشهيّة. كما وبرزت بشكل خاصّ العاثيات- الفيروسات الّتي تهاجم البكتيريا وبالتالي يمكن أن تخلّ بالتوازن الطبيعيّ لتجمّعات البكتيريا المعويّة.
يعتقد الباحثون أنّ تركيب الميكروبيوم المعويّ غير المتوازن لدى المشتركات في البحث ساهم إلى حدّ ما في تطوّر اضطراب الأكل. ومع ذلك، لا ينبغي استبعاد إمكانيّة أنّ الفروق الّتي لوحظت في التجمّعات البكتيريّة ناجمة عن فقدان الوزن، بدلًا من أن تكون هي السبب بذلك بحدّ ذاتها. ما يعني أنّ الأكل غير المتوازن هو الّذي أدّى إلى التغييرات في تركيب الميكروبيوم، وليس العكس.
تمّ زرع براز نساء مصابات بفقدان الشهيّة في أمعاء فأرات، وذلك بهدف فحص تأثير تركيب ميكروبيوم المصابات في وزن الفأرات. فأرة على الميزان| Sergey Bezgodov, Shutterstock
فئران مصابة بفقدان الشهيّة العُصابيّ
بهدف فحص ما إذا كان الميكروبيوم يؤثّر في الشعور بالجوع والشبع بشكل مباشر، وما إذا كان يؤدّي إلى فقدان الوزن بسرعة، قام الباحثون باستنزاف البكتيريا في أمعاء الفأرات وزرعوا مكانها جراثيم براز النساء المصابات بفقدان الشهيّة العُصابيّ. ثمّ تمّ إطعامها طعامًا منخفض السعرات الحراريّة لمدّة ثلاثة أسابيع، وذلك لمحاكاة أنماط الأكل لدى النساء المصابات بفقدان الشهيّة.
وجدوا أنّ هذه الفأرات فقدت وزنًا أكبر من تلك الّتي تلقّت براز النساء السليمات، كما واجهت صعوبة أكبر في استعادة وزنها الطبيعيّ بعد ذلك. بالإضافة إلى ذلك، وجدوا أنّه في مناطق في أدمغتها والمسؤولة عن التحكّم في الشهيّة، كانت الجينات المشاركة في قمع الشهيّة أكثر نشاطًا. أي أنّ الميكروبيوم التابع للنساء المصابات بفقدان الشهيّة يزيد من أعراض المرض ويساهم في خفض الوزن.
تعزّز هذه الدراسة فرضيّة أنّ تركيب الميكروبيوم المعويّ قد يؤثّر في ظهور أعراض المرض. ومع ذلك، لا تعتبر هذه الدراسة كبيرة، بحيث لم يتمّ فحصها على مجموعة سكانيّة متجانسة إلى حدّ ما، لذلك من الصعب تعميم الاستنتاجات على النساء من غير الدنمارك أو أولئك الّذين يعانون من مستويات معتدلة من فقدان الشهيّة العُصابيّ، مقارنة بالمشتركات في الدراسة. هناك أيضًا عوامل أخرى قد تغيّر تركيبة الميكروبيوم، والّتي لم يتمّ فحصها في هذه الدراسة، مثل نوع النظام الغذائيّ، أو النشاط البدنيّ. علاوة على ذلك، من المستحسن مقارنة المجموعتَين أيضًا بميكروبيوم نساء نحيفات جدًّا لكن سليمات.
على الرغم من الأسئلة المتبقّية، تشير نتائج البحث إلى أنّ تغيير عادات الأكل والنشاط البدنيّ قد يؤدّي إلى توازن في تركيب الميكروبيوم، وأنّ تناول معينات حيويّة (Probiotics) يعزّز البكتيريا النافعة، ما قد يحسّن حالة أولئك الّذين يعانون وتعانينَ من فقدان الشهيّة العُصابيّ. قد تؤدّي التجارب السريريّة الّتي يتمّ فيها القضاء على البكتيريا المعويّة غير المتوازنة للمرضى أوّلًا باستخدام المضادّات الحيويّة وبعدها القيام بزرع ميكروبيوم من بُراز امرأة سليمة، إلى تطوير علاج جيّد وناجع، يمكن دمجه جنبًا إلى جنب العلاج النفسيّ العادي.