نجح باحثون في علاج عشرة مرضى مصابين بمرض وراثيّ نادر يسبّب الوذمة (Edema) في أماكن كثيرة بالجسم، وذلك عن طريق التعديل الجينيّ والحقن المعتمدة على الحمض النوويّ الريبوزيّ (RNA)
في السنوات الأخيرة، ازداد استخدام العلاجات المعتمدة على تقنيّات إصلاح الجينات التالفة الّتي تسبّب الأمراض الوراثيّة. أعلن الباحثون مؤخّرًا عن نجاح علاج تجريبيّ جديد، يجمع بين تقنيّتين مبتكرتَين- تعديل الجينات بواسطة كريسبر (Crispr) إلى جانب استخدام تكنولوجيا نقل الجينات بتقنيّة مشابهة للّقاحات المعتمدة على الحمض النوويّ الريبوزيّ المرسال (messenger ribonucleic acid - mRNA)، والّتي تساعد في إيصال نظام تعديل الجينات إلى العضو المطلوب في الجسم وتنشيطه هناك.
الوذمة الوعائيّة الوراثيّة (Hereditary angioedema) هي مرض جينيّ نادر يسبّب انتفاخات شديدة، ما يؤدّي إلى تغييرات في المظهر والألم الشديد. قد تتطوّر الوذمة تحت الجلد، في الأنسجة المخاطيّة مثل البلعوم، الأمعاء، والأعضاء التناسليّة. يمكن أن يسبّب هذا المرض مشاكل صحيّة خطيرة وحتّى مهدّدة للحياة: تورّمات في الأمعاء يمكن أن تمنع مرور البُراز، في حين أن تورّم البلعوم والحنجرة يمكن أن يؤدّي إلى الموت بالاختناق.
ينجم مرض الوذمة عن خلل في الجين المسؤول عن كبح إنتاج بروتين البراديكينين (Bradykinin)، والّذي يسبّب توسّع الشعيرات الدمويّة، خاصّة في مناطق الالتهاب، ما يؤدّي إلى تسرّب السوائل من الأوعية الدمويّة إلى الأنسجة المحيطة. عندما يكون مستوى البراديكينين مرتفعًا في دم المرضى، فإنّ أيّ تهيّج بسيط أو ضربة خفيفة، قد تنتهي بردّ فعل موضعيّ ضعيف لجهاز المناعة لدى الشخص السليم، بينما قد يؤدّي إلى تورّم المنطقة بأكملها لدى الأشخاص الّذين يعانون من الوذمة. يشمل علاج هذا المرض إمّا الحُقَن المتكرّرة للبروتين الّذي يثبّط إنتاج البراديكينين، أو إعطاء الأدوية الّتي تعطّل نشاط إنزيم كاليكرين (Kallikrein)، المسؤول عن إنتاج البراديكينين، بشكل رئيس في الكبد.
بالإضافة إلى التغييرات الخارجيّة والألم الشديد، يمكن أن يسبّب المرض مشاكل صحيّة خطيرة حتّى أنّها تهدّد الحياة. يد مريض مصاب بالوذمة الوعائيّة الوراثيّة | ويكيميديا, LucyHAE
حقن مدقّقٍ جينيّ في الدم
نشرت مجلّة نيو إنغلاند الطبيّة (New England journal of Medicine) دراسة أجراها فريق دوليّ من الباحثين، حيث فحصوا طريقة لعلاج المرض عبر آليّة تعديل الجينات الّتي تلحق الضرر بالجين المسؤول عن إنتاج إنزيم كاليكرين. افترض الباحثون أنّ هذه التقنيّة من شأنها أن تقلّل من إنتاج البراديكينين في الجسم، ما سيحدّ من تطوّر الوذمة.
يتمّ تعديل الجينات باستخدام نظام يُسمَّى كريسبر، والّذي يتكوّن من جزأين: بروتين يُسمَّى Cas9، والمسؤول عن قطع الـ DNA، وجزيء قصير من الـ RNA، مهمّته توصيل الجينات إلى الموقع المناسب في الـ DNA الّذي يحتاج التعديل. عند محاولة إصلاح الجينات التالفة، هناك حاجة أيضًا إلى مكوّن ثالث- تسلسل صغير من الـ DNA والّذي يشمل المعلومات الصحيحة. لهدف علاج مرض الوذمة، أراد الباحثون "تخريب" وظيفة الجين المسؤول عن ذلك. عندما يُقطع الـ DNA باستخدام تقنيّة كريسبر، تنشط آليّات في نواة الخليّة تتمثّل مهمّتها في إصلاح المادّة الوراثيّة التالفة، ولكن في بعض الأحيان، لا يكون الإصلاح مثاليًّا ويحدث تغيير بسيط في مكان القطع. في كثير من الحالات، يؤدّي هذا التغيير إلى الإضرار بنشاط الجين، ما يحقّق الهدف المرجوّ. لكن عندما يكون الإصلاح مثاليًّا، يقوم نظام كريسبر بالقطع مرارًا وتكرارًا، حتّى ينتُج خلل جينيّ، أو حتّى يتوقّف النظام عن العمل.
من أجل العلاج، أنشأ الباحثون جزيء mRNA الّذي يوجّه آليّات الخليّة لإنتاج Cas9. ثمّ أضاف الباحثون جزيء الـ RNA القصير من كريسبر، وغلّفوهما معًا في غلاف دهنيّ، والّذي تمتصّه خلايا الكبد بشكل أساسيّ. بهذه الطريقة لن يبدأ النظام في العمل قبل أن يصل إلى الموقع المطلوب. كما أنّ استخدام الـ RNA بدلًا من الـ DNA يضمن أن لا يعمل النظام إلّا لفترة قصيرة من الزمن، حتّى تقوم آليّات الخليّة بتفكيك الجزيئات.
قام الباحثون بحقن الجزيئات المغلَّفة لعشرة مرضى يعانون من الوذمة الوعائيّة الوراثيّة، عن طريق الحَقن بالوريد. طفل يتلقّى الحَقن عن طريق الوريد | Shutterstock, Aggie 11
قام الباحثون بحَقن الجزيئات المغلَّفة لعشرة مرضى يعانون من الوذمة الوعائيّة الوراثيّة، من خلال عمليّة الحقن بالوريد. تمّ تقسيم المرضى إلى ثلاث مجموعات حيث تلقّت كلّ واحدة منها جرعات مختلفة. نظرًا لقلّة عدد المرضى وطبيعة المرض الشديدة، تلقّى جميع المرضى علاجًا حقيقيًّا، دون إجراء مقارنة مع العلاج الوهميّ (Placebo). وبدلًا من ذلك، قارن الباحثون تكرار حدوث الوذمة قبل العلاج وبعده.
كشفت متابعة المرضى أنّ الأعراض الجانبيّة للحَقن بكلّ الجرعات كانت بسيطة ومرّت بسرعة، على غرار لقاحات الـ RNA، ما يعني أنّ العلاج يبدو آمنًا للاستخدام. انخفضت مستويات الكاليكرين في الدم بشكل كبير خلال أسبوع، حتّى 10-35 بالمائة من المستوى الأوليّ، وفقًا للجرعة الّتي تلقّوها. وظلّت المستويات عند نفس المستوى المنخفض طوال فترة المتابعة بأكملها، والّتي استمرّت حتّى 48 أسبوعًا. لذلك، يمكننا الاستنتاج أنّ العلاج قد أضرَّ بإنتاج البروتين، لكنّه لم يوقف عمله بشكل كامل.
انخفض تكرار ظهور الوذمة لدى المرضى تدريجيًّا، حتّى بعد مرور 16 أسبوعًا، لم يتعرّض أيّ من المرضى لنوبة أخرى، باستثناء مريض واحد عانى من وذمة خفيفة بسبب إصابة ناجمة عن نشاط رياضيّ، والّذي قد تعافى في غضون يومين دون دواء. توقّف ستّة من المرضى، الّذين تناولوا في نفس الوقت أدوية إضافيّة للمرض، عن تناول هذه الأدوية بعد 2.5-5.5 أشهر من بداية العلاج، نظرًا لعدم الحاجة إليها.
تشير النتائج إلى نجاح كبير للعلاج، وتحمل في طيّاتها أخبارًا سارّة للمرضى. يعتزم الباحثون الآن توسيع الدراسة لتشمل المزيد من المرضى، ومواصلة مراقبة حالة المرضى لمدّة 15 عامًا، للتأكّد من دوام استقرار حالتهم، وتحديد الأعراض الجانبيّة طويلة المدى إذا لزم الأمر.