دراسة جديدة تشير إلى أنّ انجراف القارّة العملاقة القديمة "غوندوانا" أدى إلى نشوء موجات تحرّكت ببطء على مدى عشرات ملايين السّنين تحت القارّات، وأسهمت في تشكيل سطحها

نظريّة الصّفائح التّكتونيّة

تُعدّ نظريّة الصّفائح التّكتونيّة من النّظريّات العلميّة المهمّة، حيث اقترحها العالم الألمانيّ ألفريد فيغنر (Wegener) في أوائل القرن العشرين. ورغم أنّها قوبلت حينها بتشكيك واسع، إذ بدت فكرة انجراف وتحرّك الصفائح الصّخريّة الضّخمة الّتي نعيش عليها فوق سطح الأرض غير معقولة في ذلك الوقت، فقد تطوّرت لاحقًا لتصبح أساسًا لفهم ديناميكيات كوكبنا. ومن المثير للتّأمّل أنّ علماء الفلك كانوا يدرسون أقمار كوكب المشتري وحلقات زحل، عبر التّلسكوبات قبل ذلك بمئات السّنين، بينما ظلّت أعماق الأرض القريبة منّا غامضة وغير مفهومة.

على عكس الحقبة الّتي عاش فيها فيغنر، يمتلك الجيولوجيّون اليوم أدوات متقدّمة تمكّنهم من تفسير الآليّة الّتي تحرّك الصّفائح التّكتونيّة، وذلك بفضل الفهم الأعمق لتركيب الأرض. فهذه الصّفائح الّتي تتحرّك فوق الغلاف اللّزج تتميّز بكثافة أقلّ، مقارنةً بطبقة الموادّ المنصهرة الحارّة في باطن الأرض، ممّا يسمح لها بالطّفو وفقًا لمبدأ الطّفو الفيزيائيّ.


يتشكّل الهيكل الدّائريّ عندما تتحرّك الصّخور السّاخنة واللّزجة في الغلاف الأرضيّ من الأجزاء العميقة نحو حدوده العليا، حيث تبرد وتصبح أكثر كثافةً ثم تغرق مجدّدًا. حركة خلايا الحمل الحراريّ في الغلاف الأرضيّ | Qa International / Science Photo Library

تيّارات الدّوران الدّائريّة

في دراسة حديثة نُشرت في المجلة العلمية Nature، أضاف الباحثون بُعدًا جديدًا للنّظريّة، إذ اقترحوا أن تفكّك القارّة العملاقة القديمة "غوندوانا" (Gondwana)، الّتي كانت إحدى القارّتين النّاتجتين عن انقسام "بانجيا" (Pangaea)، أدّى إلى نشوء موجات من تيّارات دائريّة في الغلاف الأرضيّ. وقد تحرّكت هذه التّيارات ببطء على مدى عشرات ملايين السّنين باتجاه مراكز القارّات، وأسهمت في تشكيل تضاريسها.

تُعَدُّ الحدود النّشطة للصّفائح التّكتونيّة المحرّك الرّئيسيّ للطّبوغرافيا الأرضيّة، حيث يؤدّي تصادم الصّفائح إلى نشوء سلاسل جبليّة شاهقة، مثل جبال الهيمالايا الّتي تشكّلت نتيجة تصادم الصّفيحة الأوراسيّة بالصّفيحة الهنديّة. وتعكس طبيعة المناظر الطّبيعيّة في هذه المناطق نوع الحركة التكتونيّة، سواء كانت تقاربًا أم تباعدًا بين الصفائح.

على النّقيض من ذلك، تتكوّن الأجزاء المركزيّة من الصّفائح التّكتونيّة من كتل صخريّة مستقرّة نسبيًّا، تختلف تمامًا عن المناطق الحدوديّة النّشطة. مع ذلك، لاحظ العلماء منذ زمن بعيد وجود تشكيلات جيولوجيّة غير متوقّعة في المناطق القارّيّة البعيدة عن خطوط تلاقي الصّفائح، مثل المرتفعات البرازيليّة شمال غرب ريو دي جانيرو والمرتفعات الوسطى في جنوب إفريقيا. كانت هذه التّشكيلات محيرة، إذ لم يكن هناك تفسير واضح لوجودها في مناطق يُفترض أنّها مستقرّة تكتونيًّا.


معالم جيولوجيّة بارزة في المناطق القارّية البعيدة عن خطوط التقاء الصّفائح التكتونيّة. سلاسل جبال في المرتفعات البرازيليّة | Tacio Philip Sansonovski, Shutterstock|

حركة المادّة في الغلاف الأرضيّ

توم جرنون (Gernon)، الجيولوجي من جامعة ساوثهامبتون في بريطانيا والمؤلّف الرّئيسيّ للدّراسة، لاحظ أنّ ظهور هذه المرتفعات يتبع نمطًا منظّمًا يثير الدّهشة. فقد وجد أنّها تتوزّع على التّوالي، بحيث تكون المرتفعات الأقرب إلى السّاحل أقدم عمرًا من تلك الواقعة في عمق اليابسة. هذا النّمط ذكّره بظاهرة درسها سابقًا في الرّواسب البركانيّة في جنوب إفريقيا، حيث تحتوي صخور "الكيمبرليت" (Kimberlite)، الغنيّة بالألماس، على أدلّة تشير إلى صعود موجات بطيئة وطويلة من الغلاف الأرضيّ نحو الدّاخل. ممّا دفعه للتّساؤل عمّا إذا كانت هناك آليّة مشابهة مسؤولة عن تكوين المرتفعات القارّيّة أيضًا.

لاختبار هذه الفرضيّة، أنشأ جرنون وزملاؤه نموذجًا لمحاكاة حركة المادّة في الغلاف الأرضيّ، مستندين إلى تحليل بيانات من حوالي 70 موقعًا شهد تشكّل مرتفعات بعد تفكّك القارّات. وأظهرت النّتائج أنّ حركة المادّة غالبًا ما تتمّ ضمن أنماط دائريّة تُعرف بـ "خلايا الحمل الحراريّ" (Convection Cells)، وهي عمليّة ديناميكيّة حراريّة تنقل الحرارة عبر حركة جزيئات الغاز أو السّائل. فعندما ترتفع الصّخور السّاخنة واللّزجة من الأعماق إلى السّطح، تبرد تدريجيًّا وتصبح أكثر كثافةً، فتغرق مجدّدًا، ممّا يولّد تيّارات دائريّة مستمرّة.

وفقاً للنّموذج، فإنّ الفراغ النّاجم عن انفصال الصّفائح التّكتونيّة يدفع الموادّ المنصهرة في الغلاف الأرضيّ إلى الارتفاع، ثمّ الانتشار أفقيًّا تحت سطح القارّات بحركة دائريّة، تمامًا كما يحدث في خلايا الحمل الحراريّ. تتحرّك هذه الموجات من حوافّ القارّات نحو مراكزها بسرعة تتراوح بين 15 وَ20 كيلومترًا لكلّ مليون سنة. وعندما تلتقي المادّة المنصهرة بالطّبقة العليا من الصّخور، تذيب أجزاءً منها، ممّا يؤدّي إلى تغييرات طبوغرافيّة ملحوظة. إضافةً إلى ذلك، فإنّ إزالة الطّبقة العليا من صخور الغلاف تُحفز ارتفاع المناطق القارية الأقلّ كثافةً، ممّا يجعلها تطفو على ارتفاعات أكبر، مكوّنة مرتفعات يتراوح ارتفاعها بين كيلومتر واثنين. ومع مرور الوقت، تعمل عوامل التّعرية مثل الرياح والمياه على إزالة المزيد من المادّة، ممّا يؤدّي إلى زيادة ارتفاع المرتفعات أكثر فأكثر.

لا يقتصر تأثير هذه الموجات على تكوين المرتفعات فحسب، إذ يشير الباحثون إلى أنّها قد تلعب دورًا في فهم أحداث مناخيّة كبيرة مثل العصور الجليديّة والانقراضات الجماعيّة القديمة، وحتّى الزّلازل الّتي تحدث داخل القارّات. ورغم أنّ الزّلازل عادةً ما تكون نادرة في المناطق المستقرّة تكتونيًّا، إلّا أنّ هذه الدّراسة تفتح آفاقًا جديدة لفهم أسباب حدوثها. مع ذلك، فقد ركّزت الدّراسة على تفكّك قارّة غوندوانا فقط، ممّا يستدعي إجراء مزيد من الأبحاث لمعرفة ما إذا كانت هذه الموجات تظهر أيضًا في حالات تفكّك قارّيّ أخرى.

رغم أن هذه الظّاهرة تُعرض هنا كحالة منفصلة، فإنّها "تمثّل تحوّلًا في النّموذج العلميّ"، وفقاً لجيروين فان هونين (Hunen)، خبير الجيوديناميكا من جامعة دورهام، الذي صرّح لمجلة Science قائلًا: "رغم أنّه ليس تغييرًا كبيرًا مثل اكتشاف الصّفائح التّكتونيّة، فإنّه لا يزال اكتشافًا استثنائيًّا للغاية".

0 تعليقات