بدأت تجارب سريريّة لاختبار سلامة وفعاليّة لقاح يعتمد على تقنيّة الحمض النّوويّ الرّيبوزي الرّسول (messenger ribonucleic acid، اِختصارًا mRNA) ضدّ نوع معيّن من سرطان الرّئة.
حوالي 80% من حالات سرطان الرّئة تصيب خلايا أغشية الرّئتين، سواء كانت خلايا الغشاء المخاطيّ الّذي يبطّن الرّئتين، أو طبقة الخلايا الّتي تبطّن القصبات الهوائيّة. يُصنّف هذين النّوعين، إلى جانب بعض الأنواع الفرعيّة النّادرة، ضمن فئة تُسمّى سرطان الرّئة غير صغير الخلايا (NSCLC). تُقدّر احتماليّة البقاء على قيد الحياة بعد خمس سنوات في المراحل المبكّرة من المرض بحوالي 60%، أمّا في الحالات الّتي يكون فيها السّرطان منتشرًا، حيث تنتقل الخلايا السّرطانيّة من الرّئة وتخلق أورامًا ثانويّة في أعضاء أخرى، فإنّ نسبة البقاء على قيد الحياة للمرضى لأكثر من خمس سنوات حوالي 6%.
تشمل خيارات علاج سرطان الرّئة إجراء عمليّة جراحيّة لاستئصال جزء أو كلّ فصّ الرّئة، العلاج الكيميائيّ، العلاج الإشعاعيّ، أو العلاج المناعيّ، وهي علاجات دوائيّة توجّه الجهاز المناعيّ للعمل ضدّ الخلايا السّرطانيّة. على سبيل المثال، تمّت الموافقة على دواء العلاج المناعيّ "سيميبليماب" (Cemiplimab) من قبل إدارة الغذاء والدّواء الأمريكيّة (FDA) لعلاج سرطان الرّئة. في الآونة الأخيرة، بدأت تجربة سريريّة في علاج جديد قد يفيد مرضى سرطان الرّئة، الذي يعتمد على الـ mRNA.
حظيت اللّقاحات والأدوية المعتمدة على الـ mRNA باهتمام واسع النّطاق في العقود الأخيرة، وأصبحت شائعة بشكل خاصّ بفضل استخدامها في اللّقاحات ضدّ فيروس الكورونا. يحتوي الـ mRNA على "تعليمات الإنتاج" لبروتين معيّن، الّذي لديه القدرة على تمييز العامل الّذي يستهدفه اللّقاح. عندما يدخل جزيء الـ mRNA إلى الجسم، تتمّ ترجمة "التّعليمات" فيُصنع البروتين، ثمّ يُعرض على الجهاز المناعيّ ليتمكّن من التّعرّف إلى العامل المسبّب للمرض، ويهاجمه إذا لزم الأمر.
مؤخّرًا، اِنطلقت تجربة سريريّة لعلاج جديد قد يفيد مرضى سرطان الرّئة، ويعتمد على الـ mRNA. طبيب ينظر إلى صور الأشعّة السّينيّة للرّئتين | Shutterstock, New Africa
النّتائج حتّى الآن
قامت شركة الأدوية BioNTech، الّتي شاركت في تطوير لقاح الـ mRNA ضدّ فيروس الكورونا مع شركة فايزر، بتطوير لقاح جديد يعتمد على الـ mRNA لعلاج سرطان الرّئة غير صغير الخلايا، يُسمّى BNT116. على عكس لقاح الكورونا الّذي احتوى على تعليمات لإنتاج بروتين واحد فقط، فإنّ اللّقاح الحاليّ يحتوي على "تعليمات إنتاج" لستّة بروتينات مختلفة عبر خليط من ستّة جزيئات mRNA. تُعتبر هذه البروتينات شائعة بشكل خاصّ على أغشية الخلايا السّرطانيّة، لكنّها لا تتواجد أبدًا على أغشية الخلايا السّليمة. الهدف من هذا الدّواء هو تحفيز استجابة مناعيّة قويّة ضدّ هذه البروتينات، ممّا يؤدّي فعليًّا إلى مهاجمة الخلايا السّرطانيّة. على الرّغم من استخدام مفهوم التّطعيم، إلّا أنّ العلاج مخصّص لأولئك الّذين سبق أن شُخّصوا بالمرض، ولا يُستخدم كوسيلة وقائيّة لمنع المرض، على الأقلّ حتّى الآن.
اِنطلقت أوّل تجربة سريريّة لدواء BNT116 في حزيران 2022، بمشاركة 34 مركزًا طبّيًّا في سبع دول: الولايات المتّحدة، ألمانيا، المجر، بولندا، أسبانيا، تركيا، والمملكة المتّحدة. صُمّمت التّجربة لفحص سلامة وفعاليّة العلاج لمرضى سرطان الرّئة في مرحلة متقدّمة ومنتشرة. نُشرت النّتائج الأوّليّة لـ 18 مريضًا تلقّوا الدّواء، بعضهم تلقّى، أيضًا، العلاج المناعيّ "سيميبليماب"، في مؤتمر عُقد في تشرين الثاني 2023. وفقًا للنّتائج الّتي عُرضت، خضع 10 من المرضى لتقييم سريريّ للسّرطان، وأظهر ستّة منهم استقرارًا في تطوّر المرض لديهم. رغم أنّ هذه النّتائج واعدة، إلّا أنّها تستند إلى عدد قليل من المرضى فقط، وأنّ البيانات جُمعت بعد وقت قصير فقط من بدء العلاج (متوسّط الوقت لشهر ونصف)، ممّا لا يسمح بالتّوصّل إلى أيّة استنتاجات بشأن آثارها على المدى الطويل.
عرض منشور آخر، تمّ تقديمة في المؤتمر السّنويّ لمنظّمة أبحاث السّرطان الأمريكيّة، نتائج شملت 20 مريضًا تلقّوا اللّقاح الجديد مع العلاج الكيميائيّ. أظهرت النّتائج استجابة جزئيّة أو كاملة لدى 85% من المرضى، أي تباطؤ انتشار السّرطان في أجسامهم أو توقّف تمامًا. كما تبيّن أنّ خلايا الجهاز المناعيّ استجابت للّقاح كما هو متوقّع. مع ذلك، عانى نصف المرضى من آثار جانبيّة خطيرة مثل عاصفة السيتوكين، تضيّق القصبات الهوائيّة، والحمّى الشّديدة، الّتي قد تكون ناتجة عن اللّقاح، بينما نُسبت الآثار الجانبيّة الأخرى للعلاج الكيميائيّ.
على الرّغم من استخدام مفهوم التطعيم، إلّا أنّ العلاج مخصّص لأولئك الّذين سبق أن شُخّصوا بالمرض، ولا يُستخدم كوسيلة وقائيّة لمنع المرض. رسم توضيحيّ للّقاح mRNA ضدّ السّرطان | Thom Leach / Science Photo Library
توسيع البحث
على الرّغم من أنّ النّتائج تبدو واعدة بالتّأكيد، إلّا أنّ الّذي عُرِضَ في المؤتمر هو ملخّصات النّتائج فقط، ممّا يعني أنّها تفتقر للرّسوم البيانية، الجداول، أو تفصيل لجميع البيانات، ممّا يصعّب من تقييم جودة الدّراسات. لذلك، من الأفضل الانتظار لاستخلاص النّتائج حتّى يتمّ نشر الدّراسات في مجلّة علميّة. في هذه الأثناء، تستمرّ التّجارب وتتوسّع: حسب تقرير لصحيفة الغارديان (Guardian)، سوف يشارك حوالي 130 مريضًا في دراسة المتابعة. وعلى عكس المرحلة السّابقة من التّجربة، والّتي شملت مرضى يعانون من سرطان الرّئة المتقدّم، ستضمّ دراسة المتابعة أيضًا مرضى في مراحل مبكّرة، أو مَنْ لم يخضعوا لعمليّات جراحيّة أو إشعاع. يعتزم الباحثون تقييم نتائج الدّراسة في أربع نقاط زمنيّة: بعد ثلاثة أشهر، ستّة أشهر، 27 شهرًا(سنتين وثلاثة أشهر)، 48 شهرًا (4 سنوات).
لا يعتبر لقاح الـ mRNA هذا الوحيد ضدّ السّرطان الّذي تتمّ دراسته هذه الأيّام. قبل نحو عام، نُشرت نتائج مشجّعة للقاح ضدّ سرطان البنكرياس، وتواصل الشّركات الرّائدة في هذا المجال، وخاصّة BioNTech و Moderna، تطوير مجموعة متنوّعة من اللّقاحات الإضافيّة ضدّ المرض. وإذا نجحوا، فسوف تكون ثورة في مجال علاج السّرطان.