تُمنح جائزة نوبل في الكيمياء للعام 2023 لثلاثة من مُطوّري الأجهزة الإلكترونية الخارقة
تُمنح جائزة نوبل في الكيمياء لهذا العام لثلاثة مِمّن طوّروا المنظومات فائقة الصغر المسماة بالنقاط الكموميّة (Quantum dots). تُمنح الجائزة لكلٌّ من: مونجي بووندي (Bawendi) من معهد ماساشوستس التكنولوجي في الولايات المتحدة الأمريكية، وله مواطنة تونسية وفرنسية - فأبوه تونسي، ولويس بروس (Brus) من جامعة كولومبيا في نيويورك - الولايات المتحدة الأمريكية - وألكسي إكيموڤ (Ekimov) وهو كيميائي روسي يعمل حاليًّا في شركة أدوية في الولايات المتحدة الأمريكية أيضًا. النقاط الكمومية (الكوانتية) هي جسيمات نانوية، أي بلورات صغيرة جدًّا من المادة، تعمل كأشباه (أو أنصاف) موصلات، ويمكن هندستها بحيث تُستخدم في مجالات كثيرة جدًّا ومتنوعة، وذلك بفضل القدرة على التحكم بخواصها الإلكترونية والضّوئية. تستخدم النقاط الكمومية في المُكوّنات الإلكترونية، وفي الخلايا الشمسيّة، وفي أجهزة التصوير الطبي، وفي الأجهزة المِجهريّة (الميكروسكوبات)، وفي الليزرات، وفي أجهزة الإضاءة، وغيرها.
نقطة انطلاق خارقة لها استخدامات عملية كثيرة. من اليمين: إكيموڨ، بروس وبووِندي | أُخذ الرسم التوضيحي من موقع جائزة نوبل, Nobelprize.org
البلّورات الفريدة
تنتظم الذرات أو الجزيئات في البِلَّورة العادية، بلورة الملح مثلًا، في قالبٍ متكرّر، وليس هناك ما يقيّد حجمها. يمكن لحجم مثل هذه البلورات أن يكبر - على الأقل من الناحية النظرية - إلى ما لا نهاية. الجسيمات النانوية، بالمقابل، هي بلورات مُكونة من الذرات أو الجزيئات، إلّا أنّ حجمها محدود، وهو صغير جدًّا. تتكون هذه البلورات من بضعة آلاف من الذرات، أو بضع عشرات الآلاف منها، ويقاس حجمها بالنانو مترات، أي جزء من المليون من المليمتر. توجد رقعة واسعة ومتنوعة جدًّا من الجسيمات التي تختلف في أشكالها الهندسية، وفي تركيبها الكيميائي، وتحدّد هذه الأمور الخواصَّ الطبيعية للبلورات، مثل المغناطيسية، والخواص الكهربائية، والخواص البصريّة، والخواص الكيميائية أيضًا، أي ميلها لأن تتفاعل مع مواد معينة وألا تتفاعل مع مواد أخرى. يمكن للباحثين التحكم في مبنى الجسيمات النانوية ومُكوناتها عن طريق تغيير ظروف التفاعلات الكيميائية التي تُنتِجها، كاختيار المذيب، ودرجة الحرارة وغيرها، وكذلك بواسطة الحقول الخارجية.
النقطة الكمومية هي لقب يُعطى لِجسيم نانوي تتوفر فيه ظاهرة الحبس أو التقييد الكمومي (Quantum Confinement) التي تؤدي إلى أن تتصرف هذه الجسيمات كَأشباه موصلات، أي أنّ شدّة توصيلها الكهربائي تتغير وفقًا للظروف.
الحبس الكمومي هو حالة يكون فيها الإلكترون "محبوسًا" داخل الجزيء، أو داخل البلورة، ويزداد تقييد حركة الإلكترون مع ازدياد صغر البلورة. نعبر عن ذلك، بمصطلحات فيزيائية، بأنّه يوجد للإلكترون شريط أضْيَق من الطاقة: أي عدد أقل من الحالات الكمومية المتاحة للإلكترون، أو عمليًّا، جرعات أو حصص مختلفة من الطاقة. ينحصر وجود الإلكترونات في هذا الشريط، والمسمّى بشريط التكافؤ، ما لم تؤثر طاقة من مصدر خارجي على النقطة الكمومية.
يمكن أن تقفز الإلكترونات إلى مستويات طاقة هي أعلى حتى من مستوى الطاقة الأعلى المنسوب لِشريط التكافؤ، ويحدث ذلك عندما تحصل النقطة الكمومية على الطاقة من مصدر خارجي، بهيئة شعاع من الضوء يصيبها، على سبيل المثال; يسمّى مستوى الطاقة الأكثر انخفاضًا من بين المستويات التي ينتقل إليها الإلكترون بـِ "شريط التوصيل". ذلك يعني أنّ الإلكترون يُطردُ عمليًّا من البلورة، إلّا أنه يعود منهمرًا إلى شريط التكافؤ في حال تمّ وقف تأثير الطاقة الخارجية، فينبعث فوتون - جُسيم ضوئي - وحيد، تناسب طاقته فرقَ الطاقة بين المستوى الذي عاد منه وبين المستوى الذي عاد إليه. عندما تحدث مثل هذه العملية في مادة صلبة عادية، ينهار عدد كبير من الإلكترونات عائدةً سويّةً إلى شريط التكافؤ، و ينبعث عدد كبير من الفوتونات. تبرز في هذا المقام، الخاصية الفريدة والأهمية البالغة لِلنقاط الكمومية،فإنّ تطبيقاتٍ ضوئية وبيولوجية معينة تحتاج بالذات، في لحظة ما، فوتونًا واحدًا.
يؤثر حجم النقطة الكمومية على خواصها الضوئية، وعلى طول الموجة - أي لون الضوء - الذي ينبعث منها | التخطيط: © Johan Jarnestad/The Royal Swedish Academy of Sciences
تحولت النقاط الكمومية وإمكانية هندستها - من حيث "فترة حياة" الإثارة الإلكترونية، ومدى الثبات وما إلى ذلك - لتتناسب مع متطلبات الأبحاث والتطبيقات، إلى موضوعٍ تتناوله دراسات وأبحاث مكثفة، وتسُستخدم في الكثير من التطبيقات. تُستبدلُ اليوم مصابيح اللِّد في التلفزيونات الحديثة بالنقاط الكمومية لتوفير دقةٍ أعلى في الشاشة; وتزداد أهمية استخدام النقاط الكمومية في أجهزة التصوير الطبي - يتيح ثبات هذه الجسيمات الحصول على صور فائقة الدقة للأنسجة البيولوجية. وتَلقى النقاط الكمومية استخدامًا في متابعة وتعقُّب "حيّ" لِلجزيئات والخلايا خلال حركتها، وحتى في إرسال الأدوية إلى الأماكن المرجوّة داخل الجسم.
من بين المواد التي يمكنها الإنتظام على هيئة النقاط الكمومية نجد الكربون، السيليكون، الجرمانيوم، سيلينيد الكادميوم (CdSe)، و سيلينيد الڠاليوم إنديوم (InGaAs). توجد خواص مختلفة لهذه المواد; تمّت، بمرور الزمن، هندسة نقاطٍ كمومية من النوع لُب - غلاف أو قوقعة (Core-Shell)، وهي اسم على مُسمّى إذ أنها مكونة من لبٍّ من مادة معينة يحيط به غلاف (قوقعة) من مادة أخرى. يتيح هذا الهيكل التقاط الإلكترونات وأَسْرها من على السطح الخارجي لِلنقطة الكمومية، ويعتبر ذلك أفضلية في بناء تجهيزات بصرية معينة.
تتكون النقطة الكمومية،غالبًا، من بضعة آلاف من الذرات لا أكثر، بحيث أنّ النسبة بين حجمها وبين حجم كرة القدم هي كالنِّسبة بين حجم كرة القدم وبين حجم الكرة الأرضية | الرسم التخطيطي: ©Johan Jarnestad/The Royal Swedish Academy of Sciences
تطوير عمره أربعون عامًا
كان ألكسي أكيموڤ من أوائل الذين بحثوا في النقاط الكمومية بتعمُّق. وُلد أكيموڤ في روسيا سنة 1945، تعلم الفيزياء في جامعة سان بتربورݞ، وأنهى تعليمه وحصل على شهادة الدكتوراه في الفيزياء في معهد يوبا في المدينة وذلك سنة 1974. بدأ العمل في معهد ڤاڤيلوڤ (Vavilov) للبصريات حيث اشتغل في دراسة البلورات النانوية شبه الموصلة. نشر مقاله الأول سنة 1981، المقال الذي تناول الخواص الكمومية الفريدة لِلبلورات فائقة الصغر داخل مصفوفة زجاجية، ذلك قبل أن تكتسب هذه البلورات اسم النقاط الكمومية. ضبط أكيموڤ درجة حرارة الزجاج ومدة تسخينه، فتكونت نقاط بنطاق واسع نسبيًّا من الحجوم; بعد ذلك، بحث في خواصها الكمومية بتعمق، وخواصها الضوئية والكهربائية. تمخّضت أبحاثه عن أنّ النقاط هي " ذراتٌ مُصطنعة"، بما مفهومه أنّ طاقات النقاط، كما طاقات الذرات، مُعرّفة بصورة متفرّدة، ويحتوي كلاهما على عدد قليل نسبيًّا من الإلكترونات.
وُلد لويس بروس سنة 1943 وعمل في مختبرات بيل (Bell) منذ سنة 1973 - وهي مختبرات كبيرة وخاصة للدراسات والأبحاث في الولايات المتحدة الأمريكية. طوّر بروس في هذه المختبرات نقاطًا كمومية تنشط داخل المحلول، وذلك في بداية سنوات الثمانين من القرن العشرين، وذلك بمعزلٍ عن عمل إكيموڤ. اهتم بروس هو الآخر، مثل إأكيموڤ، بالعلاقة بين حجم النقطة الكمومية وبين خصائصها. ترك مختبرات بيل سنة 1996 و استلم وظيفة لباحث في جامعة كولومبيا في نيويورك، و ما زال يزاول عمله هناك حتى يومنا هذا; "تشتُّت أو تناثر رايلي" في الأنابيب الكربونية النانوية هو من ضمن الأمور التي تركزت عليها أبحاثه في المعهد - تشتت رايلي هو الظاهرة المعروف أنها تؤدي إلى أن تبدو لنا السماء زرقاء.
ولد مونجي بووندي سنة 1961 وهو كيميائي أمريكي - فرنسي، تونسيّ الأصل. بحث بووندي هو الآخر في النقاط الكمومية داخل المحاليل، وصبّ تركيزه على الفلور وفورات العضوية - نقاط كمومية تعتمد على المواد العضوية وتُطلق ضوءً ملوّنًا بآلية الاستشعاع (فلوأوروسنتسيا). اشتهر بُووندي، بشكل خاص، بفضل اختراعه لِطريقة "الحَقن السريع" المستخدمة على نطاق واسع في توليد النقاط الكمومية، ليس هذا فحسب، بل اشتهر أيضًا بفضل أبحاثه ودراساته التي تُستخدم ضمنها النقاط الكمومية في البيولوجيا والتحليل الطيفي (المِطيافيات = السبكتروسكوبيا).
مُنحت جائزة نوبل في الكيمياء في العام الماضي لِكارولاين برتوتشي (Bertozzi)، ومورتن ميلدال (Meldal)، وكارل باري شاربلس (Sharpless)، مقابل تطوير طرق جديدة لبناء جزيئات ولصقها ببعض. شاربلس هو الشخص الرابع في التاريخ الذي حاز مرتين على جائزة نوبل في العلوم. أما في سنة 2021 فقد حاز على جائزة نوبل في الكيمياء كلٌّ من: بنيامين ليست (List)، وديڤيد ماكميلان (MacMillan) مقابل تطوير استخدام الجزيئات الصغيرة كعوامل محفِّزة في التفاعلات العضوية، خاصةً للتمييز بين شكلين لنفس الجزيئ، أحدهما هو "صورة الآخر في المرآة"، ولكلٍّ من الشكلين نشاط بيولوجي مختلف عن الشكل الاخر. ومُنحت جائزة نوبل في الكيمياء سنة 2020 لاثنتين من الذين طوّروا طريقة كريسبر للتحرير المورثي (الجيني)، وهما عمانوئيل شربنتييه (Charpentier)، وجينيفر داود نا (Doudna).
جوائز إضافية
أُعلن أول أمس عن الحائزين على جائزة نوبل في الفيزياء وهم ثلاثة علماء طوروا ومضات ليزر قصيرة الأمد والتي تدوم لمدة أَتو - ثواني، أي جزء من مليار مليار الثانية، والتي تستخدم في "تصوير" وبحث الظواهر على مستوى الإلكترون: بيير أݞوستيني (Agostini)، فيرينتس كراوس (Krausz)، وآن لِهولييه (L’Huillier)، وهذه الأخيرة هي المرأة الخامسة تاريخيًّا التي تحصل على جائزة نوبل في الفيزياء.
افتُتح أسبوع جوائز نوبل قبل بضعة أيام بالإعلان عن الحائزين على الجائزة في الطب، وهم كاثلين كريكو (Karikó)، ودرو وايزمان (Weissman) مقابل أبحاثهم الرائدة في تطوير لقاحات mRNA، التي شكّلت أساس اللقاحات ضد الكورونا. كريكو هي أول امرأة تحصل على جائزة نوبل في الطب منذ سنة 2015.
سيتم الإعلان عن الفائز/ ين بجائزة نوبل في الآداب يوم الخميس من هذا الأسبوع، يَليه ، يوم الجمعة، الإعلان عن الفائز/ ين بجائزة نوبل للسلام. يُسدَلُ الستار على أسبوع جوائز نوبل لهذا العام يوم الإثنين من الأسبوع القادم وذلك بالإعلان عن الفائز/ ين بالجائزة في الاقتصاد على إسم ألفرد نوبل، الجائزة التي لم يشملها ألفرد نوبل في وصيته، وتُمنح عمليًّا، منذ سنة ،1969 من قبل بنك السويد.