قارنت دراسة جديدة بين طرق التّعامل مع الغضب، الّتي تزيد أو تقلّل من الإثارة الجسديّة (التّحفيز الجسديّ)
يُعتبر الغضب أحد المشاعر الإنسانيّة الأساسيّة، والّذي ينشأ ردًّا على تهديد أو استفزاز حقيقيّ أو متخيّل. يرتبط الغضب بالبقاء على قيد الحياة، ويساعدنا في تحديد ردّ فعل من خلال استجابة الجهاز العصبيّ لردّ فعل الكرّ والفرّ (fight-or-flight response). يمكن أن يسبّب ردّ الفعل هذا العديد من السّلوكيّات القويّة فيحفّزنا على القتال وحماية أنفسنا، التّعبير عن المشاعر السّلبيّة، أو إيجاد حلّ لمشكلة ما. مع ذلك، إنّ الغضب المفرط يمكن أن يضرّ بصحّتنا الجسديّة والنّفسيّة، أو يؤدّي إلى ردود أفعال عدوانيّة تضرّ بعلاقتنا. بيولوجيًّا، يؤدّي الغضب إلى إطلاق هرمونات التّوتّر في مجرى الدّم، وقد تؤدّي هذه الهرمونات إلى تدمير الخلايا العصبيّة في المناطق المرتبطة بالحُكم والذّاكرة، فضلًا عن إضعاف جهاز المناعة. لذلك، من المستحسن ضبط الغضب وتوجيهه لآفاق (مسارات) مفيدة، ولكن ليس من الواضح دائمًا كيف ينبغي القيام بذلك. تناولت دراسة نُشرت مؤخّرًا هذه القضيّة وعالجتها من منظور مقارن.
تحتوي كلّ عاطفة على مكوّن من التّحفيز (الإثارة) الجسديّ، الّذي يحدّد شدّة هذه العاطفة ضمن الجهاز العصبيّ العاطفيّ (الودّيّ)، ومكوّن إدراكيّ يرتبط بالمعنى الّذي نعزوه إلى حالة التّحفيز- أي إذا كنّا نعتبر التّجربة الّتي مررنا فيها مع حالة التّحفيز تجربة إيجابيّة أو سلبيّة. يرتبط الغضب بزيادة في التّحفيز الجسديّ والشّعور بالحيويّة والطّاقة، اللّذين إذا اجتمعا في الوقت نفسه، فقد يسبّبان المزيد من ردود الفعل الاندفاعيّة. لهذا السبب، يميل النّاس أحيانًا عند الغضب إلى الاندفاع والتّصرّف دون تفكير.
نظرًا لأنّ الغضب غالبًا ما تُنسب إليه تسمية إدراكيّة سلبيّة، فإنّ الكثيرين يجدون صعوبة في التّعبير عنه بطريقة صحّيّة أو توجيهه بطريقة مفيدة. لذلك، تمّ تطوير عدد من الاستراتيجيّات لإدارة الغضب، حتّى لا تضرّ بصحّتنا وعلاقاتنا. يمكن تقسيم هذه الاستراتيجيّات إلى مجموعتين: تلك الّتي تقلّل من التّحفيز الجسديّ من أجل الاسترخاء، مثل تمارين التّنفّس، اليوغا، والتّأمّل، وغيرها الّتي تزيد من التّحفيز الجسديّ للتّنفيس عن الغضب، مثل الجري، ركوب الدّرّاجات والملاكمة.
إحدى استراتيجيّات إدارة الغضب هي التّصرّف بطريقة تزيد من التّحفيز الجسديّ. اِمرأة تمارس الملاكمة | Jacob Lund, Shutterstock
ليست كلّ الطرق تولد متساوية
لكن، ما الأفضل؟ قام باحثون من الولايات المتّحدة بدراسة هذا السّؤال في دراسة جديدة، حيث استندوا على التّحليل التّلويّ (Meta-analysis) - أي تحليل البيانات الّتي تمّ الحصول عليها في العديد من الدّراسات - من أجل الإجابة عن هذا السؤال المعقّد، الّذي أسفر عن نتائج متباينة وحتّى متناقضة في التّجارب السّابقة. في الواقع، لاحظ الباحثون أنّه تمّ بالفعل إجراء ما لا يقلّ عن 16 تحليل تلويّ في محاولة لمعرفة ما هي أفضل طريقة لإدارة الغضب. حاولوا هذه المرّة أن يفهموا ما هو الأكثر فعاليّة: التّعامل مع الغضب من خلال الأنشطة الّتي تقلّل من التّحفيز، أو من خلال الأنشطة الّتي تزيد منه. تناولت الأبحاث ضمن التّحليل التّلويّ تأثير أنشطة (فعاليّات) على إدارة الغضب على الغضب، العدائيّة أو العدوان. تضمّنت هذه المراجعة 154 دراسة، شملت أكثر من عشرة آلاف مشارك من خلفيّات متنوّعة، بما في ذلك أشخاص خارجون عن القانون، وأشخاص يعانون من القصور الإدراكيّ.
أظهرت نتائج الدّراسة أنّ الأنشطة الّتي تقلّل من التّحفيز كانت فعّالة في تقليل الغضب والعدوان. في المقابل، بدا في البداية أنّ الأنشطة الّتي تزيد من التّحفيز لم تؤثّر بشكل كبير على الغضب والعدوان، لكن عندما فحص الباحثون البيانات بشكل أعمق وركّزوا على أنشطة محدّدة، أصبح من الواضح أنّها تختلف عن بعضها: البعض منها أدّى إلى زيادة الغضب والعدوان، بينما البعض الآخر خفّفَ (لَطّفَ) بالفعل هذه المشاعر. هذا الفرق يفسّر كيف أنّه عندما جُمعت كلّ الفعاليّات في مجموعة واحدة، لم يظهر تأثير على درجة الغضب والعدوان.
على سبيل المثال، وجدوا أنّ ممارسة الأنشطة البدنيّة مثل الرّكض وصعود السّلالم تزيد من مستوى الغضب. قدّم الباحثون تفسيرًا محتملًا: الأنشطة الوتيريّة المتكرّرة ربمّا أدّت إلى الملل والإحباط. من ناحية أخرى، ألعاب الكرة، مثل كرة القدم والكرة الطّائرة، والتّدريبات الرّياضيّة الجماعيّة خفّضت مستوى الغضب، وقد يكون السّبب وراء ذلك هو أنّ الأنشطة هذه تشجّع المشاعر الإيجابيّة. مع ذلك، إنّ هذه التّفسيرات ليست سوى فرضيّات، وهناك حاجة إلى المزيد من البحث لفهم الآليّات الّتي تربط نوع النّشاط البدنيّ مع العواطف الّتي تثيرها.
أظهرت نتائج التحليل التلويّ أنّ الأنشطة التي تحدّ من التّحفيز كانت فعّالة في الحدّ من الغضب والعدوان. اِمرأة تمارس التّأمّل | Microgen, Shutterstock
ولكن، نعم، الأمر يستحقّ تخفيف التّحفيز
يبدو، إذًا، أنّ الأنشطة الّتي تزيد من التّحفيز تؤثّر على مستوى الغضب بأكثر من طريقة. من ناحية أخرى، أدّت جميع الأنشطة المخفّفة للتّحفيز إلى انخفاض في درجة الغضب. من ثمّ، إنّ اختيار نشاط يقلّل من التّحفيز للتّعامل مع الغضب سيكون اختيارًا منطقيًّا، حتّى إذا اخترنا نشاطًا يزيد من التّحفيز، فمن المهمّ اختياره من بين الأنشطة الّتي ساعدت في تخفيف مستوى الغضب.
وُجد، أيضًا، أنّ الأنشطة الّتي ترتبط بالعنصر الإدراكيّ كانت أكثر فعاليّة.على سبيل المثال، يُحسّن التأمّل، الّذي يتضمّن أيضًا عنصرًا إدراكيًّا، القدرة على تنظيم العواطف، ويقوّي الشّعور بالارتباط بالآخرين، الرّحمة والتّعاطف معهم. هذا بالإضافة إلى تأثيره المعتدل على الخصائص الفسيولوجية للغضب، مثل خفض معدّل ضربات القلب، معدّل التّنفّس، وضغط الدّم.
إذا كان الأمر كذلك، فإنّ نتائج التّحليل التّلويّ تشير إلى أنّ تقليل التّحفيز يكون أكثر فعاليّة في تقليل مستويات الغضب والعدوان من زيادتها. ويوضّح الباحثون أنّ بعض أساليب "تفريغ الطّاقة"، مثل الجري أو صعود ونزول الدّرج، أو رفع الأثقال، ليست فعّالة في التّعامل مع الغضب، وهي أكثر فعاليّة في تقليل الغضب عن طريق تهدئة الجسم. ضمن برامج إدارة الغضب، يُفَضَّل الدّمج بين التّقنيات لتقليل الإثارة الفسيولوجية، مثل التّنفّس والاسترخاء والتّأمّل واليوغا واليقظة الكاملة (Mindfulness). إذا كنتم لا تزالون تفضّلون التّعامل مع غضبكم من خلال الرّياضة، فمن المستحسن الانضمام إلى نشاط جماعيّ، مثل لعبة الكرة أو دروس التّمارين الرّياضيّة. كما يمكنكم دائمًا اللّجوء إلى طرق أخرى لم يتمّ ذكرها في المقال، مثل الخروج إلى الطّبيعة أو التّحدّث مع صديق جيّد. إنّ الأهمّ هو التّعامل مع الغضب بطريقة صحّيّة، وعدم السّماح له بإيذائنا أو إيذاء الآخرين.