وجدَ باحثون من معهد وايزمان للعلوم أدلّة على وجود دورات هورمونيّة موسميّة لدى الإنسان. هل للسُّبات في الخريف أو الشتاء نظير لدى الإنسان؟
تتغيّر الطبيعة من حولنا بدورات ثابتة وفقًا لمواسم السّنة. نلاحظ هذا جيّدًا في أغصان الأشجار في الخريف، أو في تفتّح الأزهار ربيعًا. تُظهر العديد من الحيوانات أيضًا دورات موسميّة، مثل هجرة الطيور، السّبات الشّتوي أو الدّورة الوداقيّة الموسميّة (الوِحام). لا عجب في ذلك، لأنّه في العديد من المناطق يتغيّر الطّقس بشكل ملحوظ من موسمٍ لآخر، ومعه تتغيّر البيئة المعيشيّة للحيوانات والنباتات وفقًا لذلك.
هنالك أدلّة على أنّ الدّورات البيولوجيّة السّنويّة ليست فقط استجابة للظّروف الخارجيّة، إنّما تعكس العمليّات البيولوجيّة الدّاخليّة. على غرار السّاعة اليوميّة (Circadian clock)، الّتي تنظّم الدّورات اليوميّة مثل اليقظة والنّوم، لبعض المخلوقات توجد أيضًا ساعة بيولوجيّة موسميّة، تُكمل دورة كاملة كلّ عام وتُسمَّى بالسّاعة السّنويّة (Circannual clock).
هل لدى الإنسان أيضًا دورات فيسيولوجيّة سنويّة؟ قرّر باحثون في مختبر أوري ألون في معهد وايزمان للعلوم فحص هذا السؤال بشكل منهجيّ. استعانوا لهذا الغرض بقاعدة البيانات الطبيّة لصندوق المرضى "كلاليت"، والّتي تحتوي على قدرٍ كبيرٍ من المعلوماتِ الطبيّة عن ملايين المؤمَّنين. وجب الإشارة أنّه تمّ توفير البيانات للباحثين دون الفصح عن هوية المؤمَّنين.
قام الباحثون بسلسلة فحوصات للهرمونات في الدّم والبول، أُجريَت على مدار سنة. أظهرت النتائج وجود نمط دوريّ موسميّ في مستويات العديد من الهرمونات، بما في ذلك الكورتيزول (Cortisol)، هرمونات الغدد الدّرقيّة (Thyroid) مثل T3 و T4، وهرمونات الجنس: الإستروجين (Estrogen) والتيستوستيرون (Testosterone). الأمر الّذي جعل الكشف عن هذه الدورات ممكنًا ،هو حجم قاعدة البيانات الهائل، وبفضل زخم المعلومات المُخزَّنة فيها؛ كشفت عن تفاصيل كانت الأدلّة عنها قليلة.
لكن هل تشير هذه الدّورات إلى وجود ساعة داخليّة؟ الإجابة عن هذا السؤال تتطلّب إبقاء المشاركين في التّجربة تحت الرّقابة لعدّة سنوات في ظروف بيئيّة ثابتة، دون تغييرات بطول اليوم، بدرجات الحرارة وغيرها، وقياس مستويات الهرمونات طوال التّجربة. يُعتبر إجراء تجارب كهذه صعبًا للغاية حتّى على الحيوانات المخبريّة، وليست هناك طريقة عمليّة لتجريبها على الإنسان. لذلك؛ اختار الباحثون نهجًا مختلفًا- فقد حاولوا ملاءمة البيانات لنماذج حسابيّة تأخذ بعين الاعتبار التّفاعلات المتبادلة بين الهرمونات. كان النّموذج الأنسب هو الّذي أظهر أنّ لدى الإنسان ساعة موسميّة داخليّة وقدّم شرحًا عن كيفيّة عملها.
المحور الوِطائي - النّخاميّ - الكظريّ هو المسار الهورمونيّ الرئيسيّ المسؤول عن الاستجابة الجسديّة لحالات الضّغط الفيسيولوجيّ. رسم توضيحيّ للأعضاء والهرمونات في هذا المسار| Shutterstock, Sakurra.
عندما يكون للحجم أهميّة
لفهم كيف يشرح النّموذج الدّورة السّنويّة؛ يجب علينا بدايةً أن نفهم آليّات عمل المسارات الهرمونيّة الّتي تمّ فحصها، وفي مقدّمتها المحور الوِطائيّ - النّخاميّ - الكظريّ، هذا هو المسار الهرمونيّ الرّئيسيّ المسؤول عن الاستجابة الجسديّة لحالات الضّغط الفيسيولوجيّ (الإجهاد). يبدأ هذا المسار عمله بإفراز هرمون يُسمَّى مطلق لموجّه القشرة (Corticotropin-releasing hormone - CRH ) من منطقة في الدّماغ تُسمّى الوِطاء ( الهايبوثلاموس -Hypothalamus)، والّذي يقوم بدوره ،فيما يقوم، بضبط نشاط الجهاز الغديّ في الجسم. يحفّز هذا الهرمون إفراز هرمون الموجّه لقشر الكظر (adrenocorticotropic hormone -ACTH) من الغدّة النخاميّة (Hypophysis). عندما يصل هرمون الـ ACTH إلى الغدّة الكظريّة (Adrenal gland) عبر مجرى الدّم، فإنّه يقوم بتحفيزها على إفراز الكورتيزول. الكورتيزول مسؤول بدوره عن تنظيم العديد من الوظائف الفيسيولوجيّة والسّلوكيّة الّتي تساعد الجسم على التّعامل مع حالات الإجهاد.
بالإضافة إلى وظيفتها الأساسيّة، فإنّ للهرمونات المشاركة في هذا المسار دورًا في تنظيم حجم الغدد أيضًا. يحفّز هرمون الـ ACTH المُفرَز من الغدّة النّخاميّة على نموّ الغدّة الكظريّة، في حين أنّ الكورتيزول المُفرَز من الغدّة الكظريّة يعيق نموّ الغدّة النّخاميّة. بناءً على ذلك؛ يتنبّأ النّموذج نشوء إيقاعات بواسطة حلقة الارتجاع السّلبيّ (Negative feedback loop): يحفّز هرمون الـ ACTH الغدّة الكظريّة على النموّ ممّا يؤدّي إلى إفرازها للمزيد من الكورتيزول. تحت تأثير الكورتيزول، تتقلّص الغدّة النّخاميّة تدريجيًّا وبالتّالي يقلّ إنتاجها لهرمون الـ ACTH. نتيجة لذلك؛ يتقلّص حجم الغدّة الكظريّة من جديد، وتفرز كميّة أقلّ من الكورتيزول- وبالتّالي تنمو الغدّة النّخاميّة من جديد، وتقوم بإفراز هرمون الـ ACTH الّذي يحفّز نموّ الغدّة الكظريّة ، وهكذا دواليك.
أظهر الباحثون بناءً على فحوصات التّصوير بالرّنين المغناطيسيّ (MRI) أنّ متوسط حجم الغدّة النّخاميّة يتغيّر بدورات سنويّة. تظهر هنا الغدّة النّخاميّة في التّصوير بالرّنين المغناطيسيّ باللون البنفسجيّ البارز |Scott Camazine, Science Source, Science Photo Library
كبير في الصّيف، صغير في الشّتاء
وفقًا للنّموذج، فإنّ عمليّة نموّ وتقلّص الغدد بطيئة وتستمرّ عدّة أشهر، بحيث تمتدّ الدّورة الكاملة سنة تقريبًا. إذا كانت هذه الفرضيّة صحيحة، فيجب أن يتغيّر حجم الغدّة النّخاميّة على مدار السنة. في الواقع، استنادًا على التّصوير بالرّنين المغناطيسيّ، أظهر الباحثون أنّ متوسط حجم الغدّة النّخاميّة يتغيّر بدورات سنويّة- فهي أكبر في الصّيف وأصغر في الشّتاء.
تبعًا لذلك؛ فإنّ مستوى الكورتيزول، والّذي يساعد الجسم على التّعامل مع حالات الإجهاد، يصل إلى ذروته في الشّتاء - وهي فترة قد يتطلّب فيها من الجسد التّعامل مع ظروف قاسية مثل البرد القارس. يتنبّأ النّموذج أيضًا، كما وتؤكّد ذلك البيانات، بأنّه سيكون فرق بمقدار عدّة أشهر بين أعلى مستويات من هرمون الـ- ACTH وبين أقصى مستويات هرمون الكورتيزول. كما ونفى البحث النّموذج البديل للمسار الهرمونيّ، والّذي توقّع أنّ مستويات الهرمونات ستتصرّف بشكل مشابه - ترتفع أو تنخفض في نفس الوقت.
يفترض الباحثون بأنّ ساعة التّقلّبات الهرمونيّة قد تتزامن مع الدّورة الموسميّة الخارجيّة، على سبيل المثال، في استجابة الجسم للتّغيّرات في عدد ساعات الضّوء باليوم. وبالتّالي، إذا انتقل شخصٌ من نصف الكرة الشّماليّ إلى نصف الكرة الجنوبيّ؛ فستتزامن السّاعة وفقًا للموسم المحليّ. في المناطق الجغرافيّة القريبة من القطبين، مثل الدّول الاسكندنافيّة، حيث يختلف طول النّهار بشكل كبير بين الصّيف والشّتاء، تمّ قياس دورات هرمونيّة ذات سعة كبيرة أكثر على مدار السّنة - أي مستويات أعلى من الكورتيزول في الشّتاء وأقلّ في الصّيف.
قد يكمن اكتشاف الدّورات الهرمونيّة وراء بعض التّأثيرات الموسميّة الّتي تمّ قياسها سابقًا عند الإنسان: تختلف وتيرة نموّ الأطفال وجودة الحيوانات المنويّة للرجال وحتّى نسبة الولادة من موسمٍ لآخر. وفقًا لذلك، قرّر الباحثون أنّ البيولوجيا البشريّة تتناسب أيضًا مع تغيّر فصول السنة، حتّى لو كانت هذه التّغييرات معتدلة تمامًا.