وجدت دراسة جديدة أنّ مناطق الدّماغ البشريّ الّتي تغيّرت وتطوّرت في مراحل لاحقة من التّطوّر البيولوجيّ (Evolution)، هي أيضًا الّتي تشيخ أوّلًا.
يتمتّع البشر بأدمغة كبيرة ومُركّبة، والّتي تطوّرت على مدى ملايين السّنين من التّطوّر، والتّي تسمح لهم بالتّصرّف بطرق متطوّرة وإظهار قدرات تفكير متقدّمة. لكن هل ندفع ثمنًا لهذا العقل المذهل؟ تشير دراسة جديدة نشرت في المجلة العلميّة Science Advances إلى أنّ الدّماغ البشريّ معرّض بشكل خاصّ لعمليّات الشّيخوخة، وأنّ المناطق الّتي نمت وتطوّرت في المرحلة الأخيرة من تطوّرنا هي الأكثر عرضةً للخطر.
منذ أن افترقنا عن الشّمبانزي
سعت الدّراسة الجديدة إلى الإجابة عن سؤال تطوّريّ معقّد: أيّ المناطق الموجودة في الدّماغ البشريّ، قد خضعت للعديد من التّغييرات في المراحل اللّاحقة من التّطوّر، وما إذا كانت المنطقة الّتي تغيّرت ونمت في وقت لاحق أكثر عرضةً لعمليّات الشّيخوخة. لتحديد مناطق الدّماغ الّتي تطوّرت بصورة فريدة في الدّماغ البشريّ، قارَنَ فريق الباحثين من جامعة دوسلدورف في ألمانيا قواعد بيانات مسح التّصوير بالرّنين المغناطيسيّ (MRI)، لـ 480 دماغًا بشريًّا و 189 دماغًا للشّمبانزي، وهي الحيوانات الأقرب إلينا من حيث من التّطوّر.
لقد عاش آخر الأسلاف المشتركة بيننا وبين الشّمبانزي منذ ستّة إلى ثمانية ملايين سنة، ونحن نتشارك معهم في حوالي 99 بالمائة من تسلسل الـ DNA، المادّة الوراثيّة. منذ انفصال السّلالتيْن، تضاعف حجم الدّماغ البشريّ ثلاث مرات، لكن لم تنمو جميع الأجزاء بنفس المعدّل.
توفّر فحوصات التّصوير بالرّنين المغناطيسيّ (MRI) صورة عالية الدّقّة (resolution) لمَباني الدّماغ المختلفة، وهي غير جراحيّة ولا تضرّ بالأشخاص الّذين يخضعون للفحص. في المرحلة الأولى، ساعدت مقارنة الصّور الباحثين على تحديد مناطق الدّماغ التّي فيها أكبر اختلاف بيننا وبين الشّمبانزي. ومن المفترض أن تعكس هذه الاختلافات تطوّر الدّماغ البشريّ منذ تباعد سلالتنا عن سلالة الشّمبانزي. وقد لوحظت أكبر التّغيّرات في الفصّ الجبهيّ من القشرة المخّيّة، وخاصّةً في المناطق ما قبل الجبهيّة، والّتي توسّعت بشكل كبير عند الإنسان. ترتبط هذه المناطق بالقُدرات المعرفيّة المتقدّمة، بما في ذلك الانتباه، اتّخاذ القرار وحلّ المشكلات.
ساعدت مقارنة الصّور الباحثين على تحديد مناطق الدّماغ الّتي فيها أكبر اختلاف بيننا وبين الشّمبانزي، وكذلك بين الشمبانزي والقردة. رسم توضيحيّ يوضّح المناطق الّتي نمت بصورة كبيرة بين الأجناس المختلفة | من مقالة Vickery et al., Science Advances 2024
الأيدي السّحريّة
كما قام الباحثون بمقارنة صور للبشر والشمبانزي أيضًا بصورٍ لمسحِ أدمغة نوعين من القرود، قرود النّيل الزّرقاء (Papio anubis) وقرود المكّاك الرّيسوسيّة (Macaca mulatta)، والتي تُعدّ أبعد تطوريًّا عنّا وعن الشمبانزي. وهذه هي الطّريقة الّتي حدّد بها الباحثون مناطق الدّماغ، الّتي تطوّرت لاحقًا في مجموعة القردة البشريّة، والّتي نُعتبر نحن والشمبانزي جزءًا منها، مقارنةً بالقردة. ووجد الباحثون أنّ المناطق الّتي نمت بشكلٍ أكبر في الشّمبانزي، مقارنةً بالقردة كانت الفصّ الجداريّ والفصّ الجبهيّ، وخاصّةً المناطق المسؤولة عن التّحكّم والتّخطيط للحركة في هذه الفصوص. ربّما سمح هذا التّطوّر لأسلافنا وللشّمبانزي بالسيطرة بشكلٍ أفضل على حركات اليد. وبالفعل، فإنّ البشر والشّمبانزي قادرون على أداء حركات أكثر حساسيّة ودقّة من فصائل القردة الّتي اختُبِرت. وفي الشمبانزي، تتجلّى هذه القدرة، في استخدام مجموعة متنوّعة من الأدوات للحصول على الغذاء، على سبيل المثال، صيد النّمل الأبيض من المساحات الضيّقة باستخدام الأغصان.
في المرحلة الثّانية من التّجربة، حسب الباحثون الاختلافات بين أدمغة الشّمبانزي والبشر وفقًا لأعمار الأشخاص الّذين يتمّ اختبارهم. تسمح لنا عمليّات مسح الدّماغ بالتّمييز بين المادّة الرّماديّة (grey matter)، حيث فيها الخلايا العصبيّة، والمادّة البيضاء (white matter)، والتي تتكوّن بشكل أساسي من الامتدادات الّتي تنشأ من الخلايا العصبيّة وتربط بينها. أراد الباحثون دراسة مدى انخفاض المادّة الرّماديّة، أي معدّل موت الخلايا في دماغ كلّ نوع نتيجة للشّيخوخة. في هذه المرّحلة، تمّت دراسة البشر حتّى سن 58 عامًا والشّمبانزي حتّى سنّ الخمسين فقط. قدّر الباحثون أنّ سنة واحدة من عمر الإنسان تعادل في قيمتها 1.15 سنة من عمر الشّمبانزي. ولم يضمّ الباحثون كبار السنّ من البشر في هذه المرحلة من الدّراسة، للحفاظ على الاتّساق مع بيانات الشّمبانزي المتوفّرة لديهم.
مع التّقدّم في السّنّ، تقلّ كمّيّة المادّة الرّماديّة لدى البشر والشّمبانزي أيضًا. لا يتوزّع هذا الانخفاض بالتّساوي على جميع مناطق الدّماغ. رسم توضيحيّ يُظهِر انخفاض المادّة الرّماديّة مع تقدّم العمر: كلّما كانت المنطقة صفراء، كان انخفاض المادّة الرّماديّة أكبر | من مقالة Vickery et al., Science Advances 2024
الدّماغ في خريف العمر
على الرغم من هذه المحدودية، وجد الباحثون أنّ المادة الرمادية تتناقص مع تقدم العمر لدى كل من البشر والشمبانزي. لا يتوزع هذا الانخفاض بالتساوي على جميع مناطق الدماغ. عند البشر، المناطق التي احتفظت بكمية أكبر من المادة الرمادية هي الفص القذالي، وهو المسؤول عن المعالجة الحسية، وخاصة المعلومات التي تستقبلها حاسة البصر، والمناطق المسؤولة عن التحكم في الحركة. على النقيض من ذلك، فقدت الفص الجبهي، وخاصة المناطق أمام الجبهية، أكبر قدر من المادة الرمادية.
تُظهِر الدّراسة أنّه في المناطق الّتي شهدت المزيد من التّغييرات لدى البشر، تنخفض المادّة الرّماديّة بشكل أكبر مع التّقدّم في السّنّ. يطلق الباحثون على هذه القاعدة "مبدأ آخر ما يدخل هو أوّل ما يخرج"، وهو ما يعني أنّ المناطق التي تطوّرت بشكل كبير خلال الفترة التّطوريّة الأخيرة، هي أوّل من يتأثّر بعمليّة الشّيخوخة. ولم يُلاحَظ هذا الاتّجاه لدى الشّمبانزي. عند الشّمبانزي، خضعت المناطق المسؤولة عن التّحكّم في الحركة لأحدثِ التّغييرات، ولكنّها أصبحت محميّة بشكل أكبر من موت الخلايا. يخلص الباحثون إلى أنّ هذه الظاهرة خاصّةً بالبشر وليست مبدأ تطوّريًّا عامًّا.
أحد التّفسيرات المحتملة هو أنّ المناطق الأكثر عرضةً للإصابة بالضّرر في الدّماغ، والّتي تحوي بشكل أساسيّ خلايا ذات نتوءات كثيفة ومشابِك عصبيّة متعدّدة. تستهلك هذه الخلايا قدرًا أكبر من الطّاقة، وبالتّالي تصبح أكثر عرضةً للخطر، وأكثر عرضةً للتّدمير في المواقف العصيبة. قد يؤدّي موت الخلايا العصبيّة على نطاق واسع إلى التدهور المعرفيّ والأمراض العصبيّة التّنكسيّة، وهي أمراض أكثر شيوعًا في سنّ الشّيخوخة.
تُشير الدّراسة إلى أنّ موت الخلايا يبدأ قبل سنوات عديدة من ظهور هذا النّوع من الأمراض. توصّلت دراسات مماثلة إلى علامات يُمكن اكتشافها في الدّم، قبل ظهور أعراض التنكّس بعشرة إلى عشرين عامًا. ومن ناحية أخرى، يبدو أنّ الدّماغ يحوي آليات تعويضيّة تحمي القدرات المعرفيّة من العمليّات التّنكسيّة، على سبيل المثال، تنشيط الذّاكرة والأنشطة التّي تتطلّب مهارات عقليّة والّتي يُمكن أن تحميَنا، على الأقلّ إلى حدّ ما، من أضرار الشّيخوخة.