الآثار السّلبيّة المُقلِقة لِتضاؤل كمّيّة الأُكسجين في المحيطات

لم يدرك بنو البشر، إلّا بعد فترة طويلة من الزّمن، وهم مخلوقات لا تكاد تُذكر فيما إذا قورنت بالكرة الأرضيّة شاسعة الأطراف، أنّهم قادرون على التّأثير على المنظومة البيئيّة في كوكبنا السّيّار برمّته تأثيرًا جوهريًّا. لقد تولّد هذا الفهم بعد عقود زمنيّة من البحث والدّراسات العلميّة، تمخَّضت عن تطوير فكرة الحدود الكوكبيّة (Planetary Boundaries)، وذلك بريادة العالِم السويديّ يوهان روكستروم (Rockström). يهدف هذا النّموذج إلى تحديد العوامل البيئيّة، الّتي من شأن تأثير الإنسان عليها أن يُلحِق ضررًا غير مردود بالكرة الأرضيّة، وتحديد درجة التّأثير القصوى (بقيم رقميّة) بالنّسبة لكلّ عامل منها، الّتي لا يُسمح تجاوزها. تمّ تحديد تسعة حدود كهذه، منها تركيز غازات الدّفيئة في الغلاف الجوّيّ، درجة حموضة مياه المحيطات، سُمك طبقة الأوزون في الغلاف الجويّ العلويّ (الستراتوسفير)، مدى استخدام المياه العذبة، كمّيّة  الهباء الجوّيّ (الايروسولات - الجسيمات الصّغيرة جدًّا) في الغلاف الجوّيّ ومدى انبعاث الموادّ الكيميائيّة الضارّة من الصّناعات المختلفة. دعت، في الآونة الأخيرة، مقالة منظوريّة جديدة الباحثين ونشطاء البيئة وصانعي السّياسات إلى تعيين حدِّ جديد، الحدّ العاشر: فقدان الأكسجين من مصادر المياه على الكرة الأرضيّة. 

تحوّلت قائمة الحدود الكوكبيّة إلى أداة مركزية في تصميم سياسة بيئيّة دوليّة، وفي العمليّات التّنظيميّة، وأصبحت الدّول والمنظّمات تستخدمها في جهودها المبذولة لتأمين الاستقرار البيئيّ على الكرة الأرضيّة. اتفاقيّات باريس، الّتي وُقِّع عليها سنة 2015، وحُددت بموجبها وجهة التّقليل من انبعاث ثنائي أكسيد الكربون، هي من الأمثلة البارزة على التّطبيق الفعليّ للحدود الكوكبيّة، أضِف إلى ذلك قرار تقييد استخدام الأكياس البلاستيكيّة في أوروبا ابتداءً من سنة 2021، بعد أن اتّضح أنّ البلاستيك هو أحد الملوّثات المركزيّة في الطّبيعة. 


 تحوّلت قائمة الحدود الكوكبيّة إلى أداة مركزيّة في تصميم سياسة بيئيّة دوليّة وفي العمليّات التنظيميّة. يوضّح مخطّط المعلومات البيانيّ (إنفوجراف) أعلاه الحدود المختلفة وحالة كلّ منها حتّى عام 2023 | ائتمان: Azote for Stockholm Resilience Centre, based on analysis in Richardson et al 2023

الرفّ العاشر: الأكسجين الذّائب في المياه

تحتاج مخلوقات كثيرة تعيش في الماء للأكسجين، تمامًا مثلما تحتاجه الكائنات الّتي تعيش على اليابسة. لا تستطيع الغالبيّة العظمى من المنظومات البيولوجيّة البقاء على قيد الحياة، بدون جزيئات الأكسجين الذّائبة في الماء، سواء كانت هذه مياه عذبة، كالَّتي في البحيرات وينابيع الماء العذبة، أو مياه البحار والمحيطات. عُرضت في المقالة الجديدة بيانات تشير إلى انخفاض ملحوظ في تركيز الأكسجين المُذاب، في المجمعات المائيّة العذبة والمالحة على الأرض منذ سنة 1980، الّذي قد تكون له آثار هدامة على الحياة داخل الماء. قد يُلحِق تفاقم هذه العملية أضرارًا بالغة في هذه المنظومات الحياتيّة، ويؤدّي إلى ردّ فعل متسلسل مدمّر. يؤثّر ذلك بشكل مباشر على صناعة الغذاء وعلى الأمن الغذائيّ للبشريّة جمعاء، لأنّ مليارات من الأشخاص يعتاشون على الأسماك والطحالب وفواكه البحر. 

يتمّ استيعاب الأكسجين داخل الماء، كما على اليابسة، من قبل الكائنات الحيّة الّتي تستخدمه، وينبعث عن طريق الكائنات التي تقوم بعمليّة التّركيب الضّوئيّ. تنشأ المشكلة عندما يصبح تضاؤل الأكسجين أسرع من تجدّده، عندها يختلّ التّوازن بين استهلاكه وتكوّنه. تختنق البكتيريا الّتي هي بحاجة للأكسجين إذا قلَّت كمّيّته، وتموت الكائنات الأكبر الّتي يتعلّق وجودها ببقاء هذه البكتيريا على قيد الحياة. تتغذّى البكتيريا الّتي لا تحتاج للأكسجين في معيشتها، بالمقابل، على الحيوانات الميّتة، وتتكاثر هذه البكتيريا وتتكاثف لدرجة قد تؤدّي إلى حجب جزء كبير من الضّوء الّذي يخترق المياه الضّحلة، الأمر الّذي يعيق حدوث عمليّة التّركيب الضّوئي فيها. يتكون بذلك ردّ فعل متسلسل، دائرة تغذّي نفسها وتعجّل تضاؤل الأكسجين، لأنّ عمليّة التّركيب الضّوئيّ ضروريّة لإنتاجه.


لا تستطيع الغالبيّة العظمى من المنظومات البيولوجيّة البقاء على قيد الحياة ، بدون جزيئات الأكسجين الذّائبة في الماء. الفقمة بين الطحالب | Shutterstock, Jonas Gruhlke

لماذا يفقد الماء الأكسجين؟

أشارت الدّراسة إلى عدّة عوامل تؤدّي إلى زيادة سرعة فقدان الأكسجين من الماء. أحد هذه العوامل هو الارتفاع في درجة حرارة الماء؛ تقلّ ذائبيّة الأكسجين في الماء مع ارتفاع درجة حرارته، مثل ما يحدث في المشروبات الغازيّة: تنطلق الغازات من المشروب الغازيّ إلى الهواء عندما يسخن (ترتفع درجة حرارته)، ويحتفظ بالغازات إذا كان باردًا، ونرى فيه الفقاعات. كذلك "تهرب" جزيئات الأكسجين بسهولة من الماء الساخن الذي يحتوي على كمّيّة عالية نسبيًّا من الطّاقة الحراريّة. تواصل درجة حرارة الهواء والمياه في الارتفاع مع استمرار انبعاث غازات الدّفيئة، بالكمّيّات الّتي هي عليها الآن إلى الجو، ويؤدّي ذلك إلى انخفاض كمّيّة الأكسجين الذّائبة في الماء. 

العامل الثّاني الّذي يؤدّي إلى فقدان الأكسجين من الماء، هو ازدياد الفرق في الكثافة بين الطّبقات المائيّة. ينجم هذا الفرق عن أنّ طبقة الماء العليا تسخن أسرع من طبقات الماء الّتي تحتها (الأكثر عمقًا). يزيد من شدّة هذا العامل (ازدياد الفرق في كثافة طبقات الماء) انخفاض ملوحة طبقات الماء العليا في البحار والمحيطات، بسبب استيعابها كمّيّات متزايدة من المياه العذبة (قليلة الملوحة)، الّتي تصلها عند انصهار الكتل الجليديّة، والنّاجم عن ارتفاع درجات الحرارة في الجوّ. طبقات الماء العليا هي الأغنى بالأكسجين لأنّ الطّحالب الّتي تقوم بعمليّة التّركيب الضّوئيّ (وتُطلق الأكسجين) تنمو في الطّبقات الضّحلة (قليلة العمق نسبيًّا)، أضِف إلى ذلك قرب هذه الطبقات من الغلاف الجوّيّ (الّذي يحتوي على نسبة عالية من الأكسجين). تستغرق الحركة ما بين الطبقات، الّتي تتيح التّبادل بين الماء المُؤكسَد (الّذي يحتوي على نسبة أعلى من الأكسجين) والماء الأكثر عمقًا، وقتًا أطول مع ازدياد الفرق في كثافاتها. النّتيجة: تقلّ كمّيّة الأكسجين الّتي تقتحم طبقات الماء نحو الأعماق. 


  أشارت الدراسة إلى عدّة عوامل تؤدّي إلى زيادة سرعة فقدان الأكسجين من الماء. المناطق في المحيطات الّتي تعاني من نقص حادّ بالأكسجين | من المقال Benway et al 2019  

ماذا يمكن أن نفعل؟ 

حاليًّا، لم يُعيَّن، حدٌّ أدنى لكمّيّة الأكسجين الّتي يجب أن تتواجد في مياه المحيطات والبحيرات. كتب الباحثون في المقال: "يمثِّل انخفاض كمّيّة الأكسجين في المنظومات المائيّة على الكرة الأرضيّة عمليّةً أخرى مرتبطة بالحدود الكوكبيّة، والّتي تعتبر بالغة الأهمّيّة للأنظمة البيئيّة والاجتماعيّة في الكرة الأرضيّة، كما أنّه (انخفاض كمّيّة الأكسجين) يتأثّر بالتّغيّرات في ظروف الحدود الكوكبية الأخرى، ويكون له ردّ فعل لها. اقترح الباحثون تعيين حدٍّ أدنى لكمّيّة الأكسجين في الماء، وإدراجه ضمن الحدود الكوكبية، ومتابعته في المحيطات بشكل دائم، وأبدوا قلقًا بالغًا من عدم وجود أحد المؤشّرات الأكثر أهمّيّة للحياة على سطح الكرة الأرضيّة بين الحدود الكوكبية الآنيّة. كما ودعا الباحثون إلى وضع قيود على العمليّات الّتي تؤدّي إلى خفض تركيز الأكسجين، مثل إطلاق مياه الصّرف الصّحّيّ الخام داخل البحر - الّذي يؤدّي إلى تزايد استهلاك الأكسجين لتحليل المواد العضويّة الموجودة في نفايات مياه الصّرف، ومثل الإضرار بقاع البحر الذي ينجم عن الصّيد أو التّعدين (التّنقيب عن المعادن وغيرها) داخل الماء و تحته - تزيد هاتان العمليّتان من استهلاك الأكسجين، نتيجةً لانبعاث مواد من قاع البحر تؤدّي بدورها إلى تعاظم نشاط البكتيريا الّتي تستهلك الأكسجين. 

0 تعليقات