بعكس ما قد يخبرنا به حدسُنا، اتّضح أنّ هنالك أشخاصًا يتمتّعون بقدرةٍ أدائيّةٍ لا بأس بها على الرّغم من أنّه ينقصهم نصفٌ كاملٌ من الدّماغ
إنَّ القصص التي تدور حول الأشخاص الّذين يعيشون حياة طبيعيّة تمامًا، على الرّغم من كونهم يعانون من إصاباتٍ بالغةٍ أو نقصِ أجزاء كاملة من أدمغتهم قد تناقضُ المنطق؛ بيدَ أنّه قد اتّضح أنّ أدمغتنا تملك القدرة على إعادة بلورةِ وصقلِ قدراتها والتّغلّب على نقص بعض الأجزاء منها - هذا ما يكشفه بحث جديد أجريَ حولَ بعض المرضى الّذين يعيشونَ مع نصفٍ واحدٍ من أدمغتهم فقط!
إنّ استئصال نصف الكرة الدماغيّة (hemispherectomy)، هو إجراء طبّيّ متّبعٌ لتخفيفِ الأعراض التي يعاني منها مرضى الصّرع (Epilepsy)، وذلك في الحالات القصوى الّتي قد تشكّل خطرًا على حياة المريض أو إثرَ عدم الاستجابة للعلاج الدّوائيّ. في نطاق هذا العلاج، يتم استئصال نصف الكرة المصابة (النّصف الأيمن أو الأيسر من الدّماغ) أو يتمّ قطع الأعصاب الّتي تربط بين نصفيّ الدّماغ، في المنطقة الّتي تدعى الجسم الثّفني (Corpus Callosum).
على نحوٍ غير متوّقعٍ، يتمكّن المرضى الّذين يخضعون لهذا الإجراء في طفولتهم من الحفاظ على أداءٍ دماغيّ وحركيّ جيّد جدًّا ، لكن كيفية حدوثِ ذلك مبهمةٌ وغير واضحة. أظهر فريق أبحاث لين بول (Paul) في معهد كاليفورنيا للتّكنولوجيا (كالتيك) في وقتٍ سابقٍ، أنّ لدى الأشخاص الّذين وُلدوا بدون الجسم الثّفني كانت لا تزال هناك أربطة تصلُ بين نصفي الدّماغ، لكن، حتّى الآن لم يتمّ فحص ما يحدث فعلًا لدى الأشخاص الّذين ينقصهم نصف دماغ كامل. قد يوفّر البحث الجديد الذي أجراه بول وزملاؤه فهمًا أعمق يقدّمنا خطوة نحو حلّ اللّغز.
في الصّورة: إحدى العلاجات الحادّة. مسحٌ دماغيٌّ لشخصٍ خضع لإجراءِ -hemispherectomy استئصال نصف الكرة الدّماغية | Caltech Brain Imaging Center
أداءٌ سليمٌ تمامًا
شارك في البحث ستّة أشخاص بالغين ممن تمّ استئصال أحد نصفي الدماغ لديهم في طفولتهم المبكّرة ، قبل بلوغهم أحد عشرة عامًا . خضع المرضى المشاركون في البحث لمسح بواسطة التّصوير بالرّنين المغناطيسيّ (MRI) وتمت مقارنةُ الصورِ مع أخرى لستّة أشخاص سليمين. شمل البحث أيضًا مسحًا لـ 1482 دماغًا آخرلأشخاص سليمين، تمّ إجراؤها لأهداف أخرى. أظهرت المقارنة أنّ نمط النّشاط الدّماغيّ في وقت الرّاحة لدى المرضى ذوي أنصاف الأدمغة كان مشابهًا بشكل مدهش للنشاط الدماغي لدى الأشخاص السّليمين.
تقول باحثة البوست دكتوراة دوريت كلايمان (Kliemann ) الّتي قادت فريق البحث: "في اللّقاء الأوّل مع المرضى، يمكن للمرء أن ينسى تمامًا وضعهم الصحي. كذلك الأمرُ أمام شاشة الحاسوب، عندما أعاين نتائج فحوصات المسح بواسطة الـ - MRI الّتي تظهر نصف دماغ فقط، لا أزال أجد صعوبةً في تّصديق أنها تعودُ للأشخاص الّذين قابلتهم للتّوّ، والّذين يتكلّمون ويمشون بصورةٍ طبيعيّةٍ، إضافةً لكونهم قد اختاروا تخصيصَ جزءٍ من وقتهم للبحث". وأضافت في بيان صحفيّ "إنّ الأمور التي بمقدورهؤلاء المرضى تنفيذها لأمرٌ مدهشٌ حقًا! صحيحٌ أنّهم يواجهون العديد من التحدّيات لكن قدراتهم العقليّة والذهنيّة لا تزال عاليةَ الأداء بشكل ملحوظ، بالذات في ظلّ النقص العضوي الذي يعيشون معه في أدمغتهم".
إذن، كيف يمكن تفسير هذا الأداء الطّبيعيّ؟ لقد كشفت أبحاثٌ، على سبيل المثال، أنّ لدى هؤلاء المرضى أربطةٌ أكثر بين الشّبكات في الدّماغ مما لدى أقرانهم الأصحاء. وتشير الأبحاث إلى أنّ الأربطة داخل الشّبكات ترتبط بالتحكّم الحركيّ، في حين أن الأربطة بين الشّبكات الّتي تختلف وظائفها ضروريّة للأداء العقليّ ولاستخدام الذّاكرة في أداء المهام (ذاكرة العمل). على سبيل المثال، وُجدت لدى المرضى أربطةٌ أكثرُ بين الشّبكة المسؤولة عن الإصغاء والشّبكة المسؤولة عن الرّؤية، وبين الشّبكة المسؤولة عن المشي والشّبكة المسؤولة على الكلام.
"على الرّغم من نقص نصفِ دماغٍ لدى كلٍّ من المرضى ، إلا أننا قد وجدنا لديهم ذات الشّبكات الرئيسية الموجودة في أدمغة الأشخاص السّليمين" تقول كلايمان. "يبدو أنّ الشّبكات في أدمغتهم أكثر تعاونًا واتّصالًا. قد تبدو للوهلة الأولى طبيعيّة ومشابهةً للشبكات لدى الأشخاص السليمين، لكننا وجدنا أنّ مستوى التّرابط فيما بينها أعلى لدى جميع المرضى. "
جد الفرق. تدرّجات التّرابط بين الشّبكات لدى أشخاص يملكون دماغًا سليمًا كاملًا (من اليسار) وأشخاصٍ استؤصلت لديهم نصف الكرة الدماغية ( من اليمين) | المصدر: Caltech Brain Imaging Center
توسعةُ الشّبكات
أوضح الباحثون في مقالٍ نشروه، أنّ الزّيادة في الأربطة بين الشبكات الدماغيّة تعكس الطّريقة الّتي يعوّض فيها الدّماغ عن فقدان "الجزء المادّيّ" في سبيل الحفاظ على الأداء الذّهنيّ والوعي والإدراك. نظرًا لقلة عدد المشاركين في البحث، لم يتمكّن الباحثون من الرّبط بين الاختلافات في نشاط الدّماغ والسّلوكيّات أو أداءٍ عقليّ وذهنيّ معيّن كنسبة الذّكاء (IQ). كما أنّه تمّ فحص الأدمغة في وضعيةِ الرّاحة والاسترخاء فقط، لذلك لا يزال الإبهام يحيطُ مسألةَ كيفية تعوّيض الشّبكات للنقص في أجزاء معيّنة من الدّماغ أو في حال غيره من الأضرار أثناء القيام بمهام معيّنة ، وهذه مسألةٌ ينوي الباحثون دراستها في المستقبل.
تأمُل كلايمان أن تفيد نتائج البحث في فهم أعمق لإصابات دماغيّة أخرى وتعلّق حول ذلك بقولها: "نحاول أن نفهم مبادئ إعادة تنظيم الدّماغ الّتي يمكن أن تعوّض عن الضّرر. هذا الفهم من شأنه أن يساهم في تطوير طرق علاج قد تساعد الأشخاص الّذين يعانون من إصابات دماغيّة أخرى".
الترجمة للعربيّة: ريتا جبران
التدقيق العلمي: رقيّة صبّاح
التدقيق اللغوي: رغدة بسيوني