عندما يتعرّض النمل لمرض مُعدٍ، فإنّه يغيّر مبنى مسكنه بطريقة تمنع انتشار المرض
خلال وباء الكورونا، تعلّمنا جميعًا عن أساليب تساعد في الحدّ من انتشار المرض، أو على الأقلّ إبطاء انتشاره. تطلّب العديد من هذه الأساليب إجراء تغييرات سلوكيّة، وخاصّة في السلوك الاجتماعيّ: الحجر الصحيّ عند مخالطة حاملي الفيروس، تقييد التجمّعات في الأماكن المغلقة، والحفاظ على مسافة مترين بين الأفراد، وغيرها الكثير. لم تكن هذه هي المرّة الأولى الّتي يتّخذ فيها الناس مثل هذه الإجراءات لمكافحة الأوبئة: فقد تمّ اللجوء إلى العزل والإغلاق منذ مئات، وربّما حتّى آلاف السنين.
لا يعتبر البشر الكائنات الحيّة الوحيدة الّتي تغيّر سلوكها عند تعرّضها لمرض معدٍ. فقد أظهرت دراسة أجريت سنة 2018 أنّ النمل من فصيلة الحديقة السوداء (Lasius niger) يغيّر تنظيمه الاجتماعيّ استجابة للتعرّض لمرض ما. في التجربة، عرّض الباحثون بعض النمل لعدوى فطريّة، ونتيجة لذلك، "فصل" النمل المصاب نفسه عن المجموعة الأخرى، وقضى وقتًا أطول خارج المسكن. كذلك، حتّى النمل السليم، الّذي كان يعيش مع النمل المصاب في نفس المسكن، اتّخذ نفس التدابير الوقائيّة. بالإضافة، وطّد النمل علاقته مع النمل الّذي ينتمي إلى نفس مجموعته الفرعيّة، بينما قلّل بشكل كبير اتّصاله بالنمل من المجموعات الفرعيّة الأخرى- بطريقة مشابهة لـ "الكبسولات" الّتي استخدمت في بلادنا خلال وباء الكورونا.
في الآونة الأخيرة أظهر باحثون من المملكة المتّحدة أنّ النمل نفسه لا يكتفي بتغيير الشبكات الاجتماعيّة، بل يغيّر أيضًا المسكن نفسه. بحيث أنّه تمّ تعديل مبنى المسكن الّذي كان يتواجد فيه النمل المصاب بالفطريّات بشكل مختلف، ما يعيق انتشار العدوى. نشرت هذه الدراسة على موقع "بيو آركايف"؛ BioRxiv، الّذي ينشر المقالات قبل نشرها في المجالات العلميّة، ولم تخضع بعد للمراجعة.
يغيّر التنظيم الاجتماعيّ وهيكل المسكن استجابة للتعرّض للمرض. نمل من فصيلة الحديقة السوداء بجانب البيض، اليرقات، الشرانق، الملكة | Nik Bruining, Shutterstock
أقلّ ازدحامًا، أكثر عزلة
أنشأ الباحثون عشرين مستعمرة نمل تضمّ كلّ منها 180 نملة، وأتاحوا للنمل بناء المسكن داخل حاوية مليئة بالتراب. في اليوم التالي، أضاف الباحثون عشرين نملة لكلّ مستعمرة. حوَت عشر من هذه المستعمرات نملًا مصابًا بالفطريّات المعدية، بينما كانت المستعمرات العشر الأخرى بمثابة مجموعات ضابطة، حيث كان النمل يتمتّع بصحّة جيّدة. تابع الباحثون المراقبة لمدّة ستّة أيّام بعد بناء المسكن، وقارنوا بين المستعمرات الّتي تعرّضت للعدوى الفطريّة وتلك الّتي لم تُصَب.
في المستعمرات المصابة بالعدوى، حفر النمل الحجرات بشكل أسرع، ما قلّل من الكثافة فيها وأدّى إلى خفض خطر الإصابة بالعدوى. كذلك، أبعدت النملات مداخل االمساكن عن بعضها، ما أدّى إلى تقليل الاتّصال بين النمل الخارج من المسكن والداخل إليه. قام الباحثون بمسح المساكن باستخدام أجهزة التصوير المقطعيّ المحوسب (CT scan) والّتي تعتمد على الأشعّة السينيّة، لفحص وقياس بنيتها الداخليّة. وجدوا أنّ قطر المساكن المصابة كان أكبر، وكانت "الحجرات" الموجودة بداخلها أكثر عزلة عن بعضها، وكان هناك عدد أقلّ من الحجرات الّتي تربط بينها. من بين أمور أخرى، تعيش الملكة واليرقات في حجرات، ويبدو أنّ هيكل المسكن مصمَّم لحمايتها من العدوى. بالإضافة إلى ذلك، رأى الباحثون أنّ النمل المصاب نفسه قضى وقتًا أطول خارج المسكن مقارنة بالنمل السليم: قد يكون هذا شكلًا من أشكال العزلة الذاتيّة، حيث يتجنّب بيئة المسكن الكثيفة تحت الأرض قدر الإمكان.
استخدم الباحثون برنامجًا يحاكي انتشار المرض في ظلّ ظروف مختلفة، وأظهروا أنّ تغيير بنية المسكن يساهم في حماية المستعمرة من العدوى، ويعيق الانتشار. مع ذلك، تبقى الأسباب الّتي تدفع النمل لتغيير سلوكه وتعديل بنية المسكن عند تعرّضه للعدوى بحاجة إلى المزيد من التوضيح. يعتقد الباحثون أنّ تغيير سلوك النمل ليس نابعًا من تأثير عدوى الفطريات فيه بشكل مباشر، وذلك لأنّ النمل المصاب يقضي معظم وقته على السطح أو بالقرب منه، في حين أنّ النمل الّذي كان يقوم بتعديل شكل المسكن وحفره عميقًا كان سليمًا. يرجّح الباحثون أنّ التغيّرات الهيكليّة في المسكن قد تكون ناجمة عن تغيّر في عمليّة اتّخاذ القرار لدى النمل السليم، والّذي لاحظ أنّ بعض زملائهم قد أصيبوا بالفطريّات.
A- مستعمرة مكوّنة من 180 نملة تمّ إضافة 20 نملة إليها؛ B- الهيكل الداخليّ للمساكن في الأشعّة المقطعيّة؛ C- نماذج ثلاثيّة الأبعاد تمّ إنتاجها من عمليّات المسح. البروتوكول التجريبيّ | مقتبس من مقال Leckie et al.
تأمّل طرُقَها وكُنْ حكيمًا
الحشرات الاجتماعيّة، مثل النمل أو النحل، معرّضة بشكل خاصّ للأمراض المعدية. لا يقتصر الأمر على أنها تعيش وتعمل في بيئة مكتظّة- حيث يتواجد عشرات أو مئات أو حتّى آلاف الأفراد معًا في مسكن مغلق- ولكن أيضًا عادةً ما يكون جميع أعضاء المجموعة من نفس العائلة، و يتشابهون من ناحية الجينات إلى حدّ كبير. يزيد ذلك من خطر الانتشار السريع للمرض، إذ إنّ العدوى الّتي قد تصيب نملة واحدة يمكن أن تنتقل إلى جميع النملات الأخرى أيضًا. قال سيباستيان ستوكمير (Sebastian Stockmaier)، باحث الأمراض الّذي لم يشارك في البحث، في مقابلة مع موقع "ساينس نيوز"؛ Science News إنّه لهذا السبب، طوّرت الحشرات الاجتماعيّة استراتيجيّات مصمَّمة لحمايتها من الأمراض المعدية، والّتي "تسعى عادة لحماية المجموعة بأكملها، ولا تركّز على الفرد المصاب فقط".
كتب الباحثون في المقال الّذي نشروه أنّه من الممكن أن يتعلّم البشر أيضًا شيئًا من سلوك النمل. وأشاروا إلى أنّ "التغييرات المعماريّة المعروضة هنا تمّ تحديدها على مدى تاريخ تطوّريّ طويل بفضل كفاءتها، وقد تكون بمثابة مرجِع أو مصدر إلهام للوقاية من الأمراض لدى البشر".