كشفت دراستان نُشرتا مؤخّرًا أنّ برنامج التّطعيم العالميّ وجهاز التّطعيم في الولايات المتّحدة الأمريكيّة أنقذتا، في العقود الأخيرة، حياة الملايين من النّاس ومنعت الأمراض والمعاناة

التّطعيم هو الوسيلة المتوفّرة الأكثر أمانًا وفاعليّةً لمنع الأمراض المُعدية وما ينجم عنها من إعاقات جسديّة ووفيّات. تزداد نجاعة التّطعيم، مثل غالبيّة التّدخّلات الطِّبّيّة الوقائيّة، كُلّما أُعطيت في جيل مبكّر. تُدير منظّمة الصِّحّة العالميّة برنامج التّطعيمات المُوصى بها للأطفال، وتساهم في إطارها في توفير اللُّقاحات للدُّول الفقيرة. ما هو مدى نجاعة هذا البرنامج؟ تمّ، ضمن دراسةٍ أُجريت مؤخّرًا، فحص مدى نجاح التّوصيات في آخر خمسة عقود. 

يختلف برنامج التّطعيم العالميّ بين منطقة وأخرى وبين الدُّول المختلفة لأنّ مُسبّبات الأمراض ليست متجانسةً في أنحاء العالم، وهي تتأثّر بالمناخ وبِعوامل أخرى. فُحصت في هذه الدّراسة عيّنات من الأمراض ذات ميّزات مختلفة، ولم تُفحص جميع التّطعيمات المتوفّرة. شملت التّطعيمات الّتي تمّ اختيارها للفحص أمراضًا بكتيريّة (المستدمية النّزليّة B الّتي تُسبّب التهاب السّحايا؛ التهاب السّحايا A؛ السُّعال الدّيكيّ؛ المكوّرات الرّئويّة الّتي تُسبِّب الالتهاب الرّئوي؛ مرض الدَّرن أو السِّلّ)، وأمراض فيروسيّة (التهاب الكبد B، التهاب الدّماغ اليابانيّ، الحصبة، شلل الأطفال، الفيروس العجليّ، الحصبة الألمانيّة والحُمّى الصّفراء) واللّقاحات ضد السُّموم البكتيريّة (الدّفتيريا، الكُزاز).

فُحصت في إطار هذه الدّراسة الكثير من مخازن المعلومات الّتي اشتملت على تفاصيل عن التّطعيمات، بما فيها عدد الجُرعات، ونوعيّة اللّقاحات، ومواعيد تلقّيها. كما تتبّع الباحثون بيانات الحالات المرضيّة والوفيّات، وتفشّي الأمراض وغيرها. استخدم الباحثون نموذجًا رياضيًّا لتقدير المُعطيات الكاملة عن الدّول الّتي افتُقدت فيها مثل هذه المعطيات، أو أنّها لم تكن مفصّلة تفصيلًا كافيًا، وذلك بالاعتماد على المُعطيات الجزئيّة المتوفّرة المتعلّقة بالتّطعيمات، والإصابات المرضيّة. 


تُدير منظّمة الصِّحّة العالميّة برنامج التّطعيمات المُوصى بها للأطفال. يشمل المشروع المساهمة في تمويل اللّقاحات للدّول الفقيرة. بناية منظّمة الصِّحّة العالميّة في جنيف، سويسرا | ويكيميديا، Yann Forget

استخدم الباحثون مخازن المعلومات الدُّوليّة ومخازن معلومات منظّمة الصِّحّة العالميّة نفسها. بالتّالي، فهم لم يتناولوا المستوى الفرديّ، بل اكتفوا بالاتّجاهات البائنة على نطاقٍ جغرافيّ. أخذت النّماذج الرّياضيّة بالحسبان التّفاصيل المُتاحة حول أنماط انتشار الأمراض قبل بداية تناول اللّقاحات المضادّة لها. تتوفّر لبعض هذه الأمراض -مثل شلل الأطفال والحصبة-، منذ سنين، نماذج تُبيّن طريقة انتشارها بين الأفراد في المجموعات غير المطعّمة. 

أخذ الباحثون بالحسبان تراجع الوقاية التّطعيميّة مع مرور الزّمن، كما في حالة السُّعال الدّيكي والكُزاز (التيتانوس)، حيث يتعيّن  تجديد التّطعيم ضدّهما كلّ عشر سنوات. أُجريت جميع الحسابات، بالطّبع، وفقًا للتّغيّرات في الإصابة بالمرض. فُحص تأثير التّطعيمات على نسبة الوفيّات، وعدد السّنين المضافة للحياة -بفضل التّطعيمات-، وكذلك عدد السّنين "الصِّحّيّة"، أي الفترة الزّمنيّة الّتي عاشها الشّخص دون المعاناة من التّشوّهات الجسديّة والصّعوبات والإعاقات النّاجمة عن الأمراض الّتي تتوفّر لها اللّقاحات المناسبة.

تزيد حقيقة أنّ اللّقاحات قامت بدورها بشكل فعّال من صعوبة مثل هذه القياسات. تتناول جميع النّماذج مسألة "ما الّذي كان سيحدث لو أنّ"، ولا تتطرّق إلى الواقع بعينه، بسبب نجاعة اللّقاحات في منع الإصابة بالأمراض والوفيّات. ذلك أمر مبهج، فأطفال وأشخاص سليمون أفضل من البديل القاتم، إلّا أنّ ذلك يزيد من صعوبة القياسات. من الممكن المقارنة بين الفائدة من اللّقاحات بالتّوفير الماليّ في نفقات الرّعاية الصِّحّيّة الّتي يستفيد منها أولئك  الّذين لم يُدخّنوا قطّ. تُوفّر لنا كلّ علبة سجائر لا نُدخّنها مبلغًا من المال، لكنّنا لا نملك، في الواقع، صندوق توفير كبير لنشتري بِمدّخراته شقّة جديدة أو يختًا. 


استخدم الباحثون قواعد البيانات الحكوميّة وقواعد بيانات منظّمة الصِّحّة العالميّة. بطاقة تطعيمات | Shutterstock, Firn

الملايين من الأطفال الأحياء

على الرّغم من هذه التّحفّظات، فإنّ النّتائج مثيرة للإعجاب،. منعت التّطعيمات الّتي تمّ فحصها، حسب ما اتّضح من الدّراسة، وفاة 154 مليون شخص في أنحاء العالم خلال العقود الخمسة الأخيرة. الغالبيّة العُظمى منهم -146 مليون- كانوا سيلقون حتفهم خلال طفولتهم قبل تجاوز الخمس سنوات، و101 مليون منهم لم يكونوا ليصلوا حتّى إلى عامهم الأوّل. يعود الفضل في أربعين بالمئة من الانخفاض العالميّ في وفيّات الأطفال منذ سنة 1974 لهذه التّطعيمات، وكذلك في أكثر من نصف (52 بالمئة) الانخفاض في وفيّات الأطفال في القارّة الإفريقيّة.

حتّى عام 2024، يُلاحظ بشكلِ خاصّ تأثير اللقاحات ومساهمتها في إنقاذ الأرواح  لدى الأطفال دون سنّ العاشرة الّذين تلقّوا برنامج التّطعيم الكامل المطلوب في منطقة إقامتهم. تتجلّى مساهمة التّطعيمات بشكلٍ بارزٍ جدًّا  في الدّرجة الأولى في قارّة إفريقيا، الّتي تُعتبَر الأفقر من بين القارّات في العالم؛ إلا أنّ التّطعيمات تساهم في إنقاذ الأرواح وإطالة الحياة في جميع أنحاء العالم.


مَنعت التّطعيمات الّتي تمّ فحصها وفاة 154 مليون شخص في أنحاء العالم خلال العقود الخمسة الأخيرة. تُظهِر الرُّسوم البيانيّة، من اليسار إلى اليمين: حالات الوفاة الّتي مُنعت، الزّيادة في عدد سنوات الحياة، والزّيادة في عدد السنين من الحياة الصِّحّيّة السّليمة | من المقال، Shattock, AJ et al. The Lancet, 2024 برنامج التّطعيم الوطنيّ

يُدار في الولايات المتّحدة برنامجُ تطعيمٍ حكوميّ منظّم ومُموّل، يتمّ فيه تتبّع ما ينجم عنه من آثار صحّيّة واقتصاديّة، ويمكن أن نستقي منه معلومات أكثر دِقّة حول نجاعة اللّقاحات. 

لا يوجد في الولايات المتّحدة الأمريكيّة تأمينٌ صحِّيّ رسميّ، بحيث تتْبَع الشُّؤون الطِّبّيّة في غالبيّتها للقِطاع الخاصّ، ذلك بخلاف الوضع القائم في العالم الغربيّ. شُرِع، على الرّغم من ذلك، سنة 1994 بتنفيذ مشروعٍ قُطريّ سُمّي "التّطعيم للأولاد"، يتمّ بموجبه تمويل التّطعيمات للأولاد حتّى جيل 18 لأولئك الّذين لا يستطيع والداهم تحّمل تكاليف التّطعيمات الخاصّة بهم. شمل هذا المشروع، حتّى سنة 2023، 54 بالمئة من الأطفال والأولاد الّذين لم تتجاوز أعمارهم سنّ الثّامنة عشرة في الولايات المتّحدة الأمريكيّة، وتخلّل المشروع توثيقًا دقيقًا يُتيح معرفة اللّقاحات الّتي حصل عليها كلّ طفل وطفلة وفي أيّ جيل. 

نشر المركز الأمريكيّ للسّيطرة على الأمراض والوقاية منها (CDC) بيانات حول تقييم الفائدة العامّة وعدد حالات الوفاة الّتي مُنعت بفضل التّطعيمات في الولايات المُتّحدة خلال ثلاثين عامًا. فُحصت في الدّراسة غالبيّة التّطعيمات الّتي تُموّلها الدّولة وتُعطى للأطفال ذوي الاستحقاق. شملت التّطعيمات اللّقاحات ضدّ الكُزاز (التّيتانوس) والخُناق (الدّفتيريا) والشُّهاق (السُّعال الدّيكيّ)، التهابات الكبد الفيروسيّة A و B، جدري الماء، المكوّرات الرّئوية والفيروس العجليّ (روتا). لم يشمل الفحص اللقاحات ضدّ الأنفلونزا والكورونا، لأنّ حساب التّكلفة مقابل الفائدة لهما يختلف عن تلك الخاصّةهبباقي اللّقاحات، كما لم يشمل الفحص اللّقاح ضدّ الفيروس المخلويّ التّنفسيّ (RSV)، لأنّه حديث نسبيًّا ويصيب فئة معيّنة من السُّكّان فقط. 

تشير نتائج الدّراسة إلى أنّه لولا اللّقاحات، فإنّ كلّ واحد من 117 مليون طفل حصلوا على اللّقاحات خلال السّنوات 1994- 2023 كان سَيُصاب بأربع أمراض بالمعدّل، من الأمراض الّتي شُملت في البرنامج القطريّ. بلغ بذلك مُجمَل ما تمّ منعه من أمراض إلى 508 مليون حالة، و 32 مليون علاج في المستشفى، والأهمّ من ذلك أنّ 1,129,000 طفل كانوا ليموتوا. يتّضح، عند ترجمة هذه المُعطيات إلى مبالغ ماليّة، أنّه قد تمّ توفير ما يعدِل 540 مليار دولار من نفقات مباشرة لعلاج المرضى، مثل أيّام الرّقود العلاجيّة في المستشفيات والأدوية. وعند الأخذ بالحسبان النّفقات الإضافيّة غير المباشرة، مثل: أيّام الإجازة للوالديْن، علاج الأضرار المُترتّبة عن المرض وغيرها، يصل التّوفير للمجتمع برمّته خلال الثّلاثة عقود المذكورة إلى مبلغ خياليّ قدره 2.7 تريليون دولار. 


من بين حوالي 32 مليون حالة إصابة بالمرض مُنعت، أكثر من 13 مليون حالة هي إصابة بالحصبة. طفل مُصاب بالحصبة | Jim Goodson / CDC / Science Photo Library

تُثير أعداد حالات الرّقود العلاجيّ في المستشفى، والإصابة بالأمراض، والوفيّات التي مُنعت الدّهشة. مثلًا، من بين 32 مليون حالة رقود علاجيّ في المستشفى تمّ منعها، كان أكثر من 13 مليون حالة منها ناجمة عن الحصبة، واحدة من  أكثر الفيروسات المُعدية الّتي عرفتها البشرية. من أصل 1.13 مليون حالة وفاة مُنعت خلال الثّلاثة عقود الأخيرة، كان أكثر من 750 ألف حالة وفاة منها ناجمة عن الخُناق (الدّفتيريا)، وهو مرض بكتيريّ يشكّل خطرًا على الأطفال في جيل مبكّر بشكلٍ خاصّ، ولكنّه يؤثّر بشدّة على البالغين أيضًا.

تكاد تكون هذه الأمراض قد انقرضت تمامًا من العالم الغربيّ بفضل إدراجها في منظومة التّطعيمات الرّوتينيّة، وبفضل خطّة التّطعيمات العالميّة؛ إلّا أنّها عاودت الظّهور مؤخّرًا بسبب ظاهرة الامتناع عن تلقّي اللّقاحات. لم تختفِ خطورتها بعد، وقد تنجم عنها أضرار كبيرة، كما تؤكِّد الدّراسة.

رغم أنّ إنقاذ الأرواح ومنع اللّجوء للمستشفيات والمعاناة هو العامل الأهمّ، إلّا أنّه لا ينبغي تجاهل الأبعاد الاقتصاديّة للتّطعيمات. تُوفِّر التّطعيمات الأيّام المرضيّة، السّفر للعلاج الطِّبّيّ، الأدوية، أيّام الرّقود العلاجيّ في المستشفى، علاج ما ينجم من مضاعفات عن المرض وعمل الأطبّاء والممرّضين والممرّضات وعُمّال الدّوائر الصِّحّيّة. تُسلِّط هذه الأرقام الضّوء على أنّ الوقاية في سنٍّ مبكّرة تؤتي ثمارها على المدى البعيد. كوني طبيبةً تعمل في مجال الصِّحّة العامّة وترى تأثير اللّقاحات على المجتمع، فإنّ استنتاجات الدّراسة واضحة جدًّا بالنّسبة لي- اللّقاحات هي وسيلة فعّالة وآمنة وصحِّيّة للوقاية من الأمراض ومضاعفاتها، وإنقاذ الأرواح، ومنع المعاناة.

0 تعليقات