بحث جديد: بدأت الطريق إلى التكنولوجيا الحديثة منذ حوالي 600 ألف سنة، مع بداية الحضارة التراكميّة، حيث كلّ جيل يبني ويضيف إلى إنجازات أسلافه الّذين سبقوه.
"ليس للإنسان مزيّة على البهيمة"، هكذا زعم كوهيليت في سفر الجامعة، سابقًا بما لا يقلّ عن ألفَي سنة روّاد نظريّة التطوّر، الّذين كشفوا العلاقة بيننا وبين بقيّة الحيوانات، وقدّموا الإنسان كما هو في الحقيقة: كائن حيّ من بين العديد من الكائنات الحيّة، تقريبًا.لأنّه وعلى الرغم من هذا، فإنّ هناك شيئًا مختلفًا لدى الإنسان. إنّ حضارتنا والتكنولوجيا الّتي لدينا لا تشبهان أيّ شيء ينتجه أيّ حيوان آخر، والتطوّرات الحضاريّة الّتي أنشأناها بمساعدتهما أتاحت لنا التوسّع إلى كلّ ركنٍ من أركان الكرة الأرضيّة تقريبًا، بل والوصول خارجها. إنّ مُنتجات هذه الحضارة- الزراعة، البلدات والمدن والطرقات- غيّرت وجه الكوكب كليًّا. الحاسوب أو الهاتف الذكيّ الّذي تقرؤون بواسطته هذه المقالة ليس سوى مثال واحد على التكنولوجيا المتقدّمة الّتي لدينا، في حين أنّ الحيوانات الأكثر تقدّمًا في مجال التكنولوجيا لا تزال تستخدم أدوات بسيطة جدًّا، مصنوعة من الخشب أو الحجر.
ما هو سرّ النجاح التكنولوجيّ الّذي لدينا؟ يعتقد الكثير من الباحثين أنّ السّرّ يكمن في قدرتنا على التّعلّم من الآخرين، والتقدّم على إنجازات أسلافنا. يوجد لدى البشر "حضارة تراكميّة": إنّ كلّ جيل يتعلّم تكنولوجيا والديه، يُحسّن منها ويضيف إليها، وأحيانًا يكتشف عن طريق الصدف تغييرات تكون مفيدة. هكذا، وعلى مدى أجيال عدّة، تتطوّر تكنولوجيا لم يكن من الممكن لأيّ شخص أن يخترعها بمفرده من الصفر. تدين التكنولوجيا الحديثة بوجودها إلى حقيقة أنّنا نقوم بالوقوف على أكتاف المخترعين السابقين، ولسنا مجبرين على إعادة اختراع العجلة في كلّ مرّة من جديد.
يبدو أنّ الحال لدى الحيوانات الأخرى مختلف عنّا. هناك حيوانات تتعلّم من بعضها البعض وتملك حضارة وتقاليد، ولكن وبشكل عامّ، فإنّ التكنولوجيا لديها تقتصر على ما يستطيع كلّ فردٍ اختراعه بمفرده، فيما لو توفّرت الظروف المناسبة. على الرّغم من ذلك، أظهرت دراسات نُشرت هذه السنة أنّ حيوانات الشمبانزيّ، بل وحتّى النّحل، قادرون على التّعلّم من الآخرين مهامّ لا يستطيعون حلّها بمفردهم، ولكن يبدو أنّ هذا نادر جدًّا ما يحدث في الطبيعة.
أدوات بمستوى الشمبانزيّ. أدوات حجريّة قديمة جدًّا تمّ اكتشافها في كينيا، ويمكن صقلها في ثلاث خطوات بسيطة | تصوير: Curry, Michael. 2020. Oldowan Core, Koobi Fora. Museum of Stone Tools
قفزة في درجة تعقيد الأدوات
أحد الأسئلة المتعلّقة بالحضارة التراكميّة لدى الإنسان هو: متى بدأت؟ متى انفصلنا عن بقيّة الكائنات الحيّة الأخرى، وانتقلنا إلى الطريق الذي أوصَلنا إلى الحضارة الحديثة؟ في دراسة نُشرت مؤخّرًا، حاول باحثون من الولايات المتّحدة الإجابة عن هذا السؤال من خلال فحص الأدلّة الرئيسة الّتي لدينا عن التكنولوجيا القديمة: الأدوات الحجريّة.
فحص الباحثون عدد الخطوات- أو مراحل العمل - اللّازمة لإنتاج كلّ أداة حجريّة. أقدم الأدوات الحجريّة الّتي لدينا تعود إلى حوالي 3.3 مليون سنة مضت، وليس من المستغرب أنّها الأبسط من بين جميع الأدوات: فهي تتطلّب ثلاث مراحل على الأكثر. قبل حوالي 1.8 مليون سنة، كانت الأدوات بسيطة تقريبًا، ولم تتطلّب أكثر من مرحلتَي عمل إلى أربع مراحل لإنتاجها. ومنذ 1.8 مليون سنة وما بعد ذلك، أصبحت أكثر تعقيدًا بعض الشيء، وشمل إنتاج بعضها خمس أو ستّ أو حتّى سبع خطوات. لكنّ القفزة الكبيرة حدثت قبل عصرنا بحوالي 600 ألف سنة، حين بدأنا في العثور على أدوات حجريّة تتطلّب من 5 إلى 18 مرحلة إنتاج. ولم تتوقّف التكنولوجيا عند هذا الحدّ، فمنذ ذلك الحين بدأت تزداد تعقيدًا بوتيرة أعلى بكثير ممّا شوهد من قبل.
في دراسات أُجريت في الماضي، طُلب فيها من مشاركين لم يكن لديهم خبرة سابقة في نحت الحجر إنتاج أدوات حجريّة من فتراتٍ مختلفة، ظَهَر أنّ الناس قادرون على نحت أبسط الأدوات دون أيّ تدريب. في أغلب الأحيان، وحين كانت الأدوات تتطلّب ستّ خطوات أو أقلّ، كان المشاركون قادرين على إنتاجها عن طريق التجربة والخطأ، دون رؤية شخص آخر أمامهم يقوم بفعلها. هذه هي المرحلة الّتي وبحسب الافتراضات، تتواجد فيها حيوانات مثل الشمبانزيّ- حيث تقتصر التكنولوجيا لديهم على ما يمكنهم تطويره بأنفسهم.
مقابل ذلك، فإنّ الأدوات الأكثر تعقيدًا، وخصوصًا تلك الّتي تمّ إنشاؤها ابتداءً من 600 ألف سنة قبل عصرنا، كانت تتطلّب تدريبًا ودراسة، وحتّى مع هذه الأدوات، كان على الطلاب التدرّب قبل أن يتمكّنوا من إنتاج أداةٍ منحوتة بشكل صحيح. لقد تغيّر شيءٌ ما في تلك الفترة، ويعتقد الباحثون أنّ التغيير يشير إلى بداية الحضارة التراكميّة. لقد كانت هذه هي المرحلة، بحسب افتراضهم، الّتي بدأ فيها الناس بتقليد الإجراءات الّتي قام بها أعضاء مجموعتهم بشكل دقيق، وبدؤوا ربّما أيضًا في تعليم بعضهم البعض بشكل فعّال- أي، أن يُظهِروا لبعضهم البعض كيفيّة الإمساك بالحجر، أين يجب أن يتمّ الضرب عليه، وبأيّ مقدار من القوّة.
أدوات أكثر تطوّرًا يتطلّب إنتاجها 5-6 مراحل. أداة حجريّة من العصور الوسطى تمّ اكتشافها بالجزائر | تصوير: Curry, Michael. 2020. Oldowan Core, Koobi Fora. Museum of Stone Tools
حكمة المعلّم أم حكمة اليدين؟
توجد بالطبع احتمالات أخرى أيضًا. من المحتمل مثلًا أنّ التغيير الّذي حدث قبل 600 ألف سنة لم يكن مرتبطًا بالتعلّم، وإنّما بحكمة اليدين. يمتلك البشر تحكّمًا حركيًّا بأصابعهم أفضل بكثير من القرود البشريّة (القرود العليا الشبيهة بالإنسان)، ويبدو أنّ هذا التحكّم مطلوب لصناعة العديد من أدواتنا. من المحتمل أن تكون قدرتنا على العمل بمساعدة أيدينا قد تحسّنت قبل 600 ألف سنة، وهذا ما أدّى إلى القفزة في السُّلّم من ناحية تكنولوجيّة.
لدعم فرضيّتهم، بأنّ السبب الرئيس للقفزة التكنولوجيّة هو بداية الحضارة التراكميّة، أظهر الباحثون أنّ هناك المزيد من الأدلّة الأخرى على التقدّم الحضاريّ والتكنولوجيّ خلال تلك الفترة. الأدلّة الأكثر قِدَمًا على السيطرة على النار تعود إلى 600-800 ألف سنة مضت، وبقايا أقدم مبنى خشبيّ تعود إلى 476 ألف سنة مضت. في دراسة أُجريت سنة 2012، تتبّع الباحثون فيها أصول اللغة البشريّة، بواسطة تقييم الوتيرة الّتي تتغيّر فيها، وخلصوا إلى نتيجة أنّ اللّغة الأولى تمّ التحدّث بها قبل حوالي نصف مليون سنة. تلتقي إذن كلّ هذه الخطوط للأدلّة في نفس الفترة تقريبًا. يُعدّ الجزء المتعلّق باللّغة مهمًّا على وجه الخصوص: التعلّم من الآخرين ليس مهمًّا لتعلّم اللّغة فَحسب، بل إنّ اللّغة نفسها تتيح التعلّم والتدريب بطريقة أكثر كفاءة، وبالتالي يمكن أن تساهم بشكل كبير في تطوير الحضارة التراكميّة.
جوناثان بيج (Paige)، طالب دكتوراة في جامعة ولاية أريزونا والّذي قاد الدراسة، خلص في بيان للصحافة إلى أنّه "قبل حوالي 600 ألف سنة، بدأ السكّان البشريّون القدماء في الاعتماد على تكنولوجيا معقّدة على نحوٍ فريد. بالإضافة إلى ذلك، فإنّنا نرى زيادة سريعة في درجة التعقيد، ابتداءً من هذه الفترة فصاعدًا. والأمران كلاهما يتوافقان مع ما كنّا نتوقّعه لدى الأنواع البشريّة الّتي تعتمد على الحضارة التراكميّة".
مستوى جديد من التعقيد. أداة حجريّة منحوتة تعود إلى حوالي 600 ألف سنة مضت، تمّ اكتشافها في الجزائر، وتدلّ ربّما على حضارة تراكميّة | تصوير: Watt, Emma. 2020. Levallois Core, Algeria. Museum of Stone Tools
تطوّر مشترك للحضارة والجينات معًا
إنّ استخدام مصطلح "السكّان البشريّين القدماء" ليس استخدامًا من قبيل الصدفة، فنحن لا نتحدّث عن أفراد من نوعنا، أي الإنسان العاقل (هوموسابينس)، لأنّه لم يكن موجودًا بعد- والّذي ظهر بعد ذلك بحوالي ثلاثمائة ألف سنة. معنى الأمر أنّ أكثر ما يميّز نوعنا البشريّ، أي السّمة الّتي أتاحت وجود حضارتنا وثقافتنا، قد تطوّرت قبل ذلك لدى أسلافنا. في الـ 600 ألف سنة الماضية، قدرتنا على إنتاج حضارة تراكميّة لم تشكّل التكنولوجيا سريعة التطوّر لدينا فحسب، وإنّما أثّرت أيضًا في تطوّرنا بحدّ ذاته: من كانت لديهم السّمات الّتي سمحت لهم بالاستفادة من الحضارة التراكميّة على نحو أفضل من الآخرين، تمكّنوا من الاستمرار بالبقاء على قيد الحياة وإنتاج نسل أكثر. هذه السّمات، بحسب الباحثين، يمكن أن تكون على سبيل المثال: دماغًا أكبر، فترة طفولة أطول يتعلّم خلالها الأطفال من والديهم، الميل إلى تقليد تصرّفات الآخرين بدقّة، وغيرها الكثير.
يقول تشارلز بيرو (Perreault)، زميل بيج: "لقد تمكّن البشر من التكيّف وملاءمة أنفسهم مع مجموعة متنوّعة من الظروف البيئيّة- من الغابات الاستوائيّة وحتّى القطب الشماليّ- والّتي تشكّل تحدّيات مختلفة يجب التعامل معها"، ويضيف: "الحضارة التراكميّة هي المفتاح لذلك، لأنّها تسمح للمجتمعات بالبناء على حلول من أجيال سابقة والجمع بينها، وبالتالي تطوير حلول جديدة ومركّبة للمشاكل بسرعة". إذا كان بيرو وبيج صادقَين في فرضيتهما، فمعنى ذلك أنّ الأمر كلّه بدأ قبل حوالي ستمائة ألف سنة.