تمكّنَ علاج تجريبيّ ضدّ تلوّث شديد وغير قابل للعلاج تمّ إجراؤه باستخدام فيروسات مهاجمة للبكتيريا من القضاء على التلوّث بوقت قصير.
تمكّن فريق علماء بلجيكيّين من علاج تلوّث خطير ومهدّد للحياة تطوّر في ساق امرأة شابة، بعد فشل جميع العلاجات بالمضادّات الحيويّة الّتي تلقّتها لمدّة عامين تقريبًا.
في آذار عام 2016، أُصيبت امرأة بلجيكيّة تبلغ من العمر 30 عامًا بجروح خطيرة في تفجير انتحاريّ في مطار بروكسل. سبّب لها الانفجار أضرارًا جسيمة في عظم الفخذ. بالإضافة إلى ذلك، تطوّر لديها التهاب جرثوميّ ناجم عن الكَلِبْسية الرئويّة "Klebsiella pneumoniae" في ساقها. للتعامل مع التلوّث الّذي عرّض ساقها وحياتها للخطر؛ عالجها الأطبّاء لفترة عامَين تقريبًا بعدّة أنواع من المضادّات الحيويّة بجرعات عالية - لكنّ العلاج فشل لأنَّ البكتيريا كانت مقاومة لجميع الأدوية الّتي تلقّتها.
تسبّب العلاج المتواصل والمكثّف بالمضادّات الحيويّة إلى العديد من الآثار الجانبيّة الخطيرة الّتي أجبرت الأطبّاء على البحث عن حلٍّ آخر. كملاذ أخير، قرّروا دمج فيروسات مهاجمة للبكتيريا والّتي تُسمّى العاثيات (Bacteriophage) إلى جانب العلاج بالمضادّات الحيويّة. نُشر وصف الحالة في مجلّة Nature Communications.
البكتيريا المقاومة للعديد من العلاجات. بكتيريا الكَلِبْسية الرئويّة في الجهاز التنفسيّ | رسم توضيحيّ: Kateryna Kon, Shutterstock
مُبيد فعّال للجراثيم
العاثيات (Bacteriophage)، أو العاثية باختصار، هي فيروس يهاجم البكتيريا ويتكاثر بداخلها ثمّ ينفجر ويقضي عليها أثناء ذلك. يعني الاسم في اليونانيّة "آكل البكتيريا".
زاد الاهتمام بعلاج عدوى العاثيات في السنوات الأخيرة بسبب التهديد المتزايد للعدوى الناشئة عن البكتيريا المقاومة للمضادّات الحيويّة. أدّت عقود من استخدام المضادّات الحيويّة، والّتي كانت في بعض الأحيان مفرطة وحتّى غير ضروريّة، إلى تطوير سلالات بكتيريّة مقاومة لجميع، أو على الأقلّ لمعظم أنواع المضادّات الحيويّة التجاريّة المتاحة اليوم. يضع هذا الوضع المصابين أمام عدوّ بحيث تكون قدرتهم على مقاومته محدودة للغاية. في إسرائيل وحدها، يموت آلاف المرضى سنويًّا بسبب البكتيريا المقاومة، وتشير التقديرات إلى أنّه إذا لم يتمّ تطوير أدوية جديدة أو بدائل علاجيّة أخرى ضدّ هذه البكتيريا قريبًا، فإنَّ عدد الوفيات العالميّ سيرتفع إلى حوالي عشرة ملايين شخص سنويًّا بحلول عام 2050.
بدأ استخدام العاثيات في العلاج البشريّ منذ أكثر من قرنٍ، حتّى قبل بداية عصر المضادّات الحيويّة. اكتشاف البنسلين (Penicillin) عام 1928، والمضادّات الحيويّة الأخرى من بعده، حيّدَ إكمال الأبحاث في هذا المضمار، ويرجع ذلك أساسًا إلى أنّه كان من الأسهل والأوفر إنتاجه تجاريًّا، وذلك لأنّه على عكس العاثيات، فالبنسلين والمضادات الحيويّة قادرة على إصابة مجموعة واسعة من البكتيريا. ومع ذلك، في البلدان الّتي كانت فيها المضادّات الحيويّة أقلّ توفّرًا، مثل الاتحاد السوفيتيّ والدول الّتي تشكّلت بعد تفكيكه، استمرّوا في تطوير العلاج بالعاثيات، على سبيل المثال في معهد إليافا (Eliava) في تبليسي (عاصمة جورجيا)، بحيث أنّهم ادّعوا نجاحها في علاج البشر. هذه الادّعاءات كان مشكوكًا بصحّتها في الدول الغربيّة، وحتّى يومنا هذا، تُستخدم علاجات العاثيات بشكلٍ قليل جدًّا في الدول المتقدّمة. ومع ذلك، تمّ في هذه الأيام إنشاء مركز إسرائيليّ للعاثيات في القدس وعولِج بعض المرضى بهذه الطريقة في الجامعة العبريّة وفي مركز هداسا الطبّيّ.
الميزة البارزة لاستخدام العاثيات هي أنَّه يتمّ تكييف كلّ فيروس لمهاجمة سلالة معيّنة من البكتيريا ولا يوجد خطر في أن يهاجم خلايا الجسم أو البكتيريا الأخرى الموجودة في الجسم والّتي تساهم في أداء وظيفته بالشكل السليم. ميزة أخرى للعاثيات هي أنّها تنجح أيضًا في إصابة مستعمَرات بكتيريّة معقّدة تُسمّى الأغشية الحيويّة الرقيقة (Biofilm) - وهي هياكل تتكوّن من طبقات بكتيريّة مغطّاة بطبقة واقية، داخلها تتشكّل مجموعات سكانيّة فرعيّة من البكتيريا النائمة غير النشطة أيضًا. تواجه معظم أنواع المضادّات الحيويّة صعوبة في اختراق الطبقة الخارجيّة للغشاء الحيويّ الرقيق، وحتى عند اختراقها بالفعل فإنّها لا تقتل البكتيريا النائمة. بالمقابل، تستطيع العاثيات تفكيك هذه الهياكل وأيضًا إتلاف البكتيريا النائمة بداخلها.
بدأ استخدام العاثيات في العلاج البشريّ منذ عام 1919. رسم توضيحيّ للعاثيات تهاجم البكتيريا | المصدر: Nobeastsofierce / Science Photo Library
من عيّنة مياه صرف صحيّ إلى علاج بشريّ
في حالة المرأة البلجيكيّة، بعد قرابة عامين من المحاولات الفاشلة للتغلّب على التلوّث من خلال العلاجات بالمضادّات الحيويّة، يئسَ الأطبّاء وقرّروا تجربة العلاج بالعاثيات. لتحديد أنسب فيروس أرسلوا عيّنات من البكتيريا المقاومة إلى معهد إليافا. بحث المعهد في مجموعات العاثيات الخاصّة به ورصد عيّنة مياه صرف صحيّ تمّ جمعها في عام 2012 في تبليسي، عن عاثية تعرِف كيف تصيب وتقتل البكتيريا المقاومة الّتي أضرّت بالمريضة البلجيكيّة بشكلٍ فعّال.
لتحسين قدرة العاثية على قتل البكتيريا، دفعها الباحثون إلى المرور بعمليّة تطوّر في المختبر. بادروا إلى تنمية بكتيريا من العيّنة الأصليّة في المختبر على مدار 15 دورة، وعزلوا أكثر الفيروسات فعاليّة. عندما يدخل الفيروس إلى الخليّة ويتكاثر داخلها، تحدث أحيانًا أخطاء في عمليّة التضاعف الخاصّة به وتتراكم المزيد والمزيد من التغييرات في مادّتها الوراثيّة (طفرات) الّتي قد تؤثّر على وظيفتها وصفاتها.
يُطلَق على الفيروس الّذي تراكمت لديه مثل هذه التغييرات بشكل كافٍ اسم متغيّر جديد، وتتكاثر المتغيّرات الأكثر فاعليّة في إصابة البكتيريا والتهرّب من آليّات دفاعها، وتحلّ محلّ المتغيّرات الأقلّ نجاحًا. في نهاية العمليّة، من الممكن بالتالي عزل أنجح العاثيات. وُجِد أنَّ العاثيات الّتي ارتبطت بالبكتيريا، تكاثرت بداخلها وقتلتها في غضون دقائق. من كلّ بكتيريا، تسرّب ما يعادل 43 عاثية بدأت دورة جديدة من العدوى، وهكذا دواليك.
في نهاية هذا التحضير المركّب، تمّ الحصول على إذن لبدء العلاج التجريبيّ. قام الأطبّاء بإزالة الأنسجة الميتة من الجرح وزرعوا مكانها عظمًا تمّ نقعه بمضادّ حيويّ من النوع الّذي لم يتمّ تجربته حتّى ذلك الحين على المريض. قاموا أيضًا بإدخال قسطر في الجرح وحقنوا العاثيات من خلاله لمدّة ستّة أيام.
ميزة العاثيات هي أنّها تلائم كلّ فيروس لمهاجمة سلالات معيّنة من البكتيريا. نموذج لعاثية تهاجم البكتيريا الإشريكيّة القولونيّة (E.coli) | المصدر: Dr. Victor Padilla-Sanchez, Phd / Washington Metropolitan University / Science Photo Library
كانت النتائج سريعة: في غضون يومين من بدء العلاج، حدث تحسّن كبير، وبدأ الجرح في الجفاف وعاد الجلد إلى لونه الأصليّ. في نهاية ثلاثة أشهر اختفى التلوّث وتحسّنت حالة الجرح بشكلٍ مستمرّ. بالإضافة إلى ذلك، وليس أقلّ أهميّة، لم تظهر أيّة أعراض جانبيّة ضارّة مرتبطة بالعلاج بالعاثيات. بعد ثلاث سنوات، كانت المصابة تمشي بالفعل بمساعدة عكازات، بل وشاركت في أنشطة رياضيّة مثل ركوب الدراجات الهوائيّة.
تظهر الأبحاث أنَّ الدمج بين العاثيات والمضادّات الحيويّة يمكن أن يكون بمثابة بديل علاجيّ فعّال ضدّ البكتيريا المقاومة. على الرغم من أنّه بناءً على الدراسة من غير الممكن تحديد أيّ جزء من التحسّن في حالة المريض يمكن أن يُعزَى إلى العاثيات أو إلى المضادّ الحيويّ الجديد. ومع ذلك، فإنَّ حقيقة أنّه لا يوجد مضادّ حيويّ آخر تغلّب وحده على العدوى يشير إلى أنَّ العاثيات لعبت دورًا رئيسيًّا في الشفاء. من المحتمل أنّهم تمكّنوا من تحطيم بنية الأغشية الحيويّة الرقيقة الّتي تحمي البكتيريا؛ ممّا مكّن المضادّات الحيويّة من اختراق التلوّث والقضاء عليه بشكلٍ نهائيّ.
على الرغم من الإنجاز، فإنَّ العلاج بالعاثيات له العديد من السلبيّات. إنَّ الحاجة إلى تكييف العلاج مع البكتيريا المحدّدة لكلّ مريض والعمليّة المطوّلة والمعقّدة لإنتاج الدواء تجعل هذه الطريقة باهظة الثمن ومرهقة للغاية للاستخدام. مشكلة أخرى هي أنَّ البكتيريا يمكن أن تطوّر مقاومة للعاثيات بسرعة. أخيرًا، يتعرّف جهاز المناعة البشريّ أيضًا على العاثية كعامل غريب وينتج أجسامًا مضادّة ضدّها؛ ممّا يضعف فعاليّتها. لا تزال هناك حاجة لإجراء تجارب سريريّة خاضعة للرقابة على نطاقٍ واسع لإنشاء وتوسيع العلاج بالعاثيات في المستقبل.