واحدة من الصّعوبات الّتي تواجه فكرة السّكن في المريخ هي درجة الحرارة المنخفضة السّائدة هُناك. تقترح دراسة جديدة إلى حلّ المشكلة بمساعدة... ظاهرة الاحتباس الحراريّ
في كثير من الأحيان يقدّم علماء الكواكب قصّة "غولديلوكس والدّببة الثّلاثة"، كمثال على مدى ملاءَمة الأرض تمامًا لتكوين الحياة. في القصّة، تختار غولديلوكس دائمًا الخيار الأكثر راحةً لها: السّرير النّاعم الّذي يتناسب مع طول جسدها؛ الكرسيّ ليس خشنًا جدًّا ولا ناعمًا جدًّا؛ والعصيدة الّتي ليست ساخنة ولا باردة. وبالمثل، تقع الأرض على المسافة الصّحيحة تمامًا من الشّمس. فهي ليست بعيدة جدًّا مثل المريخ الجليديّ، وليس قريبًا جدًّا مثل الزهرة، حيث ترتفع درجة حرارة السّطح إلى حوالي 400 درجة مئويّة. حتّى درجة الحرارة على الأرض تسمح للماء بالوجود في الحالة السّائلة - وهي إحدى الشّروط الأساسيّة للحياة.
إنّ حقيقة أنّ الكواكب المجاورة للأرض غير صالحة للحياة، لا تمنع الخيال البشريّ من الإبحار، ورسم مدن وحَضارات بأكملها على سطحها. بل على العكس من ذلك، فإنّ التّحدّي الكامن في محاولة تكييفها مع الحياة، يغذّي خيال الباحثين والكتاب. الكوكب الّذي يجذب أكبر قدر من الاهتمام هو المريخ - الكوكب الأحمر. ويُعتبر المريخ المرشّح الأبرز لصلاحيّة الحياة، بسبب قربه النّسبيّ من الأرض وخصائصه المشابهة لخصائص عالمنا. مع ذلك، فهو لا يزال بعيدًا عن أن يكون كاملًا: فهو كوكب متجمّد، ومتوسّط درجة حرارته 62 درجة تحت الصّفر، وذو غلاف جوّيّ رقيق للغاية. على الرّغم من أنّ الدّراسات قد أظهرت أنّه في الماضي البعيد، منذ حوالي 600 ألف عام، ربّما كان الماء يتدفّق على سطح المرّيخ، إلّا أنّ السّائل الثّمين اليوم لا يوجد إلّا في الأقطاب المتجمّدة، أو مختبئًا تحت السّطح.
في الماضي البعيد، ربّما كان الماء يتدفّق على سطح المرّيخ، ولكن اليوم هذا السائل الثمين غير موجود إلّا في الأقطاب المتجمّدة، أو مختبئًا تحت السّطح. الجليد في القطب الشّماليّ للمرّيخ | NASA/JPL-Caltech/MSSS
تسخين اصطناعيّ
على الرّغم من كلّ هذا، ووفقًا لدراسة جديدة نشرت في مجلة Science Advances، فإنّ الآليّة نفسها الّتي تعمل على تسخين الأرض ــ تأثير الاحتباس الحراريّ ــ قد تعمل على تسخين المرّيخ بما يجعله صالحًا لسكن البشر. يحتوي المرّيخ على كمّيّات هائلة من حبيبات الغبار الّتي تشكّلت نتيجةً لتآكل المعادن الغنيّة بالحديد. وتكون حبيبات الغبار هذه كرويّة الشّكل، بنصف قطر يبلغ نحو 1.5 ميكرون (مليون جزء من المتر)، ويتسبّب تركيبها في تشتّت أشعّة الشّمس بالتّساوي في جميع الاتّجاهات. ويعني التّوزيع المنتظم أنّه عندما ترتفع إلى ارتفاعات أعلى، فإنّها تعمل كدرع يساعد في تبريد المرّيخ، بدلًا من أن تكون بمثابة بطّانيّة تسمح للشّمس بتسخين السّطح.
بحسب الدّراسة الجديدة، من الممكن هندسة جزيئات الغبار المحلّيّة هذه، بحيث يشجّع شكلها امتصاص حرارة الشّمس، دون الحاجة إلى "استيراد" جزيئات غبار خاصّة من الأرض للقيام بذلك.
ولتحقيق هذه الغاية، طوّر الباحثون طريقةً لإنشاء جزيئات من تلك المعادن المحلّيّة ذات شكل قضيبيّ وليس كرويًّا، أكبر بمرّتين من حبيبات الغبار على المريخ وأصغر قليلًا وأكثر لمعانًا. وقد فعلوا ذلك بواسطة محاكاة أخذت في الاعتبار رياح الغلاف الجوّيّ للمرّيخ، تضاريس المرّيخ وعوامل أخرى.
تناولت الدراسة تأثير الجسيمات على احتواء الإشعاع. ولإجراء الحسابات، اُستخدِم برنامج محاكاة متقدّم يُسمّى MarsWRF، والّذي يُحاكي الظّروف الجوّيّة للمرّيخ. وكانت النّتائج مثيرةً للإعجاب: إذ تمكّنت الجزيئات من امتصاص أشعّة الشّمس بكفاءة عالية ورفع درجات الحرارة على المريخ، بنحو 10 درجات مئويّة في غضون بضعة أشهر. ورغم أنّ الكمّيّة المطلوبة - مليوني طن من غبار الرماد - كبيرة، فإنّ حقيقة أنّ هذه المواد موجودة على المريخ تجعل الفكرة أكثر عمليّةً.
في عمليّات المحاكاة، تمكّنت الجسيمات من امتصاص أشعّة الشّمس بكفاءَة عالية ورفع درجات الحرارة على المرّيخ بنحو 10 درجات مئويّة في غضون بضعة أشهر. رسم توضيحيّ للطّريقة | Aaron M. Geller, Northwestern, Center for Interdisciplinary Exploration and Research in Astrophysics + IT-RCDS
مع ذلك، من الصعب أن نصدّق أنّنا سنرى هندسة عالميّة لكوكب المرّيخ في المستقبل المنظور، لأنّ تغيير الظّروف البيئيّة بشكل صناعيّ على مثل هذا النّطاق الواسع، هو عمليّة معقّدة وخطيرة للغاية. وحتّى لو تمكّن العلماء من التّغلّب على العقبات المباشرة، فإنّ المرّيخ يفرض تحدّيات إضافية كبيرة تتعدى درجة الحرارة. ومن بين أمور أخرى، فإنّ كمّيّة الأكسجين في الغلاف الجوّيّ صغيرة جدًّا مقارنةً بالأرض، والضّغط هناك أقلّ بنحو 160 مرّة. مع انخفاض ضغط الهواء، تنخفض نقطة غليان السّوائل، بما في ذلك سوائل الجسم. لذلك فإنّ التّعرّض للضّغط الجوّيّ المنخفض بدون بدلات الفضاء، قد يتسبّب في حدوث تأثيرات فسيولوجيّة خطيرة، مثل غليان الدم.
علاوةً على ذلك، فإنّ كمّيّة الأشعة فوق البنفسجيّة على المرّيخ مرتفعة بشكل خاصّ، بسبب عدم وجود طبقة الأوزون، وقد تكون مميتة. وأخيرًا، أثار الباحثون احتمالَ أن تكون التّربة على المرّيخ مالحة أو سامة، مما يضيف تحديًا آخر للطريق إلى زراعة المحاصيل الزراعية على الكوكب المجاور.
وهكذا، فبعيدًا عن رؤية ارتفاع درجة حرارة المرّيخ، توضّح الدّراسة مبدأ أوسع: من خلال الفهم العميق للعمليّات الّتي تحدث على الأرض، مثل الآليّات الّتي تخلق ظاهرة الاحتباس الحراريّ، يُمكِن تطوير خطوط فكريّة جديدة لتطبيقها على كواكب أخرى.