كان الاعتقادُ السّائد لسنواتٍ عديدة أنّ الطفرات الّتي لا تسبّب تغيّرًا في مبنى البروتين حياديّة وعديمة التّأثير. أظهرت دراسة حديثة أنّ غالبيّة هذه الطّفرات في الواقع ضارّة كثيرًا.
مادّتنا الوراثيّة، الـDNA، مثالٌ لكتابِ تعليماتٍ لتركيبة الجسم، كتابٍ مكوّنٍ من نصّ طويل يحوي أربعة حروف، على هيئة جزيئات قواعد نيتروجينيّة تُدعَى السيتوزين (C)، والثيمين (T)، والأدنين (A) والجوانين (G). وكلّ كلمة مبنيّة من ثلاثة حروف تُسمّى "شِفرَة"، وتسلسل بعض الشِّفرات يُكوّن جملة كاملة، تُسمّى جينًا.
الجين عمليًّا هو عبارة عن سلسلة تعليمات تُرشد الخليّة لبناء بروتين معيّن. والبروتينات، ضمن وظائفها، هي الّتي تبني جميع الخلايا والأعضاء في الجسم، وتقوم بجميع النّشاطات اللّازمة ليقوم الكائن الحيّ بأداء وظائفه.
لإنتاج بروتين من سلسلة قواعد في الـ DNA؛ تُجرَى عمليّة داخل الخليّة، تُستبدَل فيها كلّ شِفرَة في الجين بجزيء يُسمَّى الحامض الأمينيّ. وعندما ترتبط هذه الحوامض الأمينيّة ببعضها بالتّرتيب الصّحيح، نحصل على بروتين طبيعيّ وعمليّ.
لدى غالبيّة الكائنات الحيّة 64 شِفرَة مختلفة. ونظرًا لوجود 20 حمض أمينيّ فقط، وعدد الشِّفرات الممكنة أكبر بكثير؛ فهناك في الواقع تركيبات مختلفة من الشِّفرات تُنتِج نفس الحامض الأمينيّ، يُمكن تسميتها "تركيبات مترادفة"؛ لأنّها لا تغيّر تسلسل البروتين، على غرار الكلمات المترادفة الّتي لا تغيّر معنى الجملة كلّها.
يحوي الجين سلسلة تعليمات تُرشد الخليّة من أيّ حوامض أمينيّة عليها أن تبني البروتين. مقطع لـ DNA مع طفرة | Phonlamai Photo, Shutterstock
أخطاء في النّسخ (نسخ المادّة الوراثيّة)
تحدث بعض أخطاء الكتابة لحرف واحد في الشِّفرَة الجينيّة أثناء عمليّة نسخ المادّة الوراثيّة، أي، يتمّ استبدال قاعدة (حرف) بالخطأ بقاعدة أخرى. يُدعى هذا الخطأ "الطّفرة"، وقد تكون لها عواقب وخيمة تؤثّر في مبنى البروتين المُنتَج وفي أداء وظائفه. لكن، إذا قامت الطّفرة بتغيير الشِّفرَة الجينيّة الأصليّة بشِفرَة مرادفة لها، تُنتِج نفس الحامض الأمينيّ، فلن يكون لذلك أيّ تأثير في تسلسل البروتين المُنتج.
من ربع إلى ثلث الطّفرات الموجودة في الجينات الّتي تحوي تعليماتِ بناء البروتينات هي طفرات مترادفة، تُسمَّى أيضًا الطّفرات الحياديّة أو الطّفرات الصامتة. تمّ اشتقاق هذا الاسم استنادًا إلى الاعتقاد السائد أنّ الطفرة إذا لم تُحدِث تغيّرًا على تسلسل البروتين فإنّها لن تؤثّر في أداء وظيفته، أو على الأقلّ سيكون تأثيرها هامشيًّا جدًّا.
لكن، بمرور السّنين، تراكمت دلائل أكثر إقناعًا أنّ هذه الفرضيّة خاطئة أحيانًا. فقد بيّنت الأبحاث أنّ الطفرات الصّامتة تكون أحيانًا غير حياديّة للغاية، ولها تأثير في عمليّات كثيرة مرتبطة بمراحل إنتاج البروتينات وطيّها في الفراغ. على الرّغم ذلك، فإنّ المفهوم السائد كان وما زال قائمًا، بأنّ الغالبيّة الساحقة لهذه الطفرات لا تضرّ ولا يوجد لها تأثير هامّ في أداء الوظيفة.
طفرة صامتة لا تسبّب تغيّرًا في تسلسل البروتين، لكن يتّضح أحيانًا أنّها تؤثّر في أداء وظيفة البروتين. أنواع من الطّفرات | المصدر: Bass stock, Shutterstock
أضرار "صامتة"
أثار باحثون من جامعة ميشيغان هذه القضيّة للبحث في دراسة نُشِرت في مجلّة Nature. حيث قاموا لهذا الغرض بتصميم أكثر من 8000 نوع من الخميرة تحمل كلٌّ منها طفرة مختلفة في أحد الجينات الـ 21. بعض الطفرات كانت صامتة، وبعضها الآخر أنتج حمضًا أمينيًّا مختلفًا تمامًا في البروتين الّذي يُنتِجه الجين. ثمّ قاموا بقياس مدى ملاءَمة كلّ سلالة متحوّلة لبيئتها ووتيرة تكاثرها، مقارنةً بالنّوع الأصليّ فاقد الطّفرة.
الأمرُ المُثير للدّهشة، أنّه تبيّن أنّ ما يقارب ثلاثة أرباع (75.9%) الطّفرات الصّامتة أدّت إلى أضرار جسيمة، ألحقت ضررًا بقدرة حفاظ الخميرة على البقاء، مقارنةً بـ 1.3% من الطّفرات الّتي أسهمت في الحفاظ على بقائها. والباقي، أقلّ من الرّبع، كانت حياديّة حقًّا، أقلّ بكثير من التّقديرات الّتي كانت مقبولة حتّى الآن. وتعليقًا على ذلك، ذكر كاتبو المقال: "اندهشنا من كمّيّة الطّفرات الصّامتة الّتي تسبّب الضرر".
واصل الباحثون دراسة الآليّات الّتي من خلالها تؤثّر الطفرات في قدرة الخميرة على التكيّف. وعلى الرّغم من أنّ الطفرات الصامتة لا تغيّر مبنى البروتينات، فقد وجد الباحثون أنّها قد تؤثّر في كمّيّة البروتينات الّتي يُنتِجها الجين في الخليّة، على غرار ما تقوم به بعض الطفرات الطبيعيّة.
على الرّغم من عدم وجود سبب لافتراض اقتصار هذه النتائج على الخميرة فقط، هناك حاجة لبحث آخر للتحقّق من صحّتها على كائنات حيّة أخرى.
تلفت الدّراسة الحاليّة الانتباه للطّفرات الصّامتة، وتؤكّد أنّ لها تأثيرًا ملموسًا في أداء وظائف الكائنات الحيّة. لهذه النّتائج أهمّيّة عظيمة في فهم الدور الّذي تلعبه هذه الطّفرات في الأمراض الوراثيّة. تركّزت الأبحاث في هذه الأمراض حتّى الآن على الطّفرات الطبيعيّة، الّتي تُغيّر مبنى البروتين، وتجاهلت التّغيّرات الأخرى الّتي اعتُبِرت غير هامّة. يحثُّ الباحثون اليوم العلماءَ على بذل المزيد من الجهود لتحديد الطّفرات الصّامتة، وفكّ الأضرار والعواقب الّتي قد تُلحِقها.